شخصيات

علي خليفة الزائدي… رسالة ووطن

.

محمد جمول الزائدي

.

علمتنا حفظ ماء الوجه في شرف   وإنما القول بالأفعـــــال يكتـمـل
الجسم والمال والألقاب فانـيــــــة   والذكر تحفظه الأجيـال والعمـل
يا زائدي رحمة تؤويك واسعـــــة   يا عالي النفس يا مقدام يا جبـل

هذه الكلمات الرائعة للكشاف شاعر نفتتح بها عربون الوفاء والشكر لرجل لم أعرفه إلاّ بالصور ولم أسمع منه أي كلمة. اليوم وبعد 45 سنة على رحيل القائد علي خليفة الزائدي القائد العام ومؤسس كشاف ليبيا أجد نفسي ملزماً أن أحاول استرجاع تاريخ الرجل الكبير ومأثره….

فعلي خليفة الزائدي المولود من أبوين ليبيين بمدينة الخمس ومن أسرة متواضعة هاجر مع عائلته في عام 1911 وكان لا يزال في السنة الثانية من عمره. هجرة العائلة إلى مدينة بيروت لم تكن إرادية بل كانت نتيجة للسياسة الإستعمارية الإيطالية.

وكان لهذا الحادث أثراً كبيراً في نفس القائد علي، وكانت الحياة في منطقة البسطة الشعبية في أحياء بيروت الفقيرة، متعبة وصعبة. فالظروف المعيشية للعائلة كانت سيئة جداً مما إضطر القائد علي للعمل مبكراً لإعالة العائلة إضافة إلى إكماله التحصيل العلمي.

حب وشغف علي خليفة الزائدي للموسيقى دفعه للإلتحاق بالمعهد القوفي للموسيقى في بيروت فتخرج منه حاملاً شهادة عليا بالموسيقى. في سن الثامنة عشر إلتحق القائد بالحركة الكشفية اللبنانية وبالتحديد الكشاف المسلم. وأخذ يرتقي سلم الهرمية حتى نجح بعد ست سنوات وبفضل نزعته القيادية من تأسيس أول فرق موسيقية كشفية عربية. سرعان ما تحولت هذه الفرقة إلى (ظاهرة) وأصبحت حديث الناس فكانت تقوم بإستعراضات…. واستمر القائد علي بعمله وريادته وما لبث أن عين قائداً لكل مخيمات الكشاف المسلم المخصصة للقادة ثم مفتشاً عاماً للكشاف المسلم في لبنان.

في هذه الفترة برز لدى القائد علي نضج سياسي زاد في نفسه الحس الوطني والقومي فكان يقود المظاهرات المناوئة للإنتداب الفرنسي بلبنان، ويشارك بالإعتصامات حتى إن رئيس الحكومة اللبنانية وأحد أبطال الإستقلال اللبناني كان يستعين به في التحركات خلال حقبة النهضة الشعبية اللبنانية ضد الفرنسيين. فبالإضافة لدوره في معالجة المرضى وإسعاف الجرحى كان الكشاف بقيادة المرحوم لا ينفكون ينشرون الوعي القومي الإسلامي الإستقلالي. وعندما تسارعت الأحداث فإستقل لبنان وبعده سوريا حلت نكبة 1948 التي كان لها أثر عميق وخلفت جرحاً في قلب القائد. ولكن الحزن لم يلهيه عن متابعة اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان فكان يستقبلهم ويقيم لهم المعسكرات وينظم الحياة اليومية في المخيمات. وعندها عزم على العودة إلى الوطن الأم ليبيا. ورغم قصر فترة إقامته في ليبيا التي لم تتخطى الخمسة عشر سنة إلا أن الأثر الذي تركه في هذا الوطن عظيم. فأنشأ الكشاف الليبي وحولها إلى مؤسسة فاعلة ضمت الشباب الليبي، فحولهم إلى مجموعة منضبطة ملتزمة المعايير الوطنية والثقافة اللازمة لقيادة البلاد فيما بعد. وفي عام 1958 نجح بإصدار مرسوم ملكي بقانون حماية الحركة الكشفية تلتها انتخابه عضواً في اللجنة الكشفية…. هذا النجاح أدى لتعيينه عام 1964 وكيل لوزارة العمل والشؤون الإجتماعية وعضواً بالمجلس الأعلى لرعاية الشباب، تقرب منه ولي العهد الأمير المرحوم حسن الرضا وأعجب بشخصيته جداً فكانت لقاءاتهم كثيرة وطويلة.

