قراءات

زخارف قديمة للأديب الكبير الراحل خليفة التليسي

كتاب زخارف قديمة.

 

(زخارف قديمة) صور قصصية للأستاذ المرحوم خليفة محمد التليسي صدرت في طبعتها الأولى سنة 1986 عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان. تحتوي هذه الزخارف الجميلة على ستة صور قصصية قصيرة جاءت على النحو التالي: (فراشيّة، الدرس، متى تبدأ الحياة، مظلومة، إلى أين، نورا) كان المرحوم خليفة التليسي قد نشرها بمجلة “طرابلس الغرب” على مدار عشرة سنوات خلال الفترة من سنة 1950 وحتى 1960 ميلادية، وهي تمثل بداياته في تجريب هذا الجنس الأدبي وولوج عوالمه الإبداعية، ومحاولة المساهمة فيه بكتابة نماذج بأسلوبه الخاص، والتي من بينها هذه المجموعة، ولكنه لم يواصل كتابة هذا الجنس الأدبي بعد انشغاله عنه بالترجمة وإعداد الدراسات النقدية الأدبية والتاريخية وتجميع المختارات والنفائس من الشعر العربي القديم والحديث.

وقد كتب المرحوم الأديب بشير الهاشمي مقدمة هذه المجموعة القصصية تحت عنوان جميل هو (ابن البحر يطرح لوحاته القصصية) يقول فيها: إن (… خليفة التليسي قد عصفت به مرافيء الرحيل بعيداً عن تجربة الكتابة القصصية إلى ألوان أدبية أخرى ونشاطات فكرية لعلها في مجمل خصائصها مغايرة ومناقضة لقدرات الاحتفاظ بالإبداع القصصي. وهو في الواقع لم يخلص لها الود بالاستمرارية والتواصل والاقتصار المركز عليها وإلا كان له معها شأن آخر..)
ومن خلال عنوان ومضمون أول قصة قصيرة منشورة بهذه المجموعة وهي قصة (فراشيّة) نلاحظ أن البواكير الأولى لقصص التليسي قد ظلت لصيقة بأحداث الواقع الاجتماعي شكلاً ومضموناً بحيث نقلت صوره وشخصياته وأفكاره البسيطة للقاريء فظهرت القصص في شكل تعبير مباشر عن الأوضاع الاجتماعية التي يعيشها الناس خلال فترة الخمسينيات وما قبلها واستثمار مضامينها لتوجيه النصح والإرشاد عبر شخصياتها التي ظلت نمطية مجردة من الأحلام والخيالات أو التطلعات التي تحلق بهم على أجنحة الخيال في عالم أرحب وطموحات واعدة ومستقبل أكثر إشراقاً، كما أنها لم تعمل على إدارة محركات العقل لبث أفكار جديدة فيه أو طرح قضايا فكرية أو فلسفية ترتقي به إلى مسافات أبعد من الواقع المعاش. وبالطبع فإن خليفة التليسي في هذه القصص لا يختلف عن غيره من كتاب القصة الليبيين في تلك الفترة سواء في تناول المواضيع الاجتماعية أو في عناصره الفنية التي يستخدمها في تصوير قصصه.

وفي كل الأحوال فإن قراءة هذه القصص ونقدها بمعايير الحاضر هو ظلم كبير لها، وتجني على إمكانيات تلك المرحلة لأنه يضعها في مقارنة غير متكافئة مع تطور النصوص القصصية من حيث الأفكار والمواضيع وتقنيات السرد والقص والرواية وكذلك أدوات النقد التي تتصدى لها. لذلك تظل هذه القصص تحتفظ بقيمتها الفنية التي اكتسبتها خلال فترة ولادتها وهي بذلك تكتسي أهمية تاريخية، ضمن غيرها من قصص تلك الفترة، تتمثل في ريادتها لفن كتابة القصة القصيرة في ليبيا ووضعها اللبنات الأولى لهذا الجنس الإبداعي الجميل.

إلى جانب ذلك فإن قصص (زخارف قديمة) للمرحوم خليفة التليسي تعتبر (… قيمة وثائقية في غاية الأهمية لذلك المجتمع القديم، وتطرح مؤشرات من الضوء لمن يريد أن يتبين عن كثب ذلك الواقع الاجتماعي وما تحدثه المؤثرات الناتجة عن تلك الرواسب والمخلفات، ومن أهمها وأكثرها خطورة موقع المرأة في داخله وما يحيط بها من أغلال وقيود، وما يوجد بينها وبين الرجل من فواصل وسدود).

وفيما يتعلق بشأن المرأة في تلك السنوات الغابرة فلا شك أنها كانت مهمشة وكان المجتمع يقزمها ويلطخها بنظرات العيب ويرسلها بسبب جنسها إلى أقصى حدود الإقصاء والتهميش. ولذلك فإننا نجد أن المرحوم خليفة التليسي يتخذ من الفتيات الأجنبيات، والإيطاليات على وجه الخصوص، شخوصاً يناجيها ويبثها رغباته وأحاسيسه ومشاعره تجاه الأنثى حيث يسمح له هذا الاختيار بإطلاق مشاعره في وصف أجسادهن وإبراز مفاتنهن الجمالية ونقل ذلك في صوره القصصية وزخارفه الجميلة.

وفي جانب أخر نجد أن مجموعة (زخارف قديمة) القصصية للمرحوم خليفة التليسي قد كشفت روحه الشاعرة وأن نزعة التجديد في الشعر كانت تتخلق مبكراً في باطنه وفكره من قبل أنه يطلقها صريحة في كتابه (قصيدة البيت الواحد) أو في المختارات من روائع الشعر العربي أو في النفائس أو حتى في ديوانه الوحيد، وقد ظهرت هذه روح الشعر الحديث وعبر عنها خلال حوار في قصة (نورا) التي ضمتها هذه المجموعة حيث يصور حواراً بين “أحمد” بطل القصة وبين الراوي الذي يسأله عن قصائده ومعلقاته فيجيبه قائلاً: (إن الشعر الذي أحسه أعظم من الكلمة، وأعمق من القافية، وأرحب من الوزن) وفعلاً هذا الفهم العميق للشعر هو ما طوره المرحوم خليفة التليسي بشكل متعمق في دراساته ونقوده الشعرية التي حقق بها صيتاً في العالم العربي.

وهكذا فإن (زخارف قديمة) المجموعة القصصية المبكرة للمرحوم خليفة التليسي رغم بساطتها موضوعياً وتقنياً، تظل بإيحاءاتها تعتبر أكثر من مجرد صور للقصة القصيرة لأن الإبحار بين سطورها والتمعن في ثناياها يجعلنا نؤكد أنها تتجاوز، في بعضها طبعاً، قالب أو شكل القصة القصيرة النمطي لتتواصل مع جنس أدبي أخر ألا وهو الشعر بمفهومه الحداثي لدى المرحوم خليفة التليسي.

مقالات ذات علاقة

الرواية الليبية… الإنسان والحيوان والطبيعة

المشرف العام

لمحة عن تاريخ‮ ‬ الفنون التشكيلية في ليبيا

المشرف العام

صُراخُ الطابقِ السُفْـليِ .. بعضُ تاريخِنَا المؤلِم

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق