قراءات

مدائن صالح وغابة الإسمنت

حتى ندخل في كون الشاعر المؤسس في الكلام، في قصيدة “إلى طرابلس الغرب“(1) لـ محمد الفقيه صالح، ينبغي أن نقوم بتوليد (المدينة البديل) الأيقونة التي تنطرح (صورة، محاكاة، نسخة) ويضعها الشعر في مستوى موازٍ، لـ”مدينة “هي الصورة التافهة”، “السيمولاكر”.

الشاعر الراحل محمد الفقيه صالح.

في مقال أساسي يحاول ميشيل فوكو أن يحدّد المعاني التي يُستعمَل فيها مفهوم السيمولاكر فيردّها إلى أربعة: فـ”السيمولاكر” هو الصورة التافهة في مقابل الحقيقة الفعلية، وهو يعني أيضاً- تمثيل شيء ما، من حيث أن هذا الشيء يفوّض أمره لآخر، و”السيمولاكر”: يعني أيضاً الكذب الذي يجعلنا نستعيض عن علامة بأخرى، وأخيراً فإنه يدل على: القدوم والظهور المتآني للذات والآخر.(2)

أنكتبت قصيدة “إلى طرابلس الغرب” إبّان محنة السجن التي حاقت بالشاعر الفقيه ديسمبر 1978 ومقطع منها هو مايوحي بذلك: “وسبحان الذي لا يكتئب../ قال السجين وقد تلفع بالحنين وبالسحب/، قصيدة سان جون بيرس في ترجمتها العربية “الفُلك ضيّقة”(3) كانت مؤثراً شعرياً أوّلَّ، قبل النقلة الثانية وهي مكوث الشاعر لعام 76-1977 بمهمة دبلوماسية ليبية في “جزر المالديف”، وإذا علمنا بأن سان جون بيرس نشأ حتى الثانية عشرة من عمره في المستعمرة الفرنسية بـ”أرخبيل غوادلوب” الواقع في البحر الكاريبي، فنستطيع أن نقول أن ليس قدر الشعر فحسب من جمع بين الشاعرين بل قدر “الجُزر الاستوائية” المكان الشبيه الذي نشأ فيه بيرس وسافر إليه الفقيه ليعيش الشعر في المكان الشبيه الذي ألهم الشاعر الفقيه أروع قصائده وأخصبها إيروسية، وتعشّقا، وتوّثبَ حياة كـ: جدلية الغابة، وجدلية البحر،. وإيماءات.(4)

لنبتدئ بثنائيات مدينة سان جون بيرس(5): الحقيقة (السماء، المنور، الشذا). فوق الصورة النسخة “السيمولاكر” المدينة: (أوساخ، قمامة، دُمّل): “يالك من مدينة فوق السماء!/ مدينة تحتضن/ أوساخها فوق منور الحانوت/ فوق قمامات الملاجىء/ فوق شذا النبيذ الأزرق/ المدينة خلال النهر تسيل في اتجاه البحر كدُمّل”.

ثنائيات مدينة محمد الفقيه صالح يفتحّها اختيار الشاعر:/ من بين اللغات: الصخرَ/ من بين الجهات:الفقر/ من بين المرايا: وجهها/. من آخر الثنائيات: الوجه والمرآة. نعود إلى ثنائية ميشيل فوكو: الحقيقة الفعلية (مقابل) الصورة التافهة “السيمولاكر” ونتتبع كل ذلك في هذا المقطع الشعري:/ ها هنا انشقت غيوب عن هبوب،/ فانجلى عن كل عين حاجب/ عن كل قلب ليله/ .

ترتكز نظرية المعرفة الأفلاطونية على مصادرة أساسية مفادها أن المعرفة تتحقق من خلال الانتقال والارتقاء التدريجي من المعطى المحسوس إلى النموذج المعقول، حيث تميل الذات العارفة تدريجيا إلى التجرد من كل ما له علاقة بالعالم المحسوس من أجل الاتصال بالعالم المعقول والارتقاء في مراتب المعرفة إلى أن يصل العقل إلى غايته القصوى وهي المشاركة في انسجام العالم المعقول وتناسقه الرياضي. وبناءً على هذا المعطى الأفلاطوني نقرّر الثنائية التي اشتغلنا عليها آنفاً فيكون: “العالم” المعقول هو الحقيقة الفعلية، والمعطى المحسوس هو الصورة التافهة “السيمولاكر”.

مدينة سان جون بيرس تتقاسمها ظروف وأحوال فالظروف تخصّ أمكنة كـ: السقوف من إردواز أوقرميد/ فيها ينمو الطحلب،/ و أنابيب المداخن عبرها تتسرّب الأنفاس دهون!،/ في حي البحارة، فوق النافورة المنتحبة،/ في فناء مركز الشرطة،/ فوق التماثيل الحجرية النخرة/ أنفاس مسترجعه دهون!/ أما الأحوال فتخصّ كائنات من: رجال مستعجلين/ تتسرّب رائحة ماسخة كرائحة مجزر،/ ومن تحت تنورات النساء حموضة أجساد،/ وفوق الصبي الذي يصفر بفمه،/ والمتسول بخديّه المرتجفتين، وعلى فكّيه الغائرين/، وفوق الكلاب الضالة/ فوق القطة المريضة بجبهتها ذات الغضون الثلاثة./ بخر جمهور مريب/.

“السيمولاكر” في مدينة محمد الفقيه صالح “زبدُ وهدير قحط” يتقاسمها ظرفا زمان يخصّان: المُذلون، المُهانون/ بالليل والطاعون والباشا وجند الانكشاريين/ ماذا يتركون؟/ والكادحون/ تناهبتهم غابة الإسمنت غول هائل، والنفط -لو أدركت- شاهد../

أيقونة مدينة يولي الأفلاطونيون(6) أهمية قصوى لدور الصورة في عملية المعرفة اتساقاً مع ما أوضحه أفلاطون، في كتابه “الجمهورية” عن الكيفية التي يتسنى بها للإنسان العيش في انسجام مع العالم المعقول كما يتصوره الفلاسفة بالمعنى الذي سيحدّده أرسطو لاحقاً موضوعا للفلسفة اليونانية وهو الوجود بما هو موجود. فمعرفة الموجودات في تصوّر الأفلاطونية أصبحت تعني المشاركة في صورها أو في نماذجها المثلى. ولكون الصورة تمثل حقيقة الشيء أو جوهره فتنقله بالفعل المعرفي من الوجود بالإمكان إلى الوجود بالفعل، وهو مايدعونا إلى القول بأن فعل المعرفة كفعل الوجود يتمثل في قدرة العقل على أن يصبح كموضوعه، أو أن يكون مطابقا لموضوعه ومتماثلا معه، وأن تصير المعرفة مشاركة وأسلوبا في الحياة ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي.

نظرية المُثل الأفلاطونية حالها كحال أية فلسفة لاتعدم أن يكون لها دافع. إمّا دافع برّاني مجاله الأخلاق والسياسة بالتصوّر الذي تحققه المعرفة أي “الوجود بما هو موجود” عبر المشاركة أسلوباً حياتياً ينسجم مع مبادئ الوجود الحقيقي الذي تتمثل صورته في “المدينة الفاضلة”، وإمّا دافع جوّانيّ يكمن وراء النظرية (نظرية المثل) وينبغي البحث عنه في الرغبة في الانتقاء والاصطفاء الذي يحققه الفعل المعرفي بإقامة الاختلاف، والتمييز بين الماهية والمظهر، بين المعقول والمحسوس، بين”الشيء ذاته -المثالـ-” والصورة، بين الأصل والنسخة، وبين النموذج والسيمولاكر وهو الفارق الذي نتقدّم به خطوة في فهم الشعر والفن في سياق المبدأ المُحاكاتي أو الأيقوني. أيّ تمثيل شيء ما، من حيث إن هذا الشيء يفوّض أمره لآخر، ولتبيانه واستظهاره نقتطف له مقطعين من قصيدة “طرابلس الغرب”: مسّت يدي -في الصبح- خاصرة المدينة،/ فاستفاقت في المواعيد الندية “كوشة الصفار”، / وارتحلت بي الصبوات/ حين تفتقت في”زنقة العربي” شمس- طفلة/ وانشق باب عن قوام عامر بالخوخ والنوار/ البرق.. يا لأناقة التكوين، يا لعراقة الأسرار/. البرق قد يأتي من الحناء/ إذ يتفتح الصبح البهيج على أصابعهن/ باقات من الضحكات والأشعار../ ومن البخار الصاعد الموار أزمنة تطل وتختفي في كل منعطف ودار../ .

وفتحت صدري – عبر باب البحر- للريح التي تنحل/ فوق الشاطئ الصخري في الزبد الكثيف../ البحر حين تخضّه الأشواق،/ والصياد حين يؤوب،/ محتدمان في قلبي إلى حد النزيف../ أمضي.. تسير بجانبي الطرقات والأقواس والدور العتيقة،/ تحتويني في المساء نقاوة المشموم والأطفال/ إذ آوي إلى مقهى بباب البحر.

“إلى طرابلس الغرب” قصيدة انكتبت في السجن وهو مايوحي به مقطع منها: وسبحان الذي لا يكتئب../ قال السجين وقد تلفع بالحنين وبالسحب/. الشعر، أو بالأحرى مخياله، في المقتطف يوّلد لنا “سيمولاكر” ثانيا وهو السجن وهنا تتداعى في ذهننا صورة “كهف أفلاطون” المكان الذي تنطلق منه عملية تمثيل شيء ما، من حيث إن هذا الشيء “صورة السجن” يفوّض أمره لشئ آخر “أيقونة المدينة” المستدعاة بالتلفع بالحنين وبالسحب والعملية التفويضية “الشعرية” هنا مزدوجة استدعاء/ استبعاد، والاستبعاد ظاهراتي يقوم بوظيفة التحييد المنهجي المؤسس على بنية رباعية ديكارتية(7): ــ البحث عن بداهة مطلقة يمكن أن تكون نقطة بداية التفكّر، التأمل، والاستدعاء الذهني، ــ الاستبعاد بالتعليق الظاهراتي كل ما لا يتفق مع المعنى، “الايدوس”، وبالتالي يضع اعتقادنا الطبيعي عن العالم بين قوسين. ـ الرجوع إلى الكوجيتو، “الذات”، بوصفه ما يبقى بعد هذا الاستبعاد الظاهراتي. ومن هنا نتفهم مدخل المقطتفين بجملتين فعليتن: “مسّت يدي” – في الصبح- خاصرة المدينة”، و”فتحتُ صدري” – عبر باب البحر-.

سيدتي تطل الآن من شباكها/ وتذوب في ريقي/ حليب صوتها/ ورموشها تنساب في لغتي/ إلى أن لا يصير القيظ تحت جفونها قيظا/ أشم عبيرها ينثال من حجر،/ وأرشف سلسبيلا من تفتحها/ ويعصمني من الإغراق في الرمز/ اشتعال علاقةٍ ما بين قهوتها وطيب ضفيرتها/ إنني أمشي على حد الزمان الصعب تفعمني اختلاجتها/ وأشهدني محاطاً بالبهاء/ كأن سيدتي استفاضت من كيان الصمت/ وانداحت مع الأنفاس في جسد الهواء/ فسبحان التي فتحت خزائنها لمن يحتاج،/ سبحان التي أسرت بعاشقها إلى لغة الندى.. والارتواء/.

استجابة المدينة-الأيقونة في صورة أنوثة “تطل الآن من شباكها” تكشف ما تزعمه هاته النسخة السيمولاكر “السجن”،و تدعيه- أي الموضوع أو الصفة- بطريقة ملتوية ومن أجل عدوان وتحريض وحث وخلخلة ضد”المثال”(9)، إنه ادعاء وزعم لا يقومان على أساس، وينطويان علـى لا تشابه واختلال داخلي. وإذا ما اكتفينا بالقول إن السيمولاكر نسخة عن نسخة، وإنه أيقونة متدهورة وتشابه ممحوّ، فإننا نظل بعيدين عن الصواب، ولن ندرك الاختلاف في الطبيعة بين السيمولاكر والأيقونة، وكونـهما يشكلان نصفي قسمة واحدة. الأيقونة نسخة تتمتع بالتشابه، أما السيمولاكر فهو نسخة بلا تشابه.

ورالدين خليفة النمر

هــوامــش:

1ـ محمد الفقيه صالح، ” إلى طرابلس الغرب”، مجلة الناقد (لندن) العدد 23، مايو 1990.

2ـ عبد السلام بنعبد العالي “في السيمولاكر، مجلة الدوحة، العدد 71 سبتمبر 2013.

3ـ سان جون بيرس “الفلك ضيقة”، ترجمة مصطفى القصري، الدار التونسية للنشر 1973.

4- محمد الفقيه صالح “خطوط داخلية في لوحة الطلوع”، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع، طرابلس 1999.

5ـ سان جون بيرس “المدينة”، ترجمة أحمد عبد المعطي حجازى، مدن الآخرين، منشورات الخازندار، جدة .1989.

6ـ أحمد أغبال “مفهوم الشخص في الفلسفة الديكارتية /http://sophia.over-blog.com/articl.

7- جـيـل دولوز “قلب الأفلاطونية”، تـرجـمـة عبد السلام بن عبد العالي، نُشر تحت عنوان “أفلاطون والسيمولاكر” ضميمة لكتاب: Logique du sens, minuit, coll 10/18, 1969, pp.347-361. موقع توفيق رشد للأبحاث الفلسفية.

8ـ أدموند هوسرل “تأملات ديكارتية”، ترجمة نازلي إسماعيل حسين، دار المعارف ـ مصر 1970، ملخص التأملات ص 79ـ93.

9ـ جـيـل دولوز، مصدر سابق.

____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

شعرية الأمكنة في ديوان (ابتهال إلى السيدة نون)

ناصر سالم المقرحي

عز الدين اللواج في رؤيته لإشگالية “الخانق والمخنوق”

المشرف العام

وجها القمر…

أحلام المهدي

اترك تعليق