هذه الحركة الكشفية التي أرعبت معمر القذافي لسببين: الأولى لأنه كان إبن المؤسسة وتم طرده من قبل القائد علي شخصياً لسوء سلوكه وخروجه عن الآداب العامة والأخلاق الكشفية، فحقد على علي خليفة الزائدي ومن يمثله ودفعت الحركة الكشفية على مر عقود ثمناً باهظاً. إلا أن الطاغية لم ينجح بإنهاء حالة الكشاف الليبي الذي برزت أشباله وأحفاد القائد الزائدي خلال الثورة وتحولوا لرجالات عظام. والسبب الثاني لأنه نجح بإنشاء مؤسسة ناجحة قادرة منطلقة في وقت كان يسعى الطاغية للقضاء على المؤسسات للتحكم بالبلاء والعباد، فأكثر ما كان يخشاه المؤسسة الكشفية لأنها كانت الأكثر تنظيماً وإنضباطاً والإكفاء على تخريج أجيال وقادة مستقبليين فكانت الخطة لتفريغ ليبيا من المؤسسات والقادة من خلال ضرب كل المؤسسات وعلى رأسها الكشاف الليبي.

ويقول عنه الأستاذ عمر الباروني (سفير ليبيا في عدة دول منها لبنان)، خلال الحفل التأبيني، الذي أقامته لجنة أصدقاء علي خليفة الزائدي في بيروت في 25 فبراير 1967: “حرمت الأقدار جيلنا الناشئ من توجيهات مربٍ فاضل، قدير وقائد من ألمع القواد، ومن لم يسمع بعلي خليفة الزائدي، فكان نوراً هادياً أضاء الطريق لأجيال ستفخر بأنها عاشرته وتتلمذت عليه“. ويضيف: “جاء علي خليفة الزائدي إلى موطنه الأم بقوة من سبقه في ميدان الجهاد النضالي، من أجل الإستقلال. جاء ليبي مع البناة“. ويختتم: “علي خليفة الزائدي اسم سيخلوه تاريخ أمتنا وسيبقى في أذهان الأجيال من شبابنا في الوطن العربي على مر السنين رمزاً للنبل، للإيمان والإخلاص، للتضحية والوفاء“…. كما يقول الأستاذ جامد الشويهري (وكيل وزارة التربية والتعليم في ليبيا) أثناء التأبين في العاصمة الليبية طرابلس: “لقد كان علي خليفة الزائدي مثالاً حياً للخلق المتين ونموذجاً فريداً في الإيمان والإخلاص والتفاني وفي التصميم والعزم والعمل الدائب المستمر. لقد كان علي خليفة الزائدي فكرة نشأت وترعرعت وعملت فأخلصت وبنت فحققت فإستحقت الخلود“…. فيما يقول الأستاذ محمد علي حافظ (مدير المكتب الكشفي العربي) خلال تأبين القائد في بيروت: “عرفناه رجلاً تكاملت فيه صفات الرجولة، عرفناه معلماً يوجه في صفاء ويربي في قدوة حسنة، عرفناه قائداً تجمعت فيه كل صفات القيادة الرشيدة، عرفناه عربياً التقت في شمائله الكريمة كل خصائص العروبة الحق“….ويقول الأستاذ زهير عسيران (نقيب الصحافة اللبنانية) عن الراحل: “في نهضة الأمم ينبغي دائماً أن يكون ثمة رواد، يقودون النهضة ويشقون طريقها، غالباً على حساب راحتهم وصحتهم وبالتالي حياتهم. وكان الزائدي مثالاً حياً للوفاء فمات في لبنان ودفن في ليبيا“. ولم يبخل الأديب الليبي الكبير الأستاذ علي مصطفى المصراني بمدح مزايا القائد من خلال التشييع في طرابلس ألقى كلمة مرتجلة قال فيها: “عاد الرجل ليقول للمسؤولين في ليبيا، أريد أن أنشئ حركة كشفية فضحك قوم وسخر آخرون وتملص بعض الناس ولكن الرجل بقوة إيمانه وصلابة عزيمته وشديد حبه لوطنه صمم. الدرس الأول من قائدكم هو التصميم وكان علي خليفة الزائدي يضع خبراته بلا مقابل بل قدم عمره وحياته وراحته وصحته ليست كلمات منمقة ولكن وطنية صادقة“.

في الختام لن تعود انجازات المرحوم، فإنجازاته تسبقه وهو رفض أن تسمى غابة جدايم بإسمه ورفض أن يطلق أي شيء على إسمه. هذا الرجل الذي رفض المجد البسيط للمجد العظيم، الذي رفض الشهرة الشخصية ونحف في عائلته تعرف المناصب والأمجاد التي رفضها لينعم بها الشباب والأجيال القادمة، رحمك الله يا قائد علي يا من ولدت في ليبيا ودفنت فيها رحمك الله وعسانا نوفق بإيفائك حقك على المستوى الشخصي أو العام.

عن موقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

وآن لهذا الفارس ان يترجل

أحمد إبراهيم الفقيه

جَمْرُ السّنِين مَرّ كَخَواطِر عَابِرَة لنَبْضَاتِه وَشُجُونِه وَرُوحِه الوَطَنِيّة

نيفين الهوني

الشاعر الغنائي يوسف بن صريتي

محمد العنيزي

اترك تعليق