النقد

الوظيفة السامية للتخريف

 مدخل لقراءة مجموعة ( حكايات ضفدزاد ) لأحمد يوسف عقيلة

• عودة إلى نظام الليالي.

إن العودة إلى نظام الليالي، يعني العودة إلى الليل الخلاق، ليل المتعة، ليل اللذة، والفكرة الحميمية، أو عودة إلى التفكير من خلال الطقوس الليلية، للرواي طقوسه التي تحتفظ له بأذن السامع، وللسامع طقوس تحتفظ له بحرارة المروي، طقوس وجودية، تجعل من حضور الغريب، أو العجائبي تمهيداً لتجلي السرد، الليل سماء البوح بلا مباح.

(وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح)، فى الصباح ومع شعاع الشمس الأول تتبخر الكلمة المبللة بخيال الراوي، ويتوقف التداخل بين حلم الراوي وحلم المروي له، فى النهار نستطيع العيش أو النوم بلا أحلام، بلا خيال، لكن لماذا الليل؟ ولماذا يحرّم الصباح ما كان فى الليل مباح؟ (وإذا بأمرأة الملك شهريار قالت: يامسعود فجاءها عبد أسود فعانقها وعانقته وواقعها وكذلك باقي العبيد فعلوا بالجواري ولم يزالوا كذلك حتى ولى النهار)، النهار هو وقت الخيانة، فجعله شهريار وقت للقتل، فى كل صباح يقتل من تزوجها أول الليل، لن تكون هناك خيانة آخرى، كابوس آخر، وبما أن زوجته لن تكون فى أي مكان آخر فسينام النهار مرتاح البال، شهرزاد جعلت من الحكي تعويذة تمنع القتل جعلت من طقوس الليل ( أتكلم وتسمعني ) تعويذة لاستمرار وجودها، كيف فعلت ذلك؟فعلت ذلك من خلال تأخير تجلي السر لألف ليلة وليلة، السر الذي لم تكن الحكايات وحدها تحتويه، بل فضول شهريار هو ما كان يتيح استثمار التجلي البطيء فى الليالي، ولكن هناك سؤال ربما في الأجابة عنه يكمن سر الحكايات فى ألف ليلة وليلة، هل كان أهل ساسان على علم بسبب قتل شهريار زوجته الخائنة؟ أو هل حكى شهريار حكايته أمام شهرزاد فكانت حكايتها عملية تفكيك للحكاية الأولى حكاية الخيانة؟ إن قتل شهرزاد للجواري والعبيد عند رميه عنق زوجته، يشكك فى علم أهل ساسان بالسبب ولا ندري إن كان هذا الشك يطال معرفة شهرزاد فلاشيء يشير إلى أنها كانت تعلم على وجه التأكيد حكاية شهريار مع زوجته، إن معرفة شهرزاد من عدمها بهذه الحكاية له أكبر الأثر على المسار التأويلي للحكايات، وربما تفقد الحكايات دور أفق انتظار القارىء لو لم تكن حكاية الملك شهريار وأخوه والتي كتبها ناسخ الحكايات، مكتوبة قبل حكايات ألف ليلة وليلة، سؤال آخر هام وهو، هل كانت شهرزاد قد قررت أن سلاحها فى مواجهة شهريار هو الحكايات عندما طلبت من أبوها أن يزوجها لشهريار؟ إن قول شهرزاد لأبوها (يأبتِ زوجني هذا الملك، فأما أن أعيش وأما أن أكون فداء لبنات المسلمين وسبباً لخلاصهن من يديه) إن ما قالته شهرزاد لايوحي أبداً بموضوع الحكايات، بل أنه يلمح إلىعدة أمور على رأسها أن شهرزاد قد قررت قتل شهريار والأنتقام، وإلافما معنى كلمة فداء هنا، ربما فكرت شهرزاد فى قتله، وهذا ما سيؤدي إلى موتها فتكون بذلك (فداء لبنات المسلمين وسبباً لخلاصهن من يديه) إن ما يشكك فى صحة النظر إلى قرار شهرزاد بالشكل الذي عرضناه هو قولها فى بداية حديثها (أما أن أعيش……) كيف كانت تتوقع شهرزاد أن تعيش على خلاف كل البنات قبلها؟ إن كل إجابة عن هذا السؤال ما هي إلا طريقة من طرق عديدة يمكن النظر بها إلى مغزى الحكايات، وما يزيد حالة الشك لدينا حيال قرار شهرزاد هو حديثها مع أبوها الوزير في شأن زواجها من شهريار هو حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع التي حكاها الوزير فى محاولة لجعل شهرزاد تتراجع عن طلبها، وفى رأينا أن هذه الحكاية في غاية الأهمية، فهي فى الوسط بين حكاية شهريار وزوجته، وكل حكايات الألف ليلة وليلة، وبالنظر إلى ماتدور حوله هذه الحكاية نجد الفضول وما ينتج عنه، ومن خلال تتبع السرد نجد أن هناك حالة متعددة من الفضول ينتج عنها أمر يغير فى مسار الأحداث، هناك فضول أستماع التاجر لحديث الحمار والثوار، وهناك فضول الحمار الذي أدى إلى أشتغاله مكان الثور، وهناك فضول الزوجة التي ألحت أن يبوح زوجها بسبب ضحكه حتى لو أدى ذلك إلى موته، وفضول أستماع التاجر إلى كلام الديك والكلب الذي نتج عنه ضرب الزوجة وردها عن ما كانت تلمح إليه، في كل مرة كان للفضول نتيجة مختلفة، كان التاجر سيموت بسبب فضوله ( الأستماع إلى حديث الحمار والثور )، وقد نجى بسبب فضوله وأستماعه إلى حديث الديك والكلب، ماالذي كان يرمي إليه الأب من وراء هذه الحكاية؟ هل هو معرفته لفضول أبنته ومحاولتها القرب من شهريار ومعرفته عن قرب؟ أم أنه أراد من هذه الحكاية أن يمنح شهرزاد سلاح غير ماكانت تفكر فيه تجاه الملك؟ لو أننا أخذنا بعين الاعتبار وصية شهرزاد لأختها بعد هذه الحكاية مباشرة والتي تقول فيها

(إذا توجهت إلى الملك أرسلت أطلبك فإذا جئت عندي ورأيت الملك فقولي يا أختي حدثيني حديثاً طويلاً نقطع به الليل وأنا أحدثك حديثاً يكون فيه الخلاص إن شاء الله) فأننا سوف نشعر بأن هناك تغيير فى قرار شهرزاد، وأن أبوها قد أوحى لها بالفكرة الرئيسية التي ستخطط على أساسها لألف ليلة وليلة قادمة، لقد كان كابوس شهريار ناتج عن فضوله (( فلما عاد الملك ورأى تغير حال (أخيه) سأله عن سبب ذلك فقص عليه ما كان من حكاية زوجته مع عبده، وحكاية زوجة الملك مع العبد مسعود وذهاب هذا الكابوس لن يكون إلا بنتيجة معاكسة لفضول جديد إنها حكاية التاجر فضول الاستماع إلى حكاية الحمار والثور أولاً ثم الاستماع إلى حديث الديك والكلب ثانياً هذا هو ما خرجت به شهرزاد من الحكاية، يجب ان نشير هنا الى أن النظر إلى حكاية الأب بهذه الصورة يتفق والرأي أن شهرزاد كانت تعلم السبب وراء كابوس شهريار (كانت تعلم السر) لأنها لا تستطيع الاكتفاء فقط بالحكي وتقطيع الحكى لإثارة فضول الملك واجباره على السماع ليلة أخرى، ان هناك هدف اكبر ولابدُ وهو خروج الملك من كابوسه وبهذا كان لابد ان يكون للحكايات مغزى يتماشى وهذا الهدف، هنا يمكن القول انه ماكان للحكايات ان تكون لولا معرفة شهرزاد بسر شهريار، لولا التشخيص الدقيق لمرض شهريار ماكان لشهرزاد ان تحدد جرعاتها العلاجية لألف ليلة وليلة لقد وجدت شهرزاد نفسها في مواجهة تضخيم ما يرمز اليه خيانة الزوجة في عقل شهريار ولم تفعل شهرزاد غير حل هذا الرمز في كل حكاية بطريقة مختلفة للوصول فى آخر الأمر الى الهدف وهو ان يحكي شهريار حكايته ويتخلص من كابوسه ولو ان شهريار لم يتكلم لما علمنا بتفاصيل حكايته مع أخيه فربما كنا سنعرف من بعض من في القصر عن سبب موت زوجة شهريار ولكن ابدا ماكنا لنعرف ان اخوه قتل زوجته و لماذا قتلها، اذن نحن مع شهرزاد امام حادثة ماضية تحولت الى كابوس وحلم مزعج من الماضي، كان على شهرزاد أن تحارب البنية الرمزية لهذا الحلم في عقل شهريار اما مع ضفدزاد فقد كان الامر مختلف كان ضفديار يعاني هو ايضا من حلم يتكرر كل ليلة تحول الى كابوس لقد راى في منامه (ثعباناً).

(وياله من كابوس شىء مفزع مرعب رأيت ثعبانا دخل البركة واخذ يفتش عني تصوري يفتش عني أنا بالذات هنا في القاع مع ان المستنقع يعج بالضفادع) تكرر هذا الكابوس في الليالي اللاحقة، علينا ان نلاحظ ان ضفديار قد قام بالبوح بسره من البداية عكس شهريار الذي انتظرت شهرزاد الف ليلة وليلة ليقوم هو بالكلام ” احست ضفدزاد بأن مصير البركة متوقف عليها “كما كان مصير جنس شهرزاد متوقف عليها، ماذا فعلت ضفدزاد؟ لقد آن الآوان للاستفادة من مخزون حكمتها حتى تعيد الآمور إلى نصابها ” أدركت بأنها أصبحت في مواجهة وصراع مع الثعبان الذي يقتحم مخدعها كل ليلة ” علينا أن نشير هنا إلى أن شهرزاد كانت في صراع مع تذكر ” فعل الخيانة التي تحولت إلى كابوس، وتحول إلى خطر يهدد حياتها هي نفسها في آخر الأمر، أما ضفدزاد فقد كانت في صراع مع حلم تحول إلى كابوس لكنه يهدد الملك نفسه.

إن هذا الأمر يعني استخدام سلاح مختلف فى هذا الصراع (إنه لايرى الكوابيس إلاّ فى الليل.. هل هي كراهية للظلام…؟ حسناً إذن يجب أن لاينام.. أعني فى الليل.. حتى إذا نام نهاراً بعد طول السهر.. نام نوماً عميقاً.. ولكن ما الذي يجعل ملكاً لاينام.. المشكلة أنني أحارب ثعباناً وهمياً.. إنها يلتف ويتثنى هناك.. بعيداً في تجاويف الرأس..، ترى ما الذي يطرد الثعابين من ليل الملوك) قررت ضفدزاد أن تشحذ ذاكرتها وأن تسترجع كل الحكايات التي تعرفها.. وأن تخرجها من الظلام لتفرغها في رأس الملك.. حتى تزاحم ذلك الوحش الملتف فى مكان ما من رأس جلالته، بدأت تحكي له كل ليلة حكاية، نعم تستخدم ضفدزاد نفس سلاح شهرزاد فى مواجهة الكابوس الملكي، لكن يبقى أن كل منهما يؤسس الحكي في مسارات علاجية مختلفة، تؤسس شهرزاد الحكي ليتكلم الملك فى النهاية، أما ضفدزاد فتؤسسه على كلام الملك نفسه، فى الحالتين يلعب الرمز دور المعالج، مع شهرزاد يعالج الماضي ذكرى تحولت إلى شبه الحلم،أما مع ضفدزاد فهو يعالج المستقبل، حلم ينذر بما سيقع.

اللغة هى مكون الحلم وهي فى نفس الوقت أداة تفسيره وتجليه، إن اللغة فى عالم الأحلام رمز وتأويل، نص ورسالة، باطن وظاهر، شهرزاد كانت بالرمز تجعل من النسيان شيئاُ ممكناً، بما أن كابوس شهريار فى الماضي، أما ضفدزاد فتجعل للرمز عملاُ وقائياُ تحذيرياً، بما أن حلم ضفديار كان نذيراً لوقوع أمر، إنه فى حالة شهرزاد تغييب، أما فى حالة ضفدزاد فهو استحضار، كانت شهرزاد تحلم بطريقة معاكسة لحلم شهريار، وضفدزاد تحلم بطريقة معاكسة لحلم ضفديار بما أن الرمز حلمي في أحد أبعاده أي يتأصل في الذكريات، في الحركات التي تنبعث من أحلامنا فى كلتا الحالتين كان يتم حصار مالايمكن حصاره، فعلت شهرزاد ذلك من خلال مراكمة أحلام كثيرة على حلم أول أصبح مع الوقت بعيد مكانه النسيان، وفعلت ضفدزاد ذلك من خلال تحويل الصل

(الثعبان) إلى عدة فروع، والنظام إلى تشتيت، والواحد إلى كثرة، إنه تفكيك ثعبان الحلم إلى أجزاء صغيرة تعيد مع الوقت الثعبان إلى الظلام، ولم تكن ضفدزاد تعمل على النسيان بل على العكس كانت تريد من أحلامها هي (حكاياتها) أن تجعل الثعبان أكثر وضوحاً أكثر تمييزاً أمام الملك، وإذا حدث ذلك تجلى السر وفقد المجهول كل سطوته.

مقالات ذات علاقة

يوميات المنفى

ناصر سالم المقرحي

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (7) .. ظلّ الذّات.. بحثاً عن صورة الضدّ

المشرف العام

“صندوق الرمل” لعائشة إبراهيم.. سردية عن المجهول فيما هو معلوم عن ليبيا!

المشرف العام

اترك تعليق