المقالة

حتى لا نظلم الوطن بالانتخابات

لم يسبق لي أن أعلنت رأيّ في الانتخابات.. صحيح أننا بحاجة لتفعيل الديموقراطية، وأول خطوة هي إجراء انتخابات، حتى ولو كانت عرجاء وترتيباتها غير منطقية، وظالمة للوطن قبل أي فئة بعـينها. فالذين وضعوا قانون الانتخابات لم يكونوا مخولين انتخابيا، ولم يعرض القانون للاستفتاء، وواضح أن اعتبارات الكسب الجهوي أو الحزبي، كانت وراء توزيع المقاعد أو كيفية الانتخاب (كراسي فردية وقوائم حزبية). ولهذا وللأسـف كان بإمكان المشرعين والسلطة الحالية (الانتقالي والحكومة) إجراء الانتخابات في مدينة طرابلس وحدها ليتحصلوا على مؤتمر وطني يحقق المطلوب. بقية الوطن مغفل عمليا، حتى ولو شارك الجميع في الاقتراع. وهذا أمر في اعتقادي غير عادل وخطير على مستقبل ليبيا. لكن إجراء الانتخابات خطوة على الطريق الصحيح. كما أن أصدقاءنا الغربيين الذين أعانونا على التخلص من القذافي متلهفون على إجراء انتخابات.. ربما من باب إظهار نجاح استراتيجيتهم بإمكان إسقاط نظــام دكتاتوري وإحلال آخر ديموقراطي محله.

من يريد أن يخيفنا من الديموقراطية

اقتحام مقر فرع مفوضية الانتخابات في بنغازي (الأحد 1/7/2012) ومشهد الحرق والسجلات والأوراق المبعثرة، مزعج وبالتأكيد محرج أمام العالم.. كما لو أن الناس لا تريد الانتخابات.. لا تريد الديموقراطية.. إذن هل تريد الدكتاتورية؟ الصورة لم تكن واضحة للمراقب. يريدون أن يعبروا عن عدم رضاهم على توزيع المقاعد. يريدون إعاقة العملية الانتخابية. تمنيت لو اسـتهدفوا شيئا آخر.

لكنها كانت أيضا مظاهرة احتجاج سـلمية. الحدث كان في الهواري، بعيدا عن مركز بنغازي، حيث استمرت الحياة عادية.. الشوارع مكتظة بالسيارات، والناس يتسوقون، والمقاهي الشبابية يانعة.. الأهم أن 80% من سكان بنغازي سجلوا أنفسهم.. أي أبدوا رغبتهم في المشاركة، وسبق أن أكدوا ذلك في انتخابات المجلس المحلي.

ما استرعى انتباهي أن الحراسة على المبنى كانت أقل من عادية. فهل كان هناك تواطؤ؟ كما سألني صديقي المغرم بالتفسيرات التآمرية.. الذي طرح سؤالا ثانيا: ثم من المستفيد؟ ربما الدولة الحالية تريد تعطيل الانتخابات لكي تبقى! ودعنا من أنصار النظام المنهار، فهؤلاء لهم مصلحة ورغبة، لكنهم دون قدرة.

الأكيد أن جميع الليبيين شعروا بالخجل بدليل أن مواقع عديدة على الانترنت، تجاهلت المظاهرة.. لأنها طعن للديموقراطية وتعطيل للتقدم. لكن بؤس التعبير، وسوء التصرف لا يجب أن يعمينا عن جـوهـر المشكلة ومطالب المحتجين.

حساسيات مشروعة

وسط الجدالات المتعددة، هناك حساسيات، بعضنا ذكرها بفجاجة وبذرائع واهية، وبعضنا تغافل عنها.. والجميع تحاشاها لأنها مخجلة أو محزنة.. لكن الواجب يملي علينا ذكرها والاعتراف بها والاستجابة لها.. وسأتناولها بصراحة وموضوعية من أجل ليبيا كلها.

بنغازي / برقة، كانت مهد الثورة.. وتلك كانت مخاطرة هائلة. ولا أعتقد أن الأمر نابع من شجاعة استثنائية أو بطولة فقط، بل لاعتبارات موضوعية.. فالمدينة كانت موقعا لمشاهد الاعدامات العلنية والقتل التي أفرزها عقل القذافي (شنق دبوب وبن سعود أمام الكتدرائية، اعدامات الجامعة والمدينة الرياضية، مذبحة القنصلية الإيطالية، قصف شرقي الجبل الأخضر بالنابالم).. ولمشاهد الهدم (سوق الظلام، ضريح عمر المختار، النادي الأهلي).. وأخيرا للتهميش المتعمد.

ثم تحررت طرابلس، فماذا حدث؟ انتقلت الدولة بكاملها إلى العاصمة / طرابلس، وخاصة بعد اقتحام البعض لمقر المجلس الانتقاالي ومحاصرة رئيسه، وهي الحادثة التي ربما تركت في نفسه شيئا من الغضب والنفور من بنغازي، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك في مقال سابق وحذرت منه. شئ يذكرك “بزعـلة” الملك إدريس بعد مقتل سكرتيره المقرب، ابراهيم الشلحي بالمدينة سنة 1954، رغم أن القاتل كان ابن أخ الملكة، ولم تكن لبنغازي يد في صراعات الأسرة السنوسية!

الانتقالي وحكومته حققا أرقاما قياسية في الارتباك والأخطاء الإدارية، بل والتجاوزات واهدار المال العام كما سـبق أن أشار رئيسه، وكما نوه وزير المالية نفسه. وأمام هذه الخلفية في مواجهة “عـزم الطلاق” الذي قرره الانتقالي، ساورت عقول الناس في بنغازي والشرق شتى المخاوف، واستنهضوا شتى الذكريات المؤلمة.

تشوهات المركزية

الأهم والأكثر موضوعية، كانت أحاسيس المرارة.. ففي ظل حكم القذافي حظت طرابلس بتميز في المشاريع والمؤتمرات والانفاق العام والبعثات الدراسية والدبلوماسية. وسبق أن ناقشت هذه الأمور قبل سنوات في زمن الطاغية، في مقال بعنوان “طرابلس أسطورة بيروقراطية”، أشرت فيه إلى أن أطراف طرابلس نفسها تعاني من الإهمال، وأن المشكلة تكمن في الإدارة، ورجالها (المنتمين إلى شتى مناطق ليبيا)، الذين ترعروا في مناخ الاستبداد. وعلينا ألا ننسى أن مركزية الإدارة كانت امتدادا لقبضة الطاغية وانفراده بالقرار، فحتى تعيين مدير أمن في يفرن أو الأبيار، أو مدير مصرف أو فندق، في الخمس أو صرمان ، كانت كلها بتعليمات أو “توجيهات القائد” كما كانت تسمى.

لكن القذافي كان حاقدا على بنغازي وبرقة، لأنهما حاضنتا المعارضة والانتفاضات.. فاستغل رجال الدولة من صناع القرار، أحقاد القذافي ليشيدوا صرحهم في طرابلس.. وبدأ ذلك منذ فترة عبد السلام جلود كرئيس وزراء.. حتى أصبح بمثابة تقليد للإدارة الليبية التي أحبطت محاولة القذافي جعل سرت/الجفرة عاصمة لحكمه، وقبل ذلك أحبطت عزم الملك إدريس بناء وجعل البيضاء عاصمة البلاد. وهكذا أغدقت دولة القذافي المليارات على طرابلس بحجة وجود الحكومة والسفارات.. إلخ، وهذا بدوره قاد إلى النمو الهائل لساكني طرابلس.. والأهم لنمو شريحة عريضة من حاملي الشهادات والمهارات، وخاصة لدى الشركات الكبرى والأجنبية والسفارات.. الخ.

لكننا بحاجة إلى وطن واحـد.. بل وطرابلس نفسها بحاجة لوطن تكون عاصمته.. وبحاجة لثروة النفط التي حولتها من مدينة يقطنها 100 ألف عام 1951 إلى قرابة 2 مليون الآن.

ما التهميش؟

خذ مثلا واحة أوجلة.. هناك وبالعين المجردة، تستطيع أن ترى “شعلة حقل النفط القريب”.. الغاز الفائض الذي يحرق. ثم التفت إلى الواحة.. مجرد كثبان من الرمال.. مشاهد لا تختلف كثيرا عن رسومات الرحالة قبل قرنين.. باستثناء مباني خرسانية متناثرة، والسيارة القلع.. الأكيد انه ليس هناك ما يشعرك بأنها تنتمي لدولة نفطية.. لا مشاريع، ولا حتى لافتة لجهة رسمية. إذهب إلى جبل نفوسة.. نفس الشئ.. اذهب إلى سبها وواحات جنوب فزان، نفس الشئ. ستشعر أن كل هذه المناطق مهضومة الحقوق.. هذا هو التهميش. ومن حقها أن تتوقع ولو لفتى اهتمام بعد ثورة فبراير.

حصـة من النفـط

كل الليبيين من حقهم المطالبة بحصتهم من النفط، الذي يعتبر وفق قوانيننا ثروة وطنية، لكل الليبيين. نحن بحاجة إلى عدالة تنموية، وقد دفع القذافي ثمن غبائه وكانت الثورة، جزئيا، ردا على التهميش والإهمال، الذي كان يتباهى به “كعقاب جماعي”.

أهل برقة بوجـه خاص، من حقهم المطالبة بحصة إضافية من النفط. ليس في ذلك بدعة أو شـطط. هذا النظام مطبق في الولايات المتحدة، فالثروة ( مناجم، نـفـط.. الخ) في أي ولاية، هي ملك للولاية التي عليها أن تدفع ضرائب للحكومة المركزية. بل بئر البترول ملك خاص وشخصي لمن يكتشف في أرضه نفط. والآن في بريطانيا، جزيرة شيتلاند في أقصى الشمال، التي اكتشف البترول في مياهـها، تطالب هي أيضا بالاسـتقلال. وليس ثمة من يسمها بالانفصالية والخيانة.. الخ.

تلك هي حقائق الحياة، ويجب أن نحرص جميعا على أن نخلق شـعبا متجانسا، خاليا من الضغائن والأحقاد والشعور بالظلم.. لكن تلك الأهـداف النبيلة لن تتحـقق بالمناورة والتسويات المجاملة، بل بالوصول إلى تسويات صادقة وحقيقية وتنفيـذها حقـًا. وهكذا فقط يمكن أن تكون ليبيا مجتمعا مستقرا ومزدهرا.

ولنمضي إلى صناديق الاقتراع، مع الاعتراف بأنها لن تكون الحل في حد ذاتها. وستبقى المشاكل التي ذكرناها وأخرى غيرها.. موضع خلاف، وربما أكثر، ما لم نتحلى بالعقل، ونحرص على أن نضع الوطن كله نصب أعيننا.

مقالات ذات علاقة

الأراضي المنخفضة: شط الهنشير الهولندي

سعاد سالم

من القبلية إلى المواطنة .. متى؟

محمد محمد المفتي

صالون رضوان بوشويشه الثقافي..!!

سالم أبوظهير

تعليق واحد

د.مصطفى بديوي 7 يوليو, 2012 at 13:25

د. محمد… في عجالة تمكنت من ان تبتسر الامر وتلخص لنا المشكلة التي ربما الكثير من المثقفين الليبيين يشاركونك اياها… لكننا وبشيء من التفكر والتروي وفي هذا الوقت الحساس الذي تمر به بلادنا… ما الحل… كيف يكون الرد… ما هي اوجه المعالجة… انها ترسبات عالقة مترسخة على مدى اربع عقود… ولا اظن ان مسحة واحدة بطرف اصبع ستزيلها… ( ان ترسبات السنين لا تمحوها رياح الدقائق)… لقد تعمد النظام السابق على ترسيخ فكرة الجهوية التي كدنا ننساها قديما مع (شرقاوي / شرشور) حتى اعاد احيائها من جديد… بل واكد على عمقها الاجتماعي في تغليب قبيلة على اخرى… وإعلاء تاريخ جهاد قبيلة على اخرى… وتمكين ابناء قبيلة على اخرى في المواقع… الكثير الكثير… ولكن.. وفي رايك (كيف يكون الجل)… اننا كمثقفين ووطنيين نحب ليبيا حرة ونعشقها موحدة… ينبغي علينا ان نفكر ملياً في وضع حلول عاجلة ومقبولة حتى نتدارك ما قد يحصل… لا سمح الله… لك تقديري.. والى لقاء ربما قريب…

رد

اترك تعليق