المقالة

دسترة الإرهاب الفكري

أستطيع القول أنه قد خيض صراع بالغ التعقيد كي يكون الدستور المقترح مراعيا لبعض المباديء الإنسانية العامة التي أصبحت من المسلمات في المجتمعات والدول المتصلة بالعصر فعلا وتحدد ملامحه الإيجابية، وليس في المجتمعات والدول التي لا تتصل بالعصر إلا بالمعنى الزمني.

لكن هذه القوى الأخيرة استطاعت أن تقبض على مشروع الدستور، وبالتالي مستقبل ليبيا، فيما لو أقر هذا الدستور، من رقبته، على مستوى الحنجرة تماما، وتخنقه. وذلك من خلال المادة السادسة التي تنص على أن “الشريعة الإسلامية مصدر التشريع”.

أنا شخصيا مع عدم استبعاد الشريعة الإسلامية من دستور أية دولة مسلمة. لكن على أن تكون مصدرا من مصادر التشريع، لا المصدر الوحيد.

لقد سبق أن أثرت هذه النقطة منذ نهاية 2011 في ردي على مفتي البلاد آنذاك، الدكتور الشيخ الصادق الغرياني، بخصوص كلام له في فيديو يكفر فيه التصويت لعلماني ومطالبا أن يتم النص في الدستور المرتقب على أن الإسلام هو المصدر الوحيد للتشريع. وقد قلت في محاججتي تلك حول خطورة هذا النص:

“ألم يكن مبدأ الدية المعمول به في الإسلام مبدأ سائدا لدى العرب قبله؟

أليس مبدأ العقوبات البدنية الذي تبناه الإسلام عقوبة على بعض الأفعال واردا ومعمولا به في الحضارات المجاورة؟

أليست عقوبات القصاص المنصوص عليها في القرآن واردة بالذات في قوانين حامورابي؟

وما دام الأمر كذلك، أفلا يجوز لنا أن نستنتج أن الإسلام، نفسه، لم يكن مصدرا تشريعيا وحيدا لنفسه؟!. لماذا إذن يريد فضيلة المفتي وغيره الاقتصار في التشريع على مصدر تشريعي وحيد لم يكن مصدرا وحيدا لنفسه؟!

هل كان عمر بن الخطاب مخطئا حين أنشأ مؤسسة السجن التي لم تكن شائعة في المنطقة ولم تكن منصوصا عليها في القرآن؟

كلنا نعرف أن الرق غير محرم في الإسلام، وإنما فتحت سبل ومنحت تسهيلات للتقليل منه، فهل تبني الدول الإسلامية للقوانين التي تحرم الرق (التي أصدرها العلمانيون) يعتبر عملا منافيا للشريعة؟”

أريد أن أضيف هنا أن شرائع الأديان ثابتة، لكن التاريخ متحرك. وإذا حاول الثابت أن يحجر على المتحرك فإنه يشل التاريخ والحياة.

هناك جوانب في الشريعة الإسلامية لم تعد ممكنة التطبيق في الواقع الحالي، من مثل الأحكام الخاصة بالأنفال والأحكام الخاصة بالرق.

وهذا، إلى جانب ما ذكر أعلاه، يدل دلالة قاطعة على أن “نصوص الشريعة” ظرفية وأن الثابت في الشريعة هو “المقاصد الكلية”.

كما قلت هناك أيضا أن “الشرائع تأتي لحفظ مصالح الناس، وبالتالي فأي تشريع من شأنه حفظ مصالح الناس لا تثريب على الأخذ به حتى ولو كان خارجي المصدر. فالمصلحة هي التي يبنى عليها التشريع، وليس العكس”.

كما وجهت إليه الأسئلة التالية:

“ما دلالة التدرج في تحريم الخمر في الإسلام؟ ألا يعد ذلك، بلغتنا الحديثة، تعديلا في القوانين؟

وما دلالة الناسخ والمنسوخ في القرآن؟ ألا يعد إلغاء لقوانين واستحداث أخرى جديدة؟

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نتحرج نحن في استقاء بعض قوانيننا من مصادر أخرى وتعديل بعضها حسب ما تقتضيه رعاية المصلحة؟”

وأريد أن أستدرك هنا أنه إذا تمت تعديلات في التشريع القرآني نفسه، من خلال الناسخ والمنسوخ، في فترة زمنية لم تبلغ ربع القرن، فكيف نُجبر نحن على التمسك بهذه النصوص بعد ما يزيد على أربعة عشر قرنا؟؟!!

ومع ذلك رأت اللجنة العليا للإفتاء بالهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية التابعة إلى الحكومة المؤقتة، أن هذا الخنق ليس محكما ويترك إمكانية للتنفس. فأصدرت بيانا رأت فيه أن كثيرا من مواد مشروع الدستور تتناقض مع النص على أن “الشريعة الإسلامية مصدر التشريع” معترضة على حرية الفكر والتعبير “دون قيد شرعي” وحرية تكوين الأحزاب، والنص على إصدار القوانين “بما لا يخالف أحكام القانون أو الدستور” بحيث ترى أنه كان ينبغي القول “بما لا يخالف الشريعة الإسلامية”. وتعترض أيضا على حرية تكوين منظمات المجتمع المدني “بدون قيد شرعي”، وحرية التظاهر، ومساواة المواطنين بالمواطنات.

وبهذا فإن اللجنة العليا للإفتاء التي يسيطر عليها أتباع المذهب الوهابي تريد لليبيا أن تكون دولة على غرار دولة داعش. أي تريد دولة تستدبر المستقبل وتتجه نحو الماضي في إطار دولة دينية متشددة مغلقة تضم رعايا خاضعين مرتعبين، وليس دولة مدنية عصرية تتجه نحو المستقبل وتضم مواطنين أحرارا فاعلين.

إن النص على أن “الشريعة الإسلامية مصدر التشريع” هو عمل يرقى إلى درجة الإرهاب. ذلك أنه يدخل من باب المقدس ويخاطب المشاعر والعواطف الدينية لدى الناس بحيث يشعرون أنهم دخلوا في باب الكفر لو اعترضوا عليها في حالة عرض المسودة للتصويت العام.

لقد ناشدت اللجنة العليا للإفتاء في ختام بيانها الليبيين بـ “ألا يلتفتوا إلى هذه المسودة”. وأنا، بدوري، أطلق نفس المناشدة، لأنه، كما يقول الأستاذ سالم العوكلي في مقاله “إسمنت الهوية ووهم العيش المشترك” المنشور بالتزامن مع مقالنا هذا، والذي تمكنا من الاطلاع عليه قبل نشره واقتبسنا عنوان مقالنا منه: “”أي دستور لا يعتمد مادة “حرية الاعتقاد” في واجهة باب حرياته، هو مجرد دسترة للإرهاب الفكري”.

________________

نشر بموقع بوابة الوسط

مقالات ذات علاقة

هويتنا.. إلى أين؟

مهدي التمامي

أزمـة الكـتابة التاريخـية

المشرف العام

حكاية قديمة جداً

المشرف العام

اترك تعليق