قصة

ستارز سيتي 2

التشكيلية الفلسطينية _ كنان الربيعي

البوابة الخامسة لستارز سيتي هي الأكثر ازدحاما بين أخواتها فبعد أن تمر من القوس الأمني تجد محلا ضخما لبيع الأثاث ويقابلك مباشرة مكتب صغير للاستعلامات لتفسح طاولات المقهى الكبير مقاعدها ويأتيك النادل يعرض عليك ما لديه من شراب بارد حلال ومعجنات محلاة ومثلاجات وشراب ساخن من قهوة وشاي وشكولا وأشياء أخرى لا أحفظ مسمياتها الإنجليزية بعد أن منع وزير التعليم تعلمها إمعانا في عملية التجهيل وكأنه لم يقرأ الحديث الشريف( من تعلم لغة قوم أمن شرهم ) ولو كنت في صحبة ثلاثة أشخاص عليك أن تدفع مبلغ 300 جنيه أي ما يعادل خمسين دولار أي ستين دينار ليبي وتصرف معهم نهرا من الكلام عن ما يجري في البلاد وساعتين أو أكثر من الوقت .

إذا ما جلست مع آخرين تعرفهم وجاء ابنك الصغير يطلب مالا ليشتري شيئاً أعجبه أو ليشاهد فيلما كرتونيا فأنت لا تملك إلا أن تلبي طلبه درا للحرج ولتؤكد لصاحبك أن الأحوال مستورة وتحمد الله على ذلك ، وعندما تعود للشقة العتيقة تفجر غضبك في الولد بضربه والصراخ في وجهه ،كي لا يطلب منك مالا في حضور الآخرين فالذي معك بدأ يتناقص ويكاد أن ينفذ ولا حيلة لك إلا الصبر على ما ستسفر عليه الأيام القادمة وأنت تسلط عينيك على الشاشات الليبية تتابع الأخبار.

أنت لا تجلس إلى المقهى وتتابع طريقك متفحصا المحال التجارية التي حفظت معروضاتها وهي التي تكاد لا تبيع شيئاً وتسالك حتى تخالك أن ريبة بها كغسل الأموال على سبيل المثال ، ولأن الأمر لا يعنيك في مدينة الفاطميين تتابع تجوالك علك تقع على من يقاسمك الحديث عن الشأن الليبي ووضعك القادم فيه تحتسي قهوة سادة فقط لأن صاحبك رأفة بك يزعم أنه قد احتسى منها ما يكفي حتى أن معدته تؤلمه بفعل الكافين وعصارة الكبد فتصدقه.

عندما يضايقك الشعور بالملل تنتقل إلى طابق آخر حيث محال العلامات المسجلة ، زارا وبوس ، ولاكوست وبير كرديان مثلا للملابس، وديور وونانا نيتشي للعطور ،كلاركس للأحذية ،وتيسوت وسيتيزن ورادو للساعات ،وأبل وسام سونج وسوني للاكترونات ،بينهما تتوزع المقاهي ، ستار بيكس ، وكوستا ،وغير ذلك من محال أخرى فرضها نظام السوق الحر وهي ضمن تفاصيل الليبرالية .

بين ذلك وخلاله تقابلك النسوة والواحدة منهن تعري زنديها وتكشف نصف صدرها في تباه ملحوظ حيث ينحسر القميص أو الفستان يظهر جيدها ويشد انتباهك إليه وتنزل بنظرك إلى أسفل فيصدمك وسطها المتكور وفخذاها المصقولتان جيداً وتجدك تلتفت يمنة ويسرى كأنك مراهق في العشرين تلعن الشيطان مرة وتصلي على رسول الله أخرى فيعضهن كأن لا مسامات لهن وتسألك عن سبب خشونة ملمس التي تورطت فيها وعن ألفاظها الفجة أيضا متمنيا رجوع الزمن بك لتجيد الاختيار جيدا .

الحقيقية أن جيل منتصف الأربعينيات والخمسينيات لم تكن له فرصة الاختيار لأي شيء فقد كان الوضع العام الذي أنتجه النظام ديكتاتوريا يفرض كل شيء وبالقوة فالجميع تقريبا يراهم قطيعا في زريبته وهو الذي يحدد لهم ما يضرهم وما لا ينفعهم، مـن نـوعية التعليم ،إلى الوظيفة إلى اختيار شريك الحياة كما يزعمون وكل شيء على مستوى الكفاف الأدنى للحياة وهو ما تسميه كتب السياسة (العدل في توزيع الفقر) ومن أراد أن يرتقي درجتين في السلم المعيشي ،عليه إما الانخراط في اللجان الثورية ، وإما في كتائب حراسته وإما تبعاً لمن أقتربوا من الدوائر التي تلامس تخومها دائرة مركز الطاغوت ،غير ذلك تقريباً هم في عملية مقاربة ثانية ،مجرد شخوص تعيش كيفما أتفق لها،إلى درجة أنه لا يراهم وعندما فرضوا حضورهم عليه سألهم:ـ

• من أنتم ؟؟؟

أنا لست من ضمن هؤلاء ،إلا في ترددي على هذا المول الكبير إذ أجد متعتي في تفحص وجوه الناس حيث كل وجه يخفي حياة كاملة خلف ملامحه ،ولخبرتي في مراقبة الناس دون حصد الموت غماً أعتبر متعتي هذه مشروعة إذ لا ضرر منها لأحد وهي سياحة داخل فضاءات الأشخاص النفسية وفسحة على نحو ما تتيح لي التعرف على جوانب الحياة العامة للناس.

أشخاص في شدة التباين فكرا وثقافة ووظائفا ألتقي بهم وأتعرف إلى آخرين من خلالهم تكون التحيات مدخلا للتقارب والحديث والبعض منهم يفيض به الحال شكوى وتدمراً وهو يتلمس خبراً يفرحه وأنا أوزع بعضا من الآمال التي يتشبث بها .

• لازم الليبيين يتصالحو مع بعضهم واللي فات مات ونبدو صفحة جديدة ،المهم اللي نبوه درناه وارتحنا

أقول للذي يجالسني هكذا .

• ياريت ياخوي والله الواحد ماعادش عارف شنو يدير اللي جبناه معانا كمل والحالة مضعضعة وتزيد كل يوم

وبعدين بعد هذا كله الواحد منا ما عنده قدر إلا في بلاده ومع اهله .

يستمر مكوك الكلام في نسج حالة بين الفرح وبين التدمر وكذلك التشديد على أن الجميع ساهم في الثورة ولو بأنه لم يواجهها أو أن أجبر على فعل شيء ما ضدها .

عند اللقاء الثاني مر بي مع أسرته ،والده المقعد على الكرسي المتحرك في الثمانين خريفاً ،ووالدته وقد شارفت على السبعين في جلبابها وحجابها الذي يظهر وجهها الموشوم ،وابنتها الأرملة التي مات زوجها سائق سيارة الإسعاف أثناء الحصار المفتعل ،وزوجته التي بشباب هرم ،وولديه الصبيان ،ناديته وهو يلوح لي بيده ملبيا إشارتي مصافحا بحرارة وأنا اطلب منه أن يدعو أسرته كي تتناول شيئاً كعزومة مني لهم فلم يمانع .

• هذا صاحبي يا بوي لقيته من يومين عايش هني ومداير شغل وواخد حقه مع المصريين .

هكذا قدمني لأفراد أسرته بتباه ملحوظ في نبرة صوته ووسط خجلي وحرجي انهالت علىّ دعوات والده أن يزيدني الله من فضله ويوسع من عيشي ويبعدني عن أولاد الحرام .

جلسنا والنادل يقدم لنا ما طلبته منه من شراب وحلويات وهو يفتح نافذة الكلام .

• تعرف يا خوي اليوم سمعت ان حد مهم جي لمصر وبيعمل مصالحة.

أكدتُ له صحة الخبر راجيا السداد لمن يريد العمل على إصلاح ذات البين ،غير أن الأمر ربما تخاله بعض العوائق لكنه خطوة على الطريق ،وأخذ الكلام ينساب بتداعيه عن ذات المسألة حتى أخذت أضواء السوق الرأسمالي تخفت معلنة عن بداية ساعة الإقفال،

كنتُ ألح عليه تناول ما أمده له من مال فقير ،وهو يلح على الممانعة مؤكدا على أن الضيق سيزول قريبا بكرم الله وستره فهو الرحمان الرحيم.

شهران مرا لم ألتقية وخمنتُ أنه عاد لموطنه يواجه مصيره الذي لستُ ادري على أي حال سيكون بعدها وصدفة وجدته جالسا في المقهى مع أسرته والطاولة تعج بأصناف الشراب والطعام هتف باسمي حين لمحني في الزحام ، ألتفت إليه وأتيت مقعده أحييه وأسأله عن سبب غيابه وهو يلح على أن أنضم إليهم .

• غر قعمز بس يا صاحبي وتفضل معانا وتوا نحكيلك ، قصة طويــــــــلة صارتلي وربي كرمني .

طلبت وأنا اقعد على الكرسي قهوة سادة عندما أحضرها النادل ناولني سيجارة وأشعلها لي وأنا اسأله.

• إيه عاد كيف صار معاك شكله الحال تبدل وربي فرجها عليك .

• الحمد لله يا صاحبي ربي كريم عشان هالشيابين والصغويرة وعمرك عمرك ما تيأس من رحمته القريبة.

قالها وهو يرفع رأسه ويداه إلى السماء.

باختصار لقيت واحد خليجي ممكن يكون من قطر والا من الأمارات ،مش عارف بالزبط يدور في من يعطيه كلوته على أساس أني قاعد في القاهرة ونعرف كل شي وبسرعة دارت الفكرة في رأسي وقلت له عندي حد يبي يبيعها.

صدمتني فرحته وهو يسرد قصة بيع كليته وكأنني لم أكن أسمعه أو أنني لا أريد سماع قصته الحقيرة ،وأسمعه فقط بنصف أذن واحدة ن اشعر بدوار في راسي وقلقا تحتي تريد رياحه أن تقتلعني .

لابد أنه باع كليته لذلك الخليجي وصار بكلية واحدة فقط من أجل أن يعيش يومه القاهري الذي قد يمتد طويلا كي تنعم أسرته بالأمن والآمان وتجد ما يحفظ رمقها ولا تضطر إلى عمل آخر يتخلله الخطأ ،أو تمازجه الخطيئة .

لابد أنه يعتبر هذا تضحية منه يقدر عليها وفرحه مبعثها أنه وجد الحل الممكن ،دون أن يعاقبه قانون أو يؤنبه ضميره فكل همه أن لا تتشرد أسرته بين دياجير ظلمة الفقر والخوف

لا علم لي بما اقترفت يداه ضد شعبه وتحت أية نوع من الجرائم يمكن أن يُحاكم عليها او ربما توهم الخوف الذ أعتاد عيه طيلة أربعة قرون أو أنه يخاف العودة لسبب أجهله ،فقد أحزنني كثيرا أن يبيع كليته من أجل أن يعيش في مأمن ممن يخاف .كحزن الصالح أيوب على ضفيرة نعسة زوجه.

مرة وأخرى تحاشيت لقائه فقد كرهت رؤية وجهه المصفر جدا ،وكأنه عدوا لي لا أطيقه ،ولعله شعر بصدي له وأنني لا أريد رفقته وقد يعتبر هذا تكبرا مني فتحاشى ملاقاتي.

بيد أنني بكيت حزنا وغما عندما علمت عن طريق زوجته التي قابلتي خارج السوق صدفة تخبرني ودمعها يساقط من عينيها نبأ وفاته بعد شهر من أخر لقاء كان بيننــــــــــــــا بسبب طبي توقفت كليته عن وظيفتها وتسمم جسدها وتليف كبده يطلب منها عند احتضاره أن لا يدفن في بلده وأن أسامحه أيضا ،عندها أحسستُ أن عبءً عظيما حُط َعلى كفتي أقعدني على الأرض أغالب دمعة حزن وآسى

مقالات ذات علاقة

الطَبْخة

أحمد يوسف عقيلة

جريمة وعقاب

أبو إسحاق الغدامسي

بلاد الكوميكون

عزة المقهور

اترك تعليق