من أعمال التشكيلية خلود الزوي
قصة

إشراق

من أعمال التشكيلية خلود الزوي

ماي*Mai، أو “مي”، كما يحلو لي تسميتها، فتاة من اليابان، في الخامسة والعشرين من عمرها، لا أعرف كنه حركاتها الخجولة المموسقة، حين تمشي، أو حين تحني الرأس بهارموني عجيب وثقة متناهية، وحتى حين تتحدث الإيطالية بنغمة اللسان الياباني، في حواراتها القصيرة معي، كل شيء فيها عند تلك اللحظة كفيلاً بأن يصنع قصيدة، كل الذي أعرفه أنها فتاة شعرها فاحم، وجهها نغم وردي منمش قليلاً، وعطرها لا تحاصره الكلمات، جائت لدراسة دكتوراه الفلسفة في هارموني القيتار كلاسيك، وكانت تحيي الأصبوحات الاحتفالية، ولا تحب مرافقة أحد، وتجيد باكو دي لوتسيا عن ظهر قلب، وفي الخارج كانت تتقاطع معي صدفة في كل الأماكن، الكافيتيريا، وميدان الجمهورية، وفي البلو بار، وفي محلات الآلات الموسيقية، وعند محطة الترام، وعلى ضفاف الأنهر الصغيرة، وفي محلاّت الحلوى، كنت حين أخرج آراها تدخل بالصدفة، وتخرج وأنا أهم بالدخول، وفي الأوتوبوس رقم 9 أنزل فتصعد، وأصعد حين تكون هي نازلة، لم أخزن من ماي شيء في بداية الإنتباه، عدا التقاطعات، فقط مرة واحدة التقينا صدفة في الترام، ورغم تشابه أهل اليابان مع الصين قليلاً، ورغم تشابه أهل اليابان مع بعضهم كثيراً، استطعت أن أميزها من ضحكتها الخجولة، ولمعان أسنانها وأنفها الدقيق المرفوع بشمم رغم تواضعها المخفي، قلت لها أنني رأيتها في قاعة الدرس، الأسبوع الماضي، في أولى محاضرات الفصل الرابع للغة، وسألتها عن اسمها، فأجابت، ولم أضف شيئاً آخر ذي أهمية، وهكذا كان على المشاهد وفق هذا اللقاء، أن تتكرر.

في قاعة الدروس الإيطالية كنا نلتقي ولا نلتقي، أجلس في المقاعد المنزوية، بمحذاة النافذة، وتجلس هي في المقدمة، وفي السلام نلقي التحايا من بعيد، وعلى السلالم، كنا نتقاطع، نتقابل فقط في ذلك الفصل الدراسي المهيب المكتنز بزخرفات الباروك وعصر النهضة الفلورنسية.

قاعة الدرس، كانت بالإضافة إلى مَي، تعج بالأجانب من كل الجنسيات التي لا أستطيع حصرها الآن، من أمريكا، إيزابيل، جائت لدراسة العمارة، وكانت لطيفة التعامل في الواقع، ومن ألمانيا لا أتذكر الأسماء، شابان جاءا لدراسة الفنون، ومن فرنسا فتاة قعواء بلا لون ولا رائحة، تنظر من أعلى، جائت لدراسة الهندسة المدنية، لا أدري لماذا تهمل نفسها هكذا، وتنسى أنهم سادة صناعة العطر، وكان ثمة فتاة أخرى من تشيكوسلوفاكيا، تتنصل من بشرتها الجصية اللون كيتعجنها بمساحيق السُمرة، وتتدرب على بعض الكراهية والعنصرية بعد تناثر الإشتراكية، جائت لدراسة الموضة، الواقع أنني لا أدري لماذا جائت، ولا أذكر تخصصها بالتحديد، ولا أعرف أي موضة هذه التي تريد التخصص فيها، وكانت أستاذة اللغة لا تطيقها، وتعلق عليها همساً: (كي بوفيرا إيطاليا)**، خصوصاً حين تجيب على أسئلة التمرينات برِكّة معجونة بالسلافية.
ومن أرمينيا شابة أخرى، جميلة جداً، تبكي عند سماع أي خبر محزن مهما كانت علاقتها به بعيدة، حتى إذا قلت لها أن بشير زميلي جدته توفيت الأسبوع ماقبل الماضي، أو أن فلان خالته في العناية المركزة، نحن الزملاء من ليبيا أخبار الوفيات كانت تأتي أحياناً متقطعة، وفي أحيان أخرى على التوالي، بعد ستة أيام من الإهمال، يرن الهاتف، أخيراً ثمة من يسأل، ترفع السماعة وإذا بالخبر سيء، ثم يختم الناقل: (تمام، إلى اللقاء، ها قد أخبرتك). تلك الفتاة الأرمنية كانت تجيد فن المشاركة بكل جوارحها وكانت صادقة، وكنت أشفق عليها من ذلك، فأقول أن الأمر لا يستحق، كل ما هناك أن ليبيا بلد مليئ بالشباب، وفيه تموت العجائز فقط، وهي سنة حياة. وأتذكر،كانتا معنا زميلتين ذكيتين جداً من لبنان، جائتا لدراسة طب الأسنان، إحداهما تشبه السي فيرنيني، ومن ساحل العاج شاب آخر، خلوق وطيب جداً، جاء لدراسة اللاهوت، ومن مصر، شاب كانت تلقبه أستاذة اللغة بـ “خوفو العربي” جاء لدراسة الترميم، ومن الجزائر كان ذلك الشاب الشاعر اللطيف، جاء لتدريس اللغة الفرنسية للطليان، وكانت البروفيسوريسا ماريا أستاذة اللغة، تكره شهر يوليو الساخن وتبرطم بإيطالية راديكالية، وبلسان دلع رصين، وكانت تحب الشعر، وخفيفة الظل، لولا معاناتها من الوحدة، وبعض الوزن، وكانت تبادلني السجائر في الإستراحة، ذات مرة قرأت لي أبياتاً لـ “دانونسو” وقالت أنه الشاعر الأروع في كل العصور، قلت لها شعره رائع فعلاً، وأفكاره رجعية وله بعض السلوك الشائن، أكره الأيديولوجيا، سامحيني، وكانت كثيرة المزاح معي، وطيبة جداً، وتحب الأجانب من المسلمين.

خلال الثلاثة أشهر من دراسة الفصل الرابع الخريفي الذي مر بسرعة الضوء، وإن داهمه بعض الحزن، كنت ألتقي مي اليابانية، في أوقات قصيرة، ندردش قليلاً ثم نبقى صامتين، لا شيء عدا الصمت، ورعشة يديها، ونظرتها لي فيما وجهها في زاوية ما، ثم نتوادع، ولم أكن أعي أبداً أنه كان مقرراً أن ترحل مي إلى مدينة أخرى، استوقفتها في المرة الأخيرة في مدخل الجامعة، قالت أنها ستغادر إلى تورينو في الشمال، ثم عم الصمت كالعادة، وفيما نحن هكذا غارقين في اختيار الكلام، مر زميل لنا من الصين حيًّانا ثم قال، أن النتائج خرجت لتوها، استأذنتها على أن أعود، ونزلت مسرعاً، لا أعلم كيف حصل ذلك، ولم تكن تهمني النتيجة التي أعلمها سلفاً، في تلك اللحظة بالتحديد أبداً، لكنني نزلت، وحين عدت، لم أجد مي.

مرّ يومان أعددت فيهما سيناريو عشوائي للقاء قد يأتي صدفة، ولم يحصل شيء.

في كل مرة كنت أريد فيها أن أسألها عن رقم هاتفها حين كنا زملاء في الفصل، أو أن أسجل بريدها الإلكتروني، كان يدخل حواراً آخراً، كأن أحكي عن الحرب العالمية الثانية، وعذابات البشر، وأطماع الرأسمالية، وحديثي عن السينما، وقلقي من حروب أخرى قادمة.

مرت أشهر لا أعي تعدادها، خرجت من بيتي في اتجاