المسدة.
المقالة

“المَسْدة”: بيت العفة ..ومنتهي الحكايات !!!

المسدة.
المسدة.
الصورة: عن الشبكة.

في بويتنا القديمة .. وهناك في ركنها العالي أغلب الأحيان …. مكانا تجلس اليه جداتنا وأمهاتنا ( آحاداً أحاد) أو (يكوّن ) حوله مجتمعاً نسائياً صغيراً من أهل البيت أو من الأقارب  أو حتى من أقرب الجيران ، يتحلقن جميعهن حول اوتار من صوف مشدودة بين عارضتين خشبيتين ثم التعارف محليا على تسميتها بــ ( المسدة ) ..يمارسن طقس النسيج  اليدوي والذي  بالكاد نلمحه الان فهو الاخر زحف عليه اشمنت المدينة مع أن جودة منتوجه اليدوي بالكاد يرقى اليها كل منتوج الصناعات الحديثة من غزل نسيج  … هذا المكان بمسداته وبجمعه النسوي الصغير كان يضج بالحياة طوال العام…ويبداء موسمه من ربيع الخراف حين يتم جزصوفها بعد ذلك يبداء النسوة بـ   ( غسل الصوف وإعداد خامة خيوطه بالمغازل والقراديش *) وفي ظل كل هذا الحراك كان يحوم  الأطفال كالفراشات أما الصبايا فكما بتلات الوردفقد عطّرن كل المكان هذا المكان هو البهو العالي أو ديوان الحكمة ومنتهى الحكايات  …

ـ إرثنا في عمومه لم يأخذ سهماً واحداً من حظه في التدوين فما بالك ما يخص إرث نسائنا  .. وهنا توجب أن  نتذكرهن ومسداتهن ، نتذكرهن وهن بتلك الناصية  ينسجن (بهمس ثرثار)  مستقبلاً جميلاً ( لأحدهم أو لأحداهن ) نتذكرهن وهن يُرددن خلف اوتار  الصوف  أجمل الالحان ونسمع منهن أجمل المواويل والكثير الكثير من أهازيج ( البوطويل )…
ـ المسدة ….ومن غير (عباءة الصوف ) تنسج النساء منها ( الكليمات و الحائطيات ) ..و (المرقوم ..والحمل )..وغيرهاالكثير لكن بالمقابل اندثر الان الكثير من منتوجها وخاصة تلك المتعلقة بالدواب كـ (المخلاة و الخرج )… أما ما تبقى وعلى ندرته .. فمتميز بجودته  التي فرضتها قديماً  روحُ  المنافسة  فمنتج (المسدة) يأتي كل على شاكلة ولون وشخصية  و تآتى  ذلك من تنوع صانعاته ومناطقهنوالتي هي  كل جغرافية ليبيا..

ـ تعود بنا الذاكرة لهن وهن يتحلقن حولها ..أبدا ليس ترفاً جلوسهن حولها  فكأنهن يقررن على العالم افعاله وما يتوجب عليه  ،فهن ورغم انشغالهن بالنسج والحياكة وجبد الصوف بالقراديش وصنع الخيوط بالمغازل  …لكنهن بهمسهن وكم الحديث  والاعتراضات برفع الحواجب أو بالايماءات أو خفة انتقالهن من محادثة لأخرى وعلى هامش المسدة وكأنهن يخطن حياة العالم  ،فينسجن مستقبل الابناء قيختاروا لهم العرائس ويقررن  عنهم مواعيد الزفاف  ، ويصنعن المهود للمواليد الابكار ،  كذلك حولي*أو عباءة كبير العائلة  وفتيانها أوشيخ القبيلة  وفرسانه …كل هذا من  تناغم عمل المسدةمع  المتحلقات حولها من  مجلس حكمتها …واللواتي يتبادلن همسا اسرارهن مع خيوطها ما سوف يصير جهرا وحكما لا نقاش حوله ولا تراجع عنه  فيما بعد  وذلكبدار الندوة وبمجالس الرجال .

أما من الناحية الروحية والدينية  ، فهن وطوال جلوسهن حولها  لا يكففن عن التسابيح ولا عن الدعاء ، كما أن مسابحهن يستحيل أن تغادر أصابعهن المثقلة بآيات الزمن ..  وكأنهن  ينسجن  كل الطفولة القادمة  كلما سحبن  خرزة من خرزات المسبحة…تماما كما انتجن بمسداتهن   تلك كل ادوات بيت العروسين  وكل متطلباتهما ، وكما خططن بهمساتهن تلك كل الدروب والممرات والمسالك السعيدة التي سوف يجتازانها  كي يصلوا بأولادهم الى بر الامان .

( المسدة ) ذخيرة ..وكنز.. ..أمر غير قابل للالتقاط  بل وكتاب سحري وخارطة طريق .. بل ومدونة (blogger)  حظيت بأكثر من مليون مشاهدة  وأضعاف أضعافها من التعاليق  في زمن لم يخترع فيه بعد ( زر ) الكمبيوتر فما بالك ببطاريات الشحن والشاشة السحرية  (HD)..

أخيرا المسدة .. همس قديم من الخوالي .واختفائها من صحن الدار لا يعني غيبتها عن التذكار   ومع حرصنا على عدم الاقتراب ( الخطر ) من معجم اسرارها .. فلكون هذا الأمر يؤكد أنها وحلقتها وسدنة اسرارها هي طقس أكثر منها حياكة لـ( حولي عريس .. أو عباءة  سلطان)..  لكن مع كل هذا الحذر من طرفنا كان لابد لنا من اقتراب أخير.

فقد نص ما تسرب من كتاب المسدة… أن بعض  حكيماتها   قد تصل بهن القدرة على ان (يصفّحن) البنات وهن في سن صغيرة بحيث يستحيل لمس بتلات  عفتهن بأي مكروه .
..وللتصفيح * أكثر من شاكلة ، لكن أهمها ما تعرفَنا إليه عن قرب ( أي من احدى معمراتنا توجها الله بالصحة واطال في عمرها ) قالت العجوز .. كنّا نجعل من القتيات  يكملن سبع لفات  حول خيوط المسدة، في كل مرة تأخذ الفتاة قطعة من التمر أو الحلوى .. إضافة الي ترديدها رفقة الحاضرات لهذا الطقس من مريدي المسدة بعض التمتمات غير المفهومة ..حاولت أن اقترب أكثر أستوضح  وافهم بعض هذه الكلمات لكني لم افهمها حتى من فم العجوز مباشرة …

ربما لكوني رجلا .. فلمّا احشر نفسي بين الظفر واللحم ؟؟!! ..ثم إنني  الزمت نفسي الحذر منذ سمحت لي  ( المسدة بصحن البيت  القديم ) بالاقتراب أكثر من كتاب حكمتها و أسرار خيوطها  ونغمات أوتارها بل والكثير من وجدانها وما تبقى من رماد مباخرها ..  فلا داعي لأن اتوقف كثيرا وابحث عن الاثباتات المادية والعلمية لــ( تصفيح الفتاة وحماية عفتها ) ببعض اللفات وبعض الحلوى والتمتمات !!!

فالسؤال عن “باب العفة” ترفض الاجابة عليه كل أعراف العالم …فلِمَ لا أحمد الله على السلامة واكتفي بما علمت وعرفت  وتذكرت بل وتمتعت ودهشت مما سمعت ورأيت ..وفقط ..  بزيارة للبيت القديم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* (الحولي ) عباءة من صوف للرجال
*(القراديش) : أمشاط لسحب الصوف من تشابكه بعضه ببعض
*(التصفيح ) : هو اسطورة قديمة عن حماية عفة البنات الأبكار

مقالات ذات علاقة

مسرح ليبيا الشنابو

عبدالوهاب قرينقو

الشخصية الليبية الغائبة

محمد عقيلة العمامي

بورتريه أمين مازن

أحمد الفيتوري

اترك تعليق