قراءات

صحراء التتار . . نظرة خاطفة

الكاتب الإيطالي دينو بوتزاني.
الصورة: عن الشبكة.

تطلب الأمر من الروائي الإيطالي دينو بوتزاني مائتان وستة وأربعون صفحة فقط ليطرح فكرة معينة راودته ويسوق معنىً رأى أنه مهم ويستحق أن يؤلف عنه هذه الرواية التي بين أيدينا اليوم , رواية ” صحراء التتار ” والفكرة التي أرَّقت بوتزاني وجعلته يمتشق قلمه ليصوغها في شكل رواية تضاهي روائع روائية كثيرة تتلخص في , كيف يمكن للروتين وانتظار ما لا يجيء والتعلق بالوهم , أن يستنزف إنسانا ما ويفرغه تماما من جدواه كإنسان حتى آخر نفس , والفكرة هنا أبعد من الحدث حتى وإن استعانت به لإظهار تفاصيلها , فهذا جيوفاني دروغو بطل الرواية , الضابط الذي تصدر الأوامر والأعراف العسكرية بنقله للعمل في حصن باتسياني المنعزل الذي يقع على مشارف صحراء شاسعة , يقصد بطل الرواية الحصن وفي نيته إنقاد نفسه من الموت البطيء وهو الفتى الصغير في السن والممتليء بالحيوية , بتقديم طلب نقل إلى نقطة أقل انعزالا أو العودة إلى المدينة التي أتى منها بعد أربعة أشهر على أكثر تقدير , ثم رأينا كيف ان هذه الأربعة أشهر تتمدد لتصبح سنوات حتى تموت الرغبة في التغيير وممارسة الحياة بحيوية أكثر والاستسلام للروتين والأنطفاء البطيء , وحين ينتبه الضابط يكون الأوان قد فات ويكتشف أن العمر مضي وأن العودة بالزمن إلى الوراء أمرا مستحيلا , وحتى عندما يغادر البطل الحصن الذي يشرف على صحراء التتار أو الصحراء التي اتى منها التتار فيما سبق من الزمن , والتتار هنا رمز للخراب والدمار ومصدر للرعب أتى به الروائي حتى يعزز فكرته الأساسية , وحين يغادر البطل لقضاء إجازة – وأعتقد أنها الوحيدة طيلة إقامته في الحصن التي ناهزت الثلاثون عاما – ويعود إلى بيته وأمه وإخوته يلفهُ صقيع الغربة وهو بين أهله وفي بيته وبمدينته التي ترعرع فيها ويتلبسه إحساس بأنه ضائع ولا ينتمي للمكان ويقطع مع ذكرياته هناك , بما في ذلك علاقة غرامية قديمة ويستعجل العودة إلى الحصن لينطفئ مثل الذين سبقوه من العسكريين والذي أمضى بعضهم خمسة عشرون عاما في الحصن في انتظار الحرب أو قدوم التتار من جهة الشمال , ويحدث خلال هذه السنوات أن يتم رصد أجسام متحركة في نقطة بعيدة فيتأهب جميع من في الحصن للحرب والقتال وعندما تقترب هذه النقاط السوداء بالقدر الذي يمكن التأكد من ماهيتها يتضح بأنها ليست جيوش التتار وإنما هي فرق عمل ومسح صديقة , فيُصاب بعض من في الحصن بخيبة أمل عارمة ومن بينهم جيوفاني الذي عاش حياته منتظرا هذه اللحظة الحاسمة , فيما يتنفس البعض الآخر ممن لا يحبذون الحرب الصعداء , ويحدث في نهاية الرواية أن يصل التتار حقا وتُعلن حالة الأستنفار للمواجهة والحرب , وبعد ان يصل البطل إلى رتبة عسكرية عالية وأقدمية ويتقلد منصب قائد حامية الحصن يقرر الضباط المساعدون له عدم أهليته للقيادة نظرا لاعتلال صحته وإصابته بمرض في الكبد فيقررون تبعا لذلك استبعاده وإرساله في رحلة علاج ونقاهة إلى أحد المشافي النائية وسط معارضته الشديدة لهذا القرار والتي لم تجدي نفعا أمام إصرار أصحاب القرار , ويتم إقصاءه في اللحظة التي ظن فيها أنه سيستعيد ما قتله في روحه الروتين ويستعيد جدواه كإنسان وكضابط ينتمي لمؤسسة عسكرية عريقة , ليموت حزنا وكمدا نتيجة المرض والمعاناة النفسية الشديدة هناك في البعيد وحيدا وتطوي الحياة قصته مثلما طوت قصص الملايين قبله.

كتاب صحراء التتار.
الصورة: عن الشبكة.

والمثير في أمر هذه الرواية أن مؤلفها وإن كان قد أقحم في سياقها الكثير من الشخصيات الرئيسية والثانوية ونوَّعَ في أحداثها كضرب من الإثارة والتشويق والتكثيف وضخ للحيوية في مفاصلها وتعزيز للفكرة الأصل , إلا أنه لم يحدد الأماكن ولم ينسب أبطاله لجنسية أو فئة معينة – رغم أن أسماء الشخصيات إيطالية – وظلت الشخصيات تحلق في فضاء إنساني مفتوح في إشارة إلى احتمال وقوع وتكرر هذه النماذج الإنسانية في أي مكان من العالم , أي أن الروائي . . في تصوري . . يعالج القضية ويطرحها من منظور إنساني شامل ولا ينظر إليها من ناحية فئوية ودون تحيز لانتماء معين مع إمكانية تكرر هذه الأحداث في ظروف أخرى مشابهة وبطرق مختلفة , أو هذا ما أراد ضمنا أن يقوله المؤلف.

وبصرف النظر عن الأحداث واختيار الشخصيات والعمل على الحبكة وهي الأشياء والتقنيات المهمة عندما تم تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي , مثّلت رمزية الرواية وفكرتها التي قد تعجز السينما على تجسيدها , مثّلت أهمية قصوى لناحية انتشارها ونجاحها كعمل أدبي يضاهي ما خطَّهُ كافكا وبعض الروائيين الذي تحولوا بالرواية من نهجها الواقعي المحض إلى النهج الرمزي والمفاهيمي والتعبيري – كما حدث في الرسم – ومعهم لم تعد الرواية مجرد قصة تُروى للمتعة والتسلية أو للموعظة وتزجية الأوقات بل منبر لنشر الأفكار وتمرير الرؤى والتعبير عما يداهم النفس من هواجس ووساوس , والرمزية التي اشتغل عليها بوتزاني تمثلت في التنبيه إلى خطورة الإستسلام للروتين والإغراق في الوهم , وهما الأمران اللذان يؤديان في النهاية إلى الأنطفاء والخمود كما حدث مع جيوفاني عندما استكان لروتين قاتل وهمّ راسخ وأذعن طائعا لنظام عسكري صارم وطقوس حديدية يبدو أنها قتلت في نفسه أي طموح للتغيير لينتهي إلى ما انتهى إليه من إحباط وانطفاء.

وكون بوتزاني أشتغل على هذه الفكرة التي تهتم بتشخيص شيئية الإنسان في عالم لا يحفل بما هو إنساني وامتداحه للعدمية والعبثية واللاجدوى مثلما فعل قبله كافكا الذي أفلح في خلق كون روائي لحمته الرعب واللا جدوى وانعدام الثقة في العالم وإدارة الظهر للحياة بتقنيات جديدة وسرد غير مباشر وبرمزية عالية حتى يُفرغ شحنة بغضه ومقته للعالم والحياة التي لم يؤمن بعدالتها , كون بوتزاني حلَّقّ في ذات الفضاء الذي حلق فيه كافكا اتُهِمَ بتقليد كافكا لناحية خلق شخصيات عدمية مستسلمة غير قادرة على تفادي مصيرها المرعب الذي يتراءى لها واضحا جليا على مسافة لحظات أو سنوات , وتسببت هاته المقارنة التي رأى بوتزاني أنها مجحفة بحقه في شعوره بالضيق والضجر حتى انه كف عن قراءة كافكا وكل ما كُتِبَ عنه حتى يتملص من هذه التهمة التي أزعجته.

والجميل في أمر هذه الرواية أيضا أن كاتبها استقاها من واقعه اليومي حين حتمت عليه ظروف الحياة العمل لمدة كصحفي أو كمحرر في الفترة المسائية حيث عانى شخصيا من الضجر والسأم والتكرار اليومي الممل ومن النسق البطيء والإيقاع الخافت الذي وجد نفسه بداخله ليسد احتياجاته اليومية بما يتقاضاه كمرتب من هذا العمل , ومثلما يقال مصائب قوم عند قوم فوائد عادت علينا معاناة الروائي بالفائدة والمتعة مع هذه الرواية التي تعد إحدى الروايات العديدة التي كتبها بوتزاني وتُرجمت إلى جانب اعماله الأخرى ومجموعاته القصصية إلى لغات عدة , وإضافة إلى أنه أديب , زاول بوتزاني الذي ولد العام 1906 وتوفيَ سنة 1972 زاول العمل الصحفي وكتب الشعر والمسرحية وله اهتمامات تشكيلية , وانتهى من وضع هذه الرواية عام 1940.

وختاما لابد من الإشارة إلى أن ما دفع بي نحو البحث عن هذه الرواية وتحميلها من أحد مواقع الانترنت وقراءتها بشغف خلال أيام معدودة مع ما في عملية القراءة من جهاز الحاسوب من إرهاق للعينين هو التنويه إليها من قبل الكاتب الليبي منصور بو شناف – الذي أثق في اختياراته – في أحد منشوراته على صفحته بالفيس بوك ولقد وجدت ما سرني بتتبعي لهذا الاختيار الصائب , وقد لا اكون مخطئا لو قلت أن الأستاذ منصور صرح في منشوره بأنه يعمل على إنجاز ترجمة للرواية , أيضا جدير بالذكر أن للرواية ترجمات عربية اخرى قام بها بعض المترجمين العرب غير أنني اعتمدت في عرضي هذا على نسخة غفلت عن ذكر أسم المترجم الذي وبالرغم من أنني لأجيد ولا أعرف اللغة التي ترجمت عنها أعتقد أنه أفلح في نقل روح النص وقبض على أهم ما فيه نقاط حساسة .

مقالات ذات علاقة

الفيلم الليبي القصير “العشوائي” يرصد ظاهرة التصنيفات الحادة بالمجتمع

إيناس المنصوري

ليس دفاعا عن خبز الخال ميلاد. ولكن!

البانوسي بن عثمان

محمد العنيزي… عن المدينة والبحر وقصص من بنغازي (1)

سالم قنيبر

اترك تعليق