من أعمال التشكيلي يوسف معتوق
شعر

أدري أني في الشارع

(1)

قد يُحكى عن مطر الله ويُحكى عن وَلَهِ الإنسان ويُرجى الخير

وتصنع للماء شبائهُ

تبدو الأوراق خدوداً لشجون

وأحدق مثلك حتى تنشق مرايا للروحْ ..

وأغَسِل صدري

وأجدد أسماء الأعضاء المبتلة .. من جسمي

وأصور ذاتي

كنفاذ أشعة سينَ

وألحظ أضلاعي ترقص في الظل

وعرش الماء الموثوق المجد يؤثَل

في لحنٍ عبقيِ الهطلِ

يتبدى فحوى من قَطرٍ

بصفاءٍ مغتسِلٍ بصفاءٍ

يتدافع من رفرفة الماء

كعاصفة الأجنح ..

رتلاً موصولاً في رتلِ

هذا بيت محفوفٌ بدفوق الرقةِ

من ماءٍ مسنون الحدِ

تتبدى من زاويةٍ فيه

ملامحُ دندنةٍ للشمس

تُجلجَل في إيقاع شعاعْ

يتزيا بالضوء الخضِلِ

سيؤلف في ورق اليوم العابرِ أغنيةً :

(هل صُعق الجو بلا سبب ! )

**

هات املأ كاساً في عيني

كي أُفعم من جود الوصلِ

هات املأ كأساً في سمعي

كي ترقص بي روحُ الجَذّلِ

**

فيما يتأنق رحب الأفق سماءً داويةً .. عليا شفافه .. لا يفصلها عن هجس الرامق أن يعلو حتى ينفذ نحو الأبعد .. أو يدفع فيها سبابته كي تغرق في دنيا اللاحد .. إلا مجد سموٍ أقصى .. إلا فرط سمو البعد

*

في أدنى هذي الزرقة، أعلى السبابة والرأس .. تجوب الريح وتصحبها سحبٌ وتصير وجوداً آخر حتى يكتظ الأفق بلون يطفو في دنيا من مد

*

ما إن يكتمل النسج الأمكن

فيما يتجسد موجَ بخار وينيخُ عباءة غابته العليا .. في بسطة ريش أبيض .. أبيضْ .. يتراكم حتى يغدو أبيض ملتحفاً أبيض .. طفواً ممتداً لنفوس ذاهلةٍ في خفق وشاحٍ من وجدٍ شبحيٍ مطروحٍ في غيم الإبصار

فيما تنشرع الأجفانُ وتمسحه وتطيح به أشواق توسدها .. لا تدرك منه الأبعد والأقرب، والأيسر والأيمنْ

كان الحلمُ الغيمي المتناسج في الأعلى منذوراً في هذا الوقت لغول الصوت الهاجم والمقدوح الزندين

يصول وراء تخلل ومضٍ صوب الأرض ويطرح في السمع الجمعي المنصت معنى

لم يعرف غير دوائر أن يوجد .. أن يرحل في الأفق الممتد، وينزل في الأفق الأدنى

*

هطل الماء .. المطر الخالد

هطل المطر الأزليُ

المطر المنقوش بذاكرة العشب الأكبر من حبات التربة والأصغر من شبر

المطر الكان يبللني

وأنا طفل

مطرٌ أقدم من كل الأزيار

ومن كل نواعير الدنيا

من أحواض الحماماتْ

وشفاه العطشى

من كفي

*

مطرٌ كان أنيس الأرضِ .. عذبَ الألفةِ هزِجَ الفيضِ

*

خضت خيلُ المطرِ الدنيا

جاشت باحاتُ الأفق بماء

*

نطقتْ فكرُ الماء بوجدان الغيم الشفاف .. فذاب

وحَسَسَ نسج الأرضِ .. هواءَ الكونِ

جباهَ الناس المعترضين الأفق العاريَ

رَفَهَ البللِ

*

يا مطر الدنيا .. يا قطْراًَ فيما بين القطر يُخلِل مسراه على الأكتاف ويستل الطرق الشتى لثياب الأجسام المرتعشه

يا ماءً يتحفني .. ويزكي أشواقي

يا مفرج غيب ثغور الزهر المذخورة في طي الحلم .. ويا خافض دهَشات الأهداب على الأعينِ

يا ساقيَ زاويتي شفتين انغلقتْ

لكنْ درجت فيها قطراتٌ سيدةٌ .. هي محض جسومٍ طيبةٍ .. مائعةِ الملمس

يا روح الشرخ الشفاف على الستر الأعلى .. يا ماءُ

*

يا غيثَ الليل الهاطلِ مدرارا

في الشارع أطيافٌ تمرحْ

خلعَ الشوقُ البيت وطارا

حيث الماء الغامر يصدح

*

والكون الحقلُ .. الكونُ المرقص .. والكون المشربُ والحانْ

يرقص ثوبٌ مغسولاً .. حتى يوشك أن يسقط في أي مكان

ويكلمُ عزفُ الريح جدارا

يحتك بملمسه الحاسر : أهلاً .. أهلا

جُدرٌ نعِمتْ بسيولٍ تغسل جبهات

وفضاء يقطر ألحانا

تتلامس في ملقى جلل

تتخاصر في عنف عجلا

والسمع الملقى للخارج طفلٌ

يأتي .. يدفع كرة الإنباء طليلاً .. بلَلا

*

ناياتٌ تلتاع بنفخٍ صخِبٍ .. ومديد

*

روح الزرقة حلت في طينٍ واهٍ

قلباً مشحوناًً ووريداً يسعى لوريد

وصليلُ الوحشةِ يبسط مائدةً وينادي

*

خَفضَ الطيرُ الأرؤس

ذعرت فئران

وتغلف عمر الصرصار بغيب الشقِ

ودارت ألويةُ الأنفس

في ضحكة وجدٍ غرِدِ

وكما يصحو ورقٌ غضَ الخضرةِ في شجرٍ نبستْ : مرحى .. بلدي

*

فُتِحَتْ بواباتُ السمع وأُحني رأسُ الكون الهائلِ

فانحدر القصف المائيُ الأقسى من ريش الهجس

انتبهتْ كواتُ التلويح الصامت من حوزات الأحداق

اصطرعتْ بالثقل الهابط حتى بارحها الوجلُ

انغرست في الفيض المائي بأغصان التحديق ورفتْ ثم اختلطت بالملمس مائياً .. ورقيقاً كجلود الأطفال .. وشفافَ الهمسْ

*

دج .. دج

أُفُقٌ ضجْ

غيماً عج

*

اصطلت الأقواس على أوتار كمنجات المرحِ

اختلجتْ قاعات الأرواح الدافئةُ .. انسربت فيها أنغامُ صقيعٍ

بسيوفٍ لاذعة الومضِ

ارتعشتْ أستار البصرِ الحسنِ .. انشرعت وانغلقتْ وابتسمتْ فيما

انسدلَ الصمتُ حِذارَ تذبذب لهب الأفراح القلقه

أما الترحابُ .. الترحاب وسيعٌ ووثيرٌ للماء الجائرْ

يتخرمُ كومات هواء بخيوط فائقة الرقه

حثاً يكسر قيظ العطشِ

احتملتْ أكتاف خواطرِ أيامٍ ناشفةٍ من طيب تشربها سخو الرقرقة البراقه

” مرحى ” – تهتف أكتاف خواطرِ أيامٍ ناشفةٍ – ” مرحى يا جود سماءٍ لا تفنى ريحاً وغيوماً ونجوماً وقلوباً ترجف من شوقٍ وسهوباً زرقاءَ رماديه

*

مرحى يا أهلاً بالسقف المائيْ

نعدو ونلمُ قطوف الإرواءِ

*

غنت نافذةُ البيت : الأفق ابتلا

أهلاً بالمطر الزائرِ أنى حَلا

(2)

ما عمق الخاطر ؟ حين ألامسُ خوضَ شتاء ؟

من يرمق هذا الطقس الغائم ؟

عيناي ؟

وكيف أفرق ماءً من ماء !

*

وغل الماءُ وصار الكون قتيماً وضبابيَ الوزنِ .. وفتشت أنا عن كفي

ومددت يدي .. غابت كفي

وسحبتُ يدي .. ظهرتْ

سحرتني اللعبه

*

أغرقتُ يدي في ثُقل الماء القاتم والسابح

غابت

من يدري أين يدي

ما شكل يدي .. كم ضمت .. كم طالت

غابت في كتل الغيم ودثرها ثُقلٌ مائيٌ

من يرمقني .. لن يبصر غيري في قُرب

مِن غير يدي المدفونةِ في الماء الغائم

في أفق سيالٍ باردْ

*

طال الثقلُ الغيميُ .. اندفعت كومات البَرَدِ اللاذع

جرساً موصولاً من صولاتِ المطر الخالدْ

وسحبتُ يدي .. عادت كفي

لمست قطعةُ جسمي جسمي .. لثمتْ خدي .. وأذاقت ثغري نجوى البلل

ووميضَ القطرات البكر الرائعْ

رجعت كفي للماء الفارد كلكله .. رشفتْ من ميع القللِ

حفت أطيار الأمطار بكفي

أتُرى راسلها آخر أطراف الدوح الغيمي الوارف

لغةً من سقسقة البلل النفاذ !

لا أدري ..

فيدي في الماء .. يدي

وأنا أتحسسُ ماءً

محض الغمرِ وفيض الطللِ

*

محفوفاً بجراءة ماء الخالق

اسررت لنفسي : ماذا لو كنتُ أنا الماءَ الباسقْ

*

أطلُعُ من وجدٍ .. من حسٍ حُرِ

أعلي روحي .. جسدي .. بدمٍ طربِ

في غورٍ من ماءٍ حلوٍ ثرِ

صدراً موطوءاً بنهود االسُحُبِ

*

أشرعت الباب .. نتئتُ .. وفلجتُ الماء

ووقفتُ على سطح الشارع

وأنا أدري أني في الشارع

شرراً من غبطةِ حسٍ يعلو بحروفٍ مبتدئه

وفمي مزمومٌ ودمي لاهج

وبذاكرتي مرأى الشارعِ تسفي فيه الريحُ الأحجارَ

وتصْفرً عبر العلبِ الصدئه

وتدحرجها .. ما بين رصيفٍ ورصيف

فتحك عليه القرع الدارجْ

*

وكما تجتاح المرَ ببيداءٍ رغباتٌ أن يهتف

شرعت فمي .. وهتفت .. أنا المغمور بماء اللهِ

أرج الأرض عميقاً ودفوقاً : يا فيض الكون العملاق بدفع كياني .. ضوءاً من لهب الخصب الناطقْ

*

وأنا أُعلي لغة البشرِ

غيثاً رج الأفق الوارف:

للأرض رؤى ومدىً يلعبْ

يشدو شجرُ الفرح الراشف

لم نتعب رشفاً .. لم نتعبْ

مقالات ذات علاقة

سيلفي

منيرة نصيب

ستهلك

هود الأماني

طرابلس 1994

حواء القمودي

اترك تعليق