المقالة

فنانون ومؤسسة

لم تلق الصورة تألقا وانتشارا مثلما تلقاه الان. تطورت تقنيات أجهزتها وانتشرت حتى أصبح بإمكان طفل صغير لديه حس فنى بسيط إلتقاط أجمل الصور بكاميرا صغيرة جدا، واذا ما قسنا هذا التطور على آلات التصوير التلفزيونى والسينمائى سنتفاجأ بما وصلت اليه تقنياتها من تطور لدرجة مكنت هذه التقنية العالية مواطن من الأرغواى الأسبوع الماضى اسمه فيدريكوالفاريز من صناعة فيلم قصير فاجأ صناع السينما العالمية قام بعرضه على الموقع الشهير اليوتيوب. اسم الفيلم “Panic Attack” كلفه 300 دولار فقط لا غير وعامين ونصف من العمل. هذا الرقم فى انتاج فيلم سنيمائى يعتبر سابقة فى تاريخ انتاج الأفلام السنيمائية، مما دعى المنتج والمخرج الشهير سام رانيي مخرج أفلام “سبايدر مان” و “أيفل ديد” الى شراء حقوق هذا الفيلم من فيدريكو بمبلغ وقدره 30 مليون دولار. أى انه يمكن لنا القول على ضوء ما سبق ان هذه الآلات لو أجيد استخدامها يمكنها ان تقدم دون جهد انسانى ضخم مشاهد مبتكرة وصياغة اخراجية متطورة مبهرة فنيا. فهى دون مبالغة تكاد تعمل وحدها.

الغريب فى كنف هذا التطور الهائل الذى من شأنه احداث زخم اخراجى، أن هناك أعمال فنية ليبية مرت علينا نحن أعضاء لجنة تقييم اعمال فنية انتجتها مؤسسة الثقافة العامة منحت فيها الفرصة لعدد كبير من الفنانين والتى على ما يبدو تم التعامل معها على اساس انها فرصة للارتزاق أكثر منها فرصة لتقديم اعمال فنية لها قيمتها، فكانت النتيجة استسهلال مريع شمل أغلب الأعمال لا يليق بمن قدمه، ولا بمن أنتجه.

فى البداية وجدت اللجنة نفسها فى موقف حرج، فهذه الأعمال تحوى فى جعبتها اسماء فنية لها باع طويل أثرى مسيرة الفن الليبي بجميل أعمال والتعامل معها يستحق وضعه فى اعتبارنا، كما بها اسماء أخرى مستجدة ومخضرمة يتراوح مستواها. كان الخيار صعبا بالنسبة لنا، فأما أن ننحاز للفنان الليبي ونتعامل مع هذه الأعمال على انها مصدر رزق يقدم له كهدية بغض النظر عن مستوى ما قدم، واما أن ننحاز للفن الليبي، وما بين العام والخاص، كان فرنا وكرنا طويلا الى أن حسمنا أمرنا وقررت ضمائرنا ان يكون للفن الليبى انحيازنا.

بدأت تقارير اللجنة تصل لأصحاب هذه الأعمال، وبدأت مع وصولها المشاكل؛ موبايلات اعضاء اللجنة لا تتوقف، وهى توصى بأعمال هذا الفنان أو ذاك من الأصدقاء والمعارف، وحتى المسئولين، وأغلب الفنانين فى حالة غضب من نتيجة تقييمنا، ويعلم الله اننا كنا متساهلين، ولكن ليس الى الحد الذى نقبل فيه بأعمال لا تملك الحد الأدنى من التأهيل.

فى عصر الصورة لا يمكن لنا ان نقبل بطريقة تصوير سبعينيات العصر الماضى، فالصورة الان أصبحت ركنا اساسيا فى تقييم اى عمل غنائى مرئى، وطريقة اخراجها الليبية المعتادة فى وضع خلفية من صور ارشيف الإذاعة المرئية وأمامها المطرب عفى عليها الزمن، ولم تعد مقبولة. صدقونى تشابهت اللقطات المختارة من الأرشيف لأغلب الأعمال التى قدمت للجنة، إلى حد يثير الدهشة وكأنها عمل واحد، وكانت الأعمال التى بها جهد شخصى وواضح للمخرج أقل من أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك قبلنا، متى وجدنا ان الكلمات واللحن يغطيان ضعف الإخراج الذى للأسف لحق جميع الأعمال تقريبا.

نأتي لألحان الأغاني والتى يطالب أصحابها لإنجازها ثلاثين ألف دينار! تصوروا أن أغنية وقتها مثلا خمس دقائق، وبها جملة لحنية واحدة تتكررمن أول العمل حتى آخره، ومع ذلك قبلنا متى وجدنا الكلام يتميز وكذلك الأداء. ناهيك عن من قدم لنا باعتقاده أوبريت، والأوبريت منه براء. ومن قدم لنا فواصل موسيقية، وفى تعريفه لها أطلق عليها قطع موسيقية.

لن اتحدث عن مستوى كلمات الأغانى والأوبريتات فى أغلب ما عرض علينا، ولن اتحدث عن فنانين كبار صدمنا سيرهم فى درب كيفما أتفق، فالمحصلة حزينة الى حد انها تستحق وقفة جادة.

السؤال: ماذا لو اكتفت المؤسسة العامة للثقافة بثقتها فى من وقعت معهم عقودا، وتمت اذاعة هذه الأعمال دون عرضها على لجنة إجازة؟ فى هذا الزمن بالذات وفى هذا الخضم الهائل من سيل الأعمال الفنية الذى ينهمر من كل وسائل الإتصال، والذى انضج تراكمه وجودته ذائقة مواطننا الليبي، وطورها الى الحد الذى لا تقبل معه الإستماع ورؤية أعمال فنية لا تحوى الحد الأدنى من الإحترام له، لذا فهو متى شاهد ما نشاهد على محطاتنا الليبية، فبزر واحد سيغيرالقناة، وفى اعماق نفسه أترك لكم ان تتخيلوا ماذا سيقول!

تصوروا أن وصلت الإستهانة ببعضهم انه صور عزفا له على آلة موسيقية بكاميرا فيديو عادية، وياليت كان التصوير واضحا، بل رديئا إلى حد اننا تساءلنا: أيعقل ان يصل حال الفنانين الى هذا المنزلق؟ أيعقل ان ينسى هذا الفنان أن عقده موقع مع مؤسسة ثقافة، الأمر الذى يستحق فيما نظن جهدا أكبر قياسا، كأضعف الإيمان بما طلب فى مقابله من ثمن؟

بكل موضوعية يمكننى القول ان ما تنتجه وتذيعه اذاعاتنا ومحطاتنا أيضا لا يختلف فى مستواه عن ما عرض علينا من أعمال، وأستغرب كيف يمكن لها أن تساهم فى استمرار ذلك دون ان تشرع فى تنفيذ خطة تعمل على حث فنانينا لبذل جهد يليق بمواطنها الذى مازال الى الان يقتات على مجد الأغنية الليبية القديمة.

جهد المؤسسة العامة للثقافة وحده لا يكفى، فإنتاجها للأعمال الفنية يظل قليلا قياسا بما تنتجه الهيئة العامة لإذاعات الجماهيرية، وما أقدمت عليه المؤسسة قد يغضب بعض الفنانين الذين تعودوا سنينا طويلة إنجاز أعمال فنية كيفما أتفق، ولكن سيسجل لها التاريخ الفنى انها حاولت ان تقدم حلا عمليا للخروج من نفق هذا الإستسهال المريع. فعندما بدأت تقارير اللجنة فى الوصول للفنانين، سحب عدد منهم أعماله للتعديل.

ربما لو تكاتفت جهود المؤسسة العامة للثقافة والهيئة العامة لإذاعات الجماهيرية فى وضع ذات المعايير، سيحظى مواطننا الليبي مستقبلا بأعمال فنية تصل فى مستواها الى اعمال غنائية قديمة، فأغانى مثل “بلد الطيوب” و “ليبيا أرض الزهر والحنة”، ما زالت نرددها بشغف، ولم يزدها مرور السنين لجودنها إلا حضورا فى غياب جديد يليق، ويمكن له أن يضاهى.

07.01.2010

مقالات ذات علاقة

رومنطيقيو المشرق العربي

المشرف العام

ميول ديستويفسكيّة

ميسون صالح

في ذمّ النبأ.. في مديح النبوءة!

إبراهيم الكوني

اترك تعليق