النقد

رواية موشومة بالموروث النسائي الليبي

 

قسامى هى الرواية الأولى للكاتبة الليبية “أمال العيادى”بعد مجموعتها القصصية الأولى “بقع ضامئة فى حضنى”.

قد يلفت القارىء فى البداية عنوان الرواية الذى يحمل معنى “القسمة والنصيب” والمشير أيضا لأسم يحمل وشم البادية الليبية .

 

ولكن حالما يتوغل القارىء بقراءة النص الروائى يدرك بان الكاتبة أمال العيادى تتجاوز المعنى الملفت لأسم الرواية لترسم صورة شخصية الأم “قسامى” المرأة الليبية البدوية الطيبة الصابرة المتماهية فى كثير من تفاصيلها مع الأمهات الموشومات بماضي مغلق بجدرانه وأبوابه ولكنه مفتوح في داخله على عالم خاص بهن لايسبر عمقه وأغواره إلا قلم عايش تفاصيله الدقيقة وتوغل فى مساربه ودهاليزه وهذا مافعلته الكاتبة فى روايتها الأولى “قسامى”.

لعبة الزمن وتقابلات الماضي والحاضر

الكاتبة تغزل بخيط الجرأة لتكتب زمن ماضي تحتضن حرارته فى ذاكرتها عبر سيرة أسرة معمدة بعمق موروث شعبى ليبى متكىء فى كثير من صوره وتشكلاته على الطقوس والمووايل الشعبية والحكايات الخرافية والأسطورية الذى برعت الكاتبة بالكتابة عنه ربما لمعايشتها لكثير من خطوطه وزواياه عبر سيرتها الشخصية فلا تكاد تنفصل الخطوط كثيرا بين النص الروائي والسيرة الذاتية للكاتبة التي يدعمها و يرسخها أكثر ذكر أسماء المناطق والشخصيات في الرواية بشكل مرتبط مع حياة الكاتبة الشخصية منها أسم الزوج وأسماء الأب والاخوة والأبناء .

ويبدو الصوت الروائى النسائي هو الوحيد المسيطر على كل السرد النصي الموشوم بذاكرة تفاصيل موروث شعبى لماضي طفولة بطلة الرواية التى تتقابل الأحداث بذاكرتها فتنطلق بفيض حكايا تفاصيل صغيرة تكسر الاعتيادية فى السرد الروائي ليتلاقى الزمن والمكان في مدينتها “بنغازى” من خلال توغلها فى مرابع طفولتها”بحى بوهديمة ” بمدينة بنغازى واصفة شوارعه وألعاب رفاق الطفولة من الجنسين “الوابيس”..أو لعبة “الاختفاء”التي تستحضرها هلوسات ذاكرتها تحت تأثير التخدير وهى على سرير الولادة بالمستشفى وذلك حين تقوم بالربط بين تفاصيل ماضي اللعبة وأختفاء احد رفاق الحي في لعبة أكبر من الفهم والإدراك كما تسرد في هذا المقطع من الرواية :

“أذكر فى ليلة سطع فيها بدر التمام رايت سالم يختبىء خلف محطة الكهرباء يلاعبنا “الوابيس”..كعادته ولكن هذه المرة كبر كثيرا وكبرنا معه فلم يستره جدار غرفة محطة الكهرباء فننقض عليه ..ليست ضحكاتنا التى تقفش مكمن اختباؤه ..نحن الاطفال اثناء لعبة “الوابيس”.. بل من رجال البوليس اجلاف غيبوه إلى الابد ..مات دون جنازة ..قتل غيلة وذكرياته معنا لازالت تتنفس تقيم له فى قلوبنا جنازة يوميا”

وهكذا تمضى الساردة فى سردها الهذيانى المحموم الذى منح الرواية حرارة ودفق سردى متقافز سريع مستندا على استدعاء الموروث الشعبي بتفاصيله الصغيرة الذى احتفظت به بطلة الرواية فى روحها وذاكرتها من والدتها”قسامى”..وكما لوأن الوالدة ” قسامى” هى صوت اللاوعي وصوت الباطن لبطلة الرواية التى لا تتمرد عليها كما يتمردن بطلات الروايات في تاريخ الرواية الليبية والعربية بالعكس الراوية تتماهى مع صورة الأم والجدة وتستدعى كل صور الماضي بحنان دافق ورغبة في أسترجاعه عن طريق ذاكرتها الموشومة به دائما فى كل تفاصيل الأمكنة التى ترتادها كي تسترجعه دون هوادة ودون كلل .

ميثولوجيا وموروث شعبي

فى النص الروائى “قسامى” تنثر الكاتبة عبر صوت الراوية الحياة فى المنسى والمهمل لشخصية الأم الليبية الموشومة بالبساطة والصبر على ثقل ثقافة المجتمع الذكورية فلا تئن ولاتتوجع بل تتقبل كل مايحدث لها بصبر تام كما فعلت الأم “قسامى” حين قامت بنفسها بخطبة أمراة لزوجها وزوجته لها وبررت ذلك ذلك في احد مقاطع الروايةبالقول:

“خطبتله امى امرأة تحت بند “كيف مايجيك الزمان تعاله”..و”يأخذنه الصبايا ولاتأخذه الدنيا”..

“قسامى” هو الصوت الحى للأم التى تعمد إلى نقل كل موروث مخزونهامن الطقوس الليبية والمورووث الشعبى الليبى بكل طقوسه وتفاصيله الى عقل وفكر الساردة \بطلة الرواية المتماهية تماما مع صورة الأم والعمة فتنسكب صور زمن الماضى عبر سرد روائي ينضح بالحنين للموروث الليبى الصرف فالرواية تزخر بالمواوويل الشعبية التي يصدح بها الأطفال فى ذكرى المولد النبوى الشريف او فى حكايات و”خررايف” قبل النوم والغيلان المتقافزة في عقول الأطفال الذين تهدهدهم الجدة بمواويلها الليلية أو حين تلوح صورة العمة في ذهن الساردة حين تسترجع ذاكرة طفولتها العائلية وهى على سرير الولادة بالمستشفى مستذكرة روح العمة التى تناجيها فى مونولوج دافق بالحنين:

“أين الملح الذي تذوقته في قناني السعد عندما كانت تعجنه لنا عمتي “حدود “فأقظم منه قضمة واضع باقيه تحت مخدتي لأحلم به “.

فالساردة في الرواية ليست متمردة على ماضى مثقل بطقوسه و ميثولوجيته وموروثه المحلى الخالص ، بالعكس هى تجد فيه الملاذ ولا تبتعد عن الأرث المعجون بطقوس الأهل والأقارب والجارات بل تستدعيه بكل ثقله المغرق فى ميثولوجيته الشعبية المنزاحة والمتدفقة من خلال شخصية الأم التي تبدو شخصية قوية عملت على غرز كل مورووثها الشعبى في عقل الساردة \بطلة الرواية التى يبدو من سردها لإحداث الماضي رفضها للحاضر الغير قادرة على التعايش معه والمتمثل في الطغيان المادى و خواء العلاقات الإنسانية وتبعثرها وتشيؤها وخلوها من الدفء الإنسانى الغامر الذى عاشته بطلة الرواية\الساردة رفقة العائلة الكبيرة الممتدة وفى رفض تام منها للزمن الحاضر الذى تعيشه ويتجلى ذلك في كثير من رصفها النصى المختلط مابين الماضى مع الحاضرو،كما تفعل حين تمد نظرها لمحل تزيين النساء الذى ترتاده ولكن عقلها الباطن يرفضه فتناجى نفسها فى مونولوج داخلى لايسمعه سواها عن رفضها لكل مايحدث فيه مستدعية ذاكرتها التزيين العربى التقليدى الذى تشربته من جدتها كما تقول في هذا المقطع من نصها السردى الطويل :

“ماله الاثمد الذى يجلى البصر –الكحل العرى الذى كانت تعده أمي من كحل الحجر مخلوط بسلك الذهب”

مفارقات الرواية بين التقليدية والحداثة

الرواية محتشدة بشخصيات قريبة من صوت الساردة ..الأم الأب ..الاخوة ..الخال ..الجدة ..الجد..الزوج وام الزوج ..تتقافز كل هذه الشخصيات بين أرجاء الرواية كما تتقافز الذاكرة بين الوجوه والاماكن دون أى رابط زمنى ..لأن فعل الذاكرة فعل تفكيكى هذيانى فى الرواية …فى مفارقة غريبة للرواية التى تنحو منحى حداثيا فى سردها الروائى سواء من حيث تشضى الذات الساردة فيها وانشطارها بين زمنين،وأنتقال الأزمنة وعدم تراتبيتها كما هو الحال فى السرد الروائى الحديث ،وتماشج الأصوات الروائية التي تخرج وتختفى من الرواية بشكل متواتر ..هكذا تبدو الرواية من خلال حبكتها الفنية ولكن عمق الرواية وموضوعها الرئيسى يبدو تقليديا تماما ومفارقا للرؤية الحداثية للرواية الحديثة التي يقول عنها الناقد شكرى عزيز بإنها:

“تسعى إلى خلق علاقات جديدة ،وتصدر عن وعى جمالي بتخطي الوعي السائد ويتجاوزه إلى أفاق جديدة”

وكأن التشبث بالموروث الشعبى وميثولوجيا الماضي ومحاولة أحياؤه عبر سرد الذاكرة الروائية لبطلة الرواية \الساردة يمثل نوع من محاولة الساردة للبحث عن بديل لواقع مأزوم ويعانى من جروح عصية على الشفاء لا حل له الا بالبتر النهائي لمكمن الداء فيه ولكن لأن ذلك صعب وبعيد المنال

لذا تجد الذات الساردة في الماضي الملجأ والملاذ الأمن من تغول الواقع بكل تشظياته الذى يبدو تأثيره واضح على الذات الساردة المنهمرة بكل عفويتها ،وأن كانت الكاتبة جنحت أحيانا إلى مخاطبة القارىء بشكل مباشر وكأنها توجه مقالة أرشادية له فى بعض مطارح الرواية ،ولكن السرد المتدفق للرواية منحها كثير من زخم الحياة المتدفقة لذاكرة تنتقل بمراياها وصورها بين “بيت العائلة ” بمدينة بنغازى إلى بيت الجد “بالمدينة القديمة” بمدينة طرابلس ولتجوس بذاكرتها المتخمةفى ماضي الأمكنة العابقة بكثير من سحر و جماليات أمكنة لم تعد تحمل الروح الخاصة بها التى رضعتها بطلة الرواية \الساردة من صدر عائلتها فترسخت وعاشت فيها ولم تتمرد عليها أو ترفضها أو ترى فيه مظهر من مظاهر التحجر بل بالعكس تماما هى مهجوسة بكل موروثها الشعبى والميثولوجى الذى تشربته من حكايا وتربية والدتها “قسامى”ووالدها الحاج فرج وجدها لأبيها القاطن بالمدينة القديمة بطرابلس،مستذكرة كل تفاصيل طفولتها للأعياد الدينية بالمدينة القديمة التى تستدعيها ذاكرتها حين تعود إليها في زيارة خاطفة لأسترجاع أحاسيس ونبض مشاعرها بحرارة المكان ودفئه الذىأاضحت تفتقده بعد رحيل سكانها الاصليين عنها.

رواية “قسامى “للكاتبة أمال العيادى تفتح أبواب السرد على حرملك نسائي مقفلة أبوابه وعلى دهاليز وطقوس من الموروث الشعبى الاجتماعي الذى برعت الكاتبة ربما بحكم معايشتها له وبفعل ذاكرتها اليقظة من نسجه في رواية ليبية هى أبنة مكانها ومنشأها وموروثها الأجتماعى والشعبى وخارجة من رحم جزء من المجتمع النسائي للمرأة الليبية فى زمن أندثر ولكن أثاره لازلنا نتلمسها فى الكثير من الصور والزوايا والملامح.

الكاتبة “أمال العيادى”أجادت كتابة نص روائي متشظى عن مجتمع نسائي لايجيد الكتابة عنه الا من عايش كل تفاصيله الصغيرة المتناهية فى الاحتجاب ،ولايفلح فى رسمه بلوحة نصية روائية إلا من كان نابعا من رحمه وجذوره .

مقالات ذات علاقة

أحياناً أكتفي بالمرور سريعاً*

المشرف العام

«زرايب العبيد».. الألم يحاصر القارئ

المشرف العام

مشاهدات قصيرة من الوطن الغائب

المشرف العام

اترك تعليق