المقالة

حُب الطفولة المتأخرة

لفتت نظري عندما دخلت. كانت تتصرف بثقة ضامة كتبها إلى صدرها. كانت قصيرة وأميل إلى البدانة. وكان وجهها وضاء. أجالت نظرها في الفصل باحثة عن مقعد شاغر. دلها المدرس إلى مكان. كنا في السنة الخامسة ابتدائي وكانت هي في الصف الرابع. لكن قررت إدارة المدرسة نقلها إلى السنة الخامسة بسبب تفوقها الواضح.

كنت أنا حديث الانتقال من مدرسة أخرى إلى هذه المدرسة وكنت متفوقا (تفوقا واضحا أيضا). وقد قال لي المدرس، بعد فترة، أنه فكر في نقلي إلى الصف السادس إلا أنهم قطعوا شوطا في المنهج وقد لا أوفق في ملاحقتهم. وكان الصف السادس وقتها يصور لنا على أنه في غاية الصعوبة. لذا لم أتشجع على المطالبة بنقلي.

أشار المدرس إلى مكان شاغر، ورائي مباشرة حسب ما أذكر، فجاءت وجلست.

كان هذا سنة 1965، وكانت المدرسة مختلطة لأنه لم تكن توجد مدرسة بنات في المنطقة، وهي منطقة ريفية. فلم تمانع العديد من الأسر في أن تدرس بناتها مع الأولاد.

بعد أيام أعطتني ورقة مكتوبا فيها اسمها واسم أبيها وأفراد عائلتها. اعتبرتها أنا تعبيرا عن اهتمامها بي وتبليغا ضمنيا بالحب. لكن آثرتُ الرد عليها بنفس طريقتها. فكتبت لها قائمة فيها اسمي وأسماء أفراد عائلتي وأعمامي وأبنائهم وبناتهم وعماتي، إلخ… ما لا يقل عن عشرين اسما، وكان يمكن للقائمة أن تطول أكثر.

لست أدري كيف تقبلت الأمر. هل ضحكت على سذاجتي، أم اعتبرتها فيضَ حبٍ وفرحت بها.

ذات مرة في الفصل سألتني بصوت مسموع لمن حولنا (لم يكن المدرس موجودا(

– قريت كتاب “الإيضاح في علم النكاح” يا عمر؟.

فاجأني السؤال. أجبت بالنفي. لم أسمع باسم الكتاب إلا منها. أُخذت بتلقائيتها. تسألني عما إذا كنت قد قرأت كتابا كهذا، وعلى مسمع من آخرين، كما لو كانت تسأل عن كتاب في التاريخ أو الجغرافيا.

كان لديَّ كتيب صغير يحتوي أغاني فهد بلان (لأن إحدى أغانيه على اسمها) فأعطيته لها معتبرا ذلك رسالة حب مني (لا أتحمل مسؤوليتها لو صدتني أو اشتكتني). أخذت مني الكتاب. لكن المدرس انتبه فأخذ الكتاب وأعاده إليَّ مشددا على عدم إحضاره مرة أخرى.

لكنني أحضرته مرة أخرى، وأعطيته لها في الاستراحة، إلا أنه انتبه هذه المرة أيضا فأخذه ومزقه.

مع نهاية السنة السادسة عرض علينا المدرس نفسه (وكان أستاذ لغة عربية ودين) أن يعطينا (تطوعا) دروس تقوية للفصل فترة العشية. فكنت أذهب مبكرا وأترصدها وهي تخرج من بيتها كي نقطع المسافة القصيرة معا. وفي الفصل نجلس بجانب بعضنا. ونعود معا. ذات مرة أخذت يدي ورسمت في كفي قلب حب وكان “العُزال” متحلقين حولنا ينظرون.

آخر يوم في امتحانات الشهادة الابتدائية كنا متجمعين في الساحة، بمن في ذلك المدرس، ووقفنا أنا وهي نتحدث. كنت أطول منها قليلا، فأمسكت كفيَّ بكفيها في لطف وحرارة ناظرة في عينيَّ بمشاعر الأسى ولوعة الفراق.

كان ذلك آخر لقاء.

إذ كانت المدرسة ابتدائية فقط. ذهبت أنا إلى مدرسة إعدادية قريبة من سكني ودخلت هي معهد المعلمات.

أرسلت إليَّ مرة أو مرتين سلاما مع جار لها.

ثم انقطعت أخبارها.

_________________

نشر بموقع 218.

مقالات ذات علاقة

غابت سنة أخرى

عمر أبوالقاسم الككلي

نداءات الشعب الليبي لم تكن مفتعله!

رمزي حليم مفراكس

مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا (عراقة وأصالة)

المشرف العام

اترك تعليق