المقالة

لهذه الأسباب جونسون لا يعتذر

إحدى الطرف الليبية تقول أن مسلما من يوغوسلافيا كان يعمل طبيبا في إحدى المدن، وأثناء إحدى جولاته في المنطقة مر بقرية وقت أذان العصر، فدخل جامع القرية وصلى مع المصلين، وحين خرج لم يجد حذاءه فأُحرج أهل القرية وبدءوا البحث معه، وكان أحد الشيوخ يحثهم على البحث وهو يقول : يا جماعة دوروا معانا على كندرة النصراني.

نطلق في لهجتنا الشعبية مفردة “نصراني” على كل أجنبي ، خصوصا إذا كان أشقر ملون العينين، كما نستخدمها عادة لوصف الشخص القاسي أو الخبيث، ولأن الملامح هوية في حد ذاتها فإن هذه المفردة لا تفرق بين الأجانب ومن أية ديانة، لدرجة لم تشفع لليوغسلافي المسلم الذي صلى في المسجد من أن تطلق عليه.

الليبيون حساسون جدا ، خصوصا فيما يخص نرجسيتهم واعتدادهم بالنفس، وهم إذ يجلدون هذه الذات علنا، ويطلقون على أنفسهم أقذع الشتائم الممكنة، لا يسمحون لغير الليبي أن ينتقدهم حتى بشكل موضوعي، خصوصا النصارى.

وربما هذا هو السبب وراء الضجة والانفعال المبالغ فيه من قبل الكثيرين تجاه تصريح وزير الخارجية البريطاني، بوريس جونسون، الذي قال ،أمام المؤتمر العام لحزب المحافظين، أوائل الشهر الجاري: “إن الشركات البريطانية قادرة على تحويل سرت إلى “دبي أخرى”، بمجرد أن تتخلّص المدينة الليبية من الجثث.”.

ولأن الليبيين الذين أنا منهم حساسون جدا، ومتشائمون جدا، ولا ينظرون إلى نصف الكوب المملوء، فقد نسوا الجملة المهمة “تحويل سرت إلى دبي أخرى” وتمسكوا بحكاية تنظيفها من الجثث، مع ملاحظة أن وسائل إعلامنا جميعها تتحدث طوال الوقت عن الجثث المجهولة وعن المقابر الجماعية التي يتم العثور عليها، وعن الجثث الملقاة في مكبات القمامة ، ويرجع ذلك إلى فكرة أنه مسموح لنا أن نصف أحوالنا كما نشاء وغير مسموح لأي أجنبي أن يقول ما نقوله حتى وإن كان حقيقة.

عموما، ثمة خصائص لمن يتقلدون مثل هذه المناصب الكبرى في الدول . خصائص ذاتية تتعلق بطبيعة الشخص وطريقته في الكلام التي أحيانا لا تتغلب عليها واجباته الدبلوماسية، وربما تصريحات شخص أرعن، مثل ترامب، رئيس أكبر وأقوى دولة في العالم، تؤكد هذا الطيع الشخصي الذي يأتي كنقيض لما تتميز به شخصية الرئيس السابق ، أوباما ، من تهذيب، وهما شغلا المنصب نفسه. ولو طلب من ترامب الاعتذار عن حماقاته لأكمل مدته الرئاسية الثانية وهو يعتذر عما قاله في مدته الأولى . ولعل وزير خارجية بريطانيا من ذلك النوع من الشخصيات التي لا تفكر فيما تقول حتى وإن كانت على رأس دبلوماسية الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وهو أحرج حكومته بتصريحات كثير مماثلة، أهمها تصريحه تجاه دول الخليج، والسعودية خصوصاً، باتهامها مباشرة بصناعة الإرهاب والذي كفرت عنه رئيسة الوزراء، تيريزا مي، بحضورها “الإكسسواري” لقمة دول مجلس التعاون الخليجي . وهذا النوع من الشخصيات لا يعتذر بطبيعته عما يقوله، بل من الممكن أن يزيد الجرعة حين يلمس في المطالبة نوعا من المزايدة، وهذا ما حصل فعلا.

حساسيتنا مفرطة ، بل أنها تجيد النسيان ، وهي حساسية لا تملك أي قدر من النقد الذاتي، بل تذهب إلى درجة غير مريحة من المزايدة ، وكأننا نسينا أسلوب إعلامنا ودبلوماسيينا و”قايدنا” طيلة 4 عقود في التعامل الفظ مع الدول والمجتمعات والشخصيات السياسية الأخرى، وهي أوصاف مارسها إعلامنا بغزارة وحولها الكثير منا، ممن كانوا يحتشدون في الساحات احتفاءً بالقايد، إلى هتافات يسمعها العالم.

ألم نطلق على الرئيس ريغان لقب راعي البقر ونحن نهتف بصوت عال : داون داون يو إس أي، ونسمي حسني مبارك حسني البارك، وبطرس غالي بطرس الرخيص؟ ألم نلقب الرئيس السوداني بالذيل النميري، وياسر عرفات ياسر عرفناه، والسلطان قابوس السلطان كابوس، ودولة عمان مربط الحمير….إلخ، والقائمة تطول، للدرجة التي لو طلب منا كل هؤلاء الاعتذار لاستغرقنا عشرات السنين ونحن نعتذر.

البعض الذي يحاول أن يكون أكثر موضوعية ويجعل حساسيته أكثر فخامة، يقول، وهو يعترف ضمنيا بظاهرة الجثث تحت الركام: أن وزير الخارجية وإدارته هي السبب وراء كل ما حدث وهي السبب في تراكم الجثث. وهذا تبرير أقبح من الذنب، لأن لا أحد خرّب بلدنا ونشر الدماء فيها والجثث سوانا نحن . نحن أنفسنا لا أحد غيرنا. وحتى إذا ما سلمنا بنظرية المؤامرة، وبأن “النصارى” أعداؤنا، وهو تسليم افتراضي من قِبَلي، فأن المتآمر أو عدوك لا يستطيع أن يفعل شيئا لك إلا حين يستخدم يدك نفسها، وحين نقرر أن نكون ألعوبة في يد أي أحد يريد أو لا يريد لنا الخير فلن نلوم إلا أنفسنا.

نلوم هذه الدول لأنها من ساعدت في إسقاط النظام السابق، ونلومها لأنها فضلاً عن هذه المساعدة لم تبنِ دولتنا وتحقق استقرارها، ولم تساعدنا على أن نحب بعضنا البعض ، وكأننا القُصّرُ في حضانة عاجزين حتى على الذهاب إلى الحمام.

المضحك في الأمر كله، حين حاولت هذه الدول الإسهام في حل المشكلة الليبية علت الأصوات الصادحة ضدها باعتبارها تتدخل في الشأن الليبي الداخلي وتنتهك السيادة وتمارس الوصاية. وحين انسحبت هذه الدول من باب احترام السيادة بدأت الأصوات نفسها تعلو بكونها تخلت عن الشعب الليبي في أزمته . وهي مفارقة مضحكة مبكية نعبر عنها نحن الذين نتكلم نفس اللغة بقولنا: “تحب تفهم ادوخ” ، ما بالك بمن لا يتكلم لغتنا، ويكتب بعكسنا من اليسار إلى اليمين، ويريد أن يفهم. لا يدوخ فقط لكن دماغه ينفجر.

لا نريد اعتذارا من جونسون عن جملته القاسية أو الساخرة أو المتبجحة التي في النهاية وصفت واقع الحال لدينا، لكننا نريد اعتذارا من هؤلاء الليبيين الأقحاح الذين تصدروا المشهد منذ انتخابات 7/7/2012 م، وكانوا بشكل مباشر أو غير مباشر وراء تكدس الجثث في كل بقعة من أرضنا: المؤتمر الوطني العام، حكومة الكيب ، حكومة زيدان، مجلس النواب، حكومة الثني، المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق غير المتوافق عليها. اعتذار من كل السلطات التشريعية والتنفيذية، الشرعية وشبه الشرعية وغير الشرعية التي عاثت فسادا في بلدنا. وقد يقول قائل أن ثمة استثناء، وأن بينهم الوطنيين والشرفاء والنزهاء، وحسب مفهومي لأبجديات أخلاق المهنة لن استثني منهم إلا من قدم استقالته، لأن الوطني والشريف والنزيه هو الذي يقدم استقالته حين يدرك أنه لا يستطيع أن يقدم للناس الذين حمّلوه الأمانة شيئا.

اعتذار عن اغتيال نخب ليبيا من الرجال والنساء ومن الاختصاصات كافة.
اعتذار عن الرؤوس المقطوعة بسكاكين من فتحتم لهم الحدود واستقبلموهم في المطارات والموانئ.
اعتذار عن المخطوفين وعن من يعذبون حتى الآن في السجون.
اعتذار عن حرق ثرواتنا ومقدراتنا وتدمير مؤسساتنا الحيوية.
اعتذار عن الطوابير الطويلة أمام المصارف من أجل ما يعادل 50 دولارا كل ثلاثة شهور.
اعتذار عن المهجرين بمئات الألوف خارج وطنهم يعانون ضيق العيش ويهانون كل يوم في الغربة.
اعتذار عن تشريد سكان مدينة تاورغاء لسبعة سنين متواصلة يعيشون في وطنهم في مخيمات لجوء.
اعتذار عن معتقلات المهاجرين النازية، وعن مياهنا الإقليمية التي تكدست فيها الجثث بالآلاف.
اعتذار عن ما نلاقيه من عذاب يومي من أجل الحصول على قوت يومنا في إحدى أغنى دول العالم.
اعتذار عن أموالنا المسروقة بالمليارات، وعن مرضانا الذين يهيمون بين مستشفيات العالم بحثا عن شفاء.
اعتذروا، ولا تضحكوا علينا باستعراضكم الفج عبر مطالبة الوزير البريطاني بأن يعتذر وكأننا دولة محترمة لم يخدش كرامتها إلا هذا المجاز السياسي، أو كأن الليبيين الذين يعيشون أسوأ أيامهم يعنيهم هذا التصريح، وكأنكم لم تملئوا هذه الأرض التي انتفضت من أجل كرامتها بالجثث المجهولة وغير المجهولة، وكأنكم لم تتسببوا في تحويلها إلى مقبرة جماعية بكل معنى الكلمة .

جونسون لم يُصلِّ معكم ولم يفقد حذاءه، لكن شعره الأصهب وتهكمه ذكركم بأنه نصراني لا يحق له أن يقول عنا حتى الحقيقة، فطلبتم منه الاعتذار احتراما لمن ضحوا بأرواحهم، فأخذته العزة بإثمكم ورفض الاعتذار قائلاً لكم : أعتقد أن أفضل شيء يمكن أن تفعلوه هو إحلال الأمن في ليبيا وسرت، وهكذا فقط يمكن أن يكرم الذين سقطوا أثناء محاربة داعش في ليبيا.

يوجه هذا الحديث للساسة الذين دمروا ليبيا لأنهم المصرون على المطالبة باعتذار جونسون كحالة من التطهر الجماعي، وجونسون لن يعتذر لأن الاعتذار نبالة توهب لمن لم يخطئ من طرف من أخطأ. أما الشعب المنهك فلا يهمه اعتذار جونسون ــ الذي كم تنافستم على رضاه ــ لأنه يريد منكم اعتذارا بحجم هذا الوطن الشاسع من أبناء جلدته الذين سرقوا أحلامه وجعلوه في الحضيض، وجعلوه مادة لسخرية القريب والبعيد.

____________________

نشر بموقع 218

مقالات ذات علاقة

الصحافة الإلكترونية الليبية

رامز رمضان النويصري

القطار والشعر والبلد البعيد

سالم الكبتي

إلى إيما

شكري الميدي أجي

اترك تعليق