المقالة

لاعب السيرك ولاعب السلطة

رغم خصوصية شخصية لاعب السيرك، خصوصا ذلك الذي “يطير” متنقلا في الهواء من حبل متأرجح إلى آخر، وغرابتها، إلا أنها لم تحظَ، في حدود متابعاتي، باهتمام الروائيين والقصاصين واستبطان مشاعرها وهي تؤدي لعبتها الخطرة.

فمثل هذا الشخص، رجلا كان أو امرأة، عليه أن يباشر لعبته متجردا من انشغالاته وهمومه الحياتية اليومية، ويشحذ حواسه متضافرة ويُفعِّل حدسه كاملا ويسيطر على قواه العقلية مجتمعة. لأن أي خطأ بسيط قد يكلفه حياته وحياة بعض المشتركين معه في اللعبة.

في هذا السياق أستحضر قصيدة “مرثية لاعب سيرك” للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي.

يقول مفتتح القصيدة:
في العالم المملوءِ أخطاءَ”
مطالبٌ وحدكَ ألا تخطئا
لأن جسمكَ النحيلْ
لو مرةً أسرع أو أبطأَ،
هوى.. وغطّى الأرضَ أشلاءَ!”.
فثمة دائما، ولو على هامش الشعور، توجس من الوقوع في الخطأ:
“في أي ليلةٍ تُرى يقبعُ ذلك الخطأْ؟”.
يصبح الكيان برمته رهينة المغامرة:
حين يصيرُ الجسمُ نهبَ الخوفِ والمغامره”
وتصبحُ الأقدامُ والأذرعُ أحياءَ
تمتدُّ وحدها،
وتستعيد من قاع المنون نفسَها”
*

كتب حجازي قصيدته هذه سنة 1966، ما حدا بالبعض إلى اعتبار لاعب سيرك قصيدته هذه رمزا للرئيس المصري، حينها، جمال عبد الناصر، بصفته حاكما فرديا شموليا، أي دكتاتورا.

نحن من الذين لا يهتمون بمقاصد الكاتب المعلنة، ولا يفتشون عن مقاصده الخفية، ولا يعتبرونه حجة ومرجعا نهائيا في تفسير نصه، وإنما يعتنون بـ “مقاصد النص” الكامنة في ثناياه. ومن هنا، وبغض النظر عما إذا اعتبرنا عبد الناصر دكتاتورا أم لا، نرى أن القصيدة تنفي، ضمنا، هذا التفسير بداية من مفتتحها. ذلك أنه لا يمكن وصف الحاكم الشمولي المستبد بأنه الوحيد المطلوب منه ألا يخطيءَ في عالم يعج بالأخطاء والمخطئين.
*

إلا أنه يمكن العثور على تناظرات بين “ألاعيب” لاعب سيرك من هذا النوع و “ألاعيب” شخصية الدكتاتور:
فلاعب السيرك يقوم، من خلال استعراض مهاراته في الإمساك بالحبال في اللحظة المناسبة، بإلهاء جمهور المتفرجين وتسليتهم. بالمقابل يقوم الدكتاتور بإلهاء عموم الشعب، دون تسليته، من خلال مهارته في الإمساك بـ “حبال السياسة” وعدم إفلاتها والقيام بألاعيب معينة. لهذا نصف الحاكم الدكتاتور الذي يتمكن من الاحتفاظ بدفة السلطة في يده مدة طويلة بأنه يجيد اللعب على التناقضات واللعب على الحبال.

كذلك يعتبر الحضور الدائم لهاجس الخوف من الخطأ قاسما مشتركا بين لاعب السيرك والدكتاتور (وهو أكثر مداومة لدى الدكتاتور). ففي الحالتين يكون الخطأ مهلكا، أو على الأقل كارثيا.

إلا أنه لا أحد تقريبا يتمنى وقوع هذا الخطأ من قبل لاعب السيرك، في حين تتمنى الغالبية وقوعه من “لاعب السلطة”.

____________________

نشر بموقع بوابة الوسط.

مقالات ذات علاقة

جرد القلوب وأحلام لا تؤجل

المشرف العام

د.عبد الله مليطان.. جبرتي الثقافة الليبية

عبدالرحمن جماعة

الهوية الوطنية

قيس خالد

اترك تعليق