من أعمال التشكيلي معتوق أبوراوي
قصة

ذاكـــــرة وجـــــع

بالقاسم السحاتي

من أعمال التشكيلي معتوق أبوراوي

 

مربكة تلك اللحظات .. شاهدته من بعيد ممدداً يحيط به الأطباء والممرضات بعضهم يجتمعون حول رأسه .. ليأتي آخرون مسرعين يحملون اداوات طبية .. يتحسسون يديه .. يفتحون عينية المطبقتين .. وتهدأ الحركة قليلاً بجواره .. يتهامسون وعيونهم معلقة بأحدهم الذي تلتف حول عنقه سماعة كشف والذي رأيته يرفع كمامة الأوكسجين عن فمه وقام الآخرون بنزع الأسلاك من يديه وصدره ورجليه ووضعوا فوق جسده ملاءة بيضاء قامت إحدى الممرضات برفع رأسه ووضعت طرف الملاءة تحته .. ارتسم شكل وجهه بوضوح من خلالها .. وتركوه ساكناً وحيداً ورحلوا .. اقتربت منه ونظري مسمر على وجهه .. تراءى لي أن الملاءة الملتصقة بفمه ترتفع وتنخفض ببطء .. وأحيانا أشاهدها تتوقف .. لحظة صمت طويلة تخللتها أصوات عربات الأدوية والطعام تجوب الممرات وبعض القهقهات البعيدة التي تتقاطع مع أنات وصرخات مكتومة .. اندلقت دموعي من دون سابق إنذار ولم يفلح تجفيفي لها بظهر يدي .. سمعت صوت رجل خلفي يقول (لوسمحت) .. كان يدفع إمامه سريرا متحركا لنقل المرضى .. الصقه بجوار السرير وساعده ثلاثة رجال آخرون في نقله بتأن مابين السريرين وهم يرفعونه بعد جذب إطراف غطاء السرير .. أصبح جسده ثقيلا جداً .. تقوس ظهره إثناء رفعه وتعثر بالسرير المتحرك ما جعله يتزحزح عن موضعه .. مد احدهم له رجله وضغط على مكبح العجلة ليتوقف .. لاادرى كم مضى على وقوفي .. لكنني انتبهت إلى أنى أقف بجوار سرير عار من كل شيء حتى من غطائه وأصبح مجرد جلد اسود يشعرك بالبرد حد القشعريرة .. وبجواره درج من الحديد لم تسلم زواياه من الصدأ وتصدع بابه ولم يعد يُحكم الإغلاق .. تربض فوقه قارورة ماء نصفها فارغ وبعض المناديل الورقية المكورة وصورة طفلة صغيرة مبتسمة .. وكمن يتابع أحداث شريط سينمائي وداهمه النعاس واستيقظ في نهايته .. حدث انقطاع في تسلسل الأحداث .. حاولت ترتيبها من جديد في مخيلتي .. الغرفة تعج بالحركة .. يدخلون ويخرجون .. يرفعون يديه ويطلقونها فتهوى مرتطمة بحافة السرير .. يتهامسون .. ينزعون عن فمه كمامة الأوكسجين .. يتفرقون .. الملاءة البيضاء تحت رأسه .. شاهدته يتنفس والملاءة تتحرك فوق فمه .. رفعوه .. وضعوه فوق سرير الإسعاف .. و .. و .. و .. هنا حدث خلل .. كيف سقط مشهد مغادرتهم به للغرفة من مخيلتي؟ .. ولا يمكنهم المغادرة من دون المرور المحاذي لجسدي .. شعرت بالبرد يتسلل من قدمي .. وكشاف شديد الإضاءة يقترب من وجهي .. كان جسدي عار لاتستره إلا قطعة خضراء رقيقة ليست من القماش .. وفتاة سمراء تتحسس فخذي وتسكب سائلا ذهبيا وتجففه بقطعة قطن .. وتعاود السكب والتجفيف .. ومن بعيد سمعت صوتا يسألني (مااسمك؟) .. ابتسمت وحاولت إجابته غير اننى شعرت بثقل في لساني ووجدت صعوبة في نطق اسمي .. فاكتفيت بإطباق عيناى وشعرت بتحرري من جسدي وغمرتني راحة لاحدود لها .. وأنا اسمع صوت من يسألني عن أسمى يغرق ويضعف ويبتعد حتى لم اعد اسمعه .. انفتحت امامى مساحة ارض منبسطة كبيرة .. ووسطها شجرة هرمة .. متهالكة .. تحوم حولها الطيور .. ووجدتني اتجه إليها فلا يوجد شيء آخر يمكن الاتجاه إليه .. وبالرغم من اننى أشاهدها قريبة منى غير أن المسافة بيننا لم تنته .. وانتبهت على صوته قريب منى جداً واناملى تتحسس يده .. صافحني وضغط على اصابعى بكفه .. رغم الضعف الذي يعترى جسده .. ووجوده ممدداً لأيام في سريره من دون حراك كنت ارقب عينيه وتوثب شفتيه للكلام .. قال بصوت واهن: (عندما تبحث عنى يوماً ولاتجدنى لاتبكى .. سأكون في مكان ما أشاهدك وأرافقك وأحكى لك دون حتى أن تسمعني) .. كلهم يقولون هكذا عندما ينوون الغياب من دون رجعه .. أدركت اننى لن أراه .. دفنت راسي في صدره وبكيت بحرقه .. بدت كلماته لي مألوفة .. ذات مساء وكأنه في زمن آخر وحياة أخرى .. وإسفلت اسود تبتلعه السيارة التي تقلنا الى جوفها وهى تنهب الطريق و كلما توغلت بنا في الزحمة وتدفقت علينا سيارات أخرى كثيرة من الشوارع الفرعية كان ينتابني خوف شديد و ازداد التصاقاً بأبى ينتابني شعور بأنه الوحيد في هذه اللحظات القادر على منحى الآمان ولن اضيع في هذه الشوارع المترعة بناس بدت لي إشكالهم مختلفة يرتدون ملابس غريبة لم اعتد روؤيتها وعربات تجوب مختلف الاتجاهات بإحجام مختلفة ومزامير مزعجة وأصوات وصيحات تشبه الصراخ لم اعرف من أين تنطلق ولامن يصدرها ما يزيد من اصرارى بالتشبث بذراع أبى الذي حاول أن يخلصه منى لمواصلة حديثة مع السائق الذي بدأ متذمراً من كل هذه الضوضاء التي أصبحت تغرق فيها المدينة انعطف السائق بسيارته تجاه اليمين كان طريقا متسعا في بدايته وبعد مسافة قصيرة أصبح يضيق ودخلنا طريقا متعرجة غير معبدة وأصبحت المباني تختفى من جانبي الطريق ومن النادر أن تصادفنا عربه أخرى لاح من بعيد مبنى قديم ضخم متهالك كلما اقتربنا منه اتضحت ملامحه أكثر له باب ذو ضلفتين من الحديد كبير يتوسط أحداها باب صغير يسمح بمرور شخص واحد فقط .. أوقف السائق السيارة بجوار بعض العربات المتوقفة نزل أبى وفى يده حقيبة صغيرة وباليد الأخرى يمسك بمعصم يدي .. طرق الباب بهدوء فلم يستجب احد كرر الطرق بتواصل وأكثر قوة حتى سمعنا صوت قرقعة القفل من الداخل وصرير الباب وهو يفتح وبرز لنا رأس رجل مسن وجه متجعد ويلتحف بجلباب اسود. رتقت بعض أجزائه بخيط ابيض ما رسم بعض الأشكال الهندسية عليه دوائر ومربعات وخطوط طويلة تحدث معه أبى قليلاً هز رأسه وقفل الباب وذهب. تمنيت أن تنتهي هذه الرحلة ونعود الى بيتنا سريعاً .. كم اشتقت لتلك ألقطعه الصغيرة من الأرض التي زرعت بها بعض النباتات وأخفيت أمرها عن الجميع فلا يعرف مكانها غيري كانت تلك المساحة الصغيرة هي دنيتي التي تحتويني أنا فقط أنا من يزرعها ويهتم بها هى عالمي أنا وحدي .. أمس قبل سفري مع أبى رسمت حولها سورا من الأحجار وحفرت بها جداول صغيرة متجاورة عندما اسكب الماء في أحداها تصل إليها كلها وماازعجنى هو وجود بعض الحشرات بعضها طائر وأخرى زاحفة تتسلق سيقانها وتبدأ في قضم أوراقها تحدث بها ثقوب دائرية .. سمعت تلك القرقعة وصوت صرير الباب مرة أخرى وفتح الباب بشكل أوسع ليسمح لنا بالدخول وأشار بيده في اتجاه مبنى منفصل عن المبنى الكبير ويبتعد قليلاً عن الباب الذي سمعته يقفل خلفنا بشدة وقال: (اذهب الى هناك) اتجه أبى الى حيث أشار الرجل بخطوات واسعة وأنا متمسك بيده واعجز عن مجاراته في المشي ما جعلني أتعثر وأنا أحاول اللحاق به دخلنا المكان الذي كان يعمه السكون إلا من صوت خطوات أبى الثقيلة و تجر خلفها خطواتي التي تقترب من الهرولة وبعض أصوات أجهزة بعيدة تصدر صافرات متقطعة وصلنا ردهة تتوسطها طاوله تجلس خلفها امرأة سمراء بدينه ترتدي نظارات طبية ومنهمكة في أوراق بين يديها حتى أنها لم تنتبه لقدومنا) .. احم احم .. السلام عليكم (.. لم ترد التحية ولكنها نظرت الى أبى الذي دفع إليها ببعض الأوراق بدأت تتفحصها ثم قالت (أين هو؟) أشار أبى بسبابته نحوى فأدركت أنها لم تتفطن لوجودي حيث كان ارتفاع الطاولة أطول منى ما جعلها تقف وتنحني قليلا للأمام حتى انضغطت بطنها على حافة الطاولة لتشاهدني وهى تنزل نظارتها الى أرنبة انفها ما جعلني التف خلف أبى وأنا استرق إليها النظر من جانبه وازداد تشبثاً بذراعه .. تمتمت ببعض الكلمات لم افهمها وعيناي معلقتان بشفتي أبى الذي قال: (هو يسمع ولكن يعانى من صعوبة في النطق والفهم) راودتني رغبة شديدة للإ رتماء في حضن أبى والبكاء .. أحسست اننى عبء ثقيل على كاهله وان هناك شيئا سيحدث لملمت الأوراق التي أمامها وقالت (هيا بنا إلى القسم) .. وعادت بنا من الممر نفسه هي في ألمقدمه وأبى يتبعها وأنا متمسك به حتى خرجت بنا واجتازت حديقة مهملة تتراكم فيها القمامة وذهبنا الى المبنى الكبير عند دخولنا شعرت بالبرودة .. كانت هناك العديد من الممرات وهناك الكثير من الضوضاء وصراخ أطفال وبعض الهمس .. توقفنا أمام غرفه مغلقه طرقت هي الباب وطلبت منا الانتظار ودخلت واسند أبى ظهره للجدار وانحشرت أنا بجانبه متمنيا لو أنى أغمض عينيا وافتحهما لأجدنى في عالمي حيث الجداول والنباتات التي أكاد اسمعها تستغيث الآن وتلك الحشرات الزاحفة تمزق أوراقها الخضراء وتهددها بالذبول مثل ذلك اليوم الحار الذي شهد هجوما شرسا عليها وفقدت بعضها ولكن نجحت في إنقاذ الباقي .. جذبني أبى أمامه ووضع وجهي بين كفيه ولم أشاهد قبل ولابعد ذلك اليوم تلك الدمعة التي لاحت في عيونه وهو يقول : (عندما تبحث عنى يوماً ولاتجدنى لاتبكى .. سأكون في مكان ما أشاهدك وأرافقك وأحكى لك من دون حتى أن تسمعني

مقالات ذات علاقة

أقـاصيص

خالد السحاتي

كلاب بني عبس

سعيد العريبي

سائق النائبة

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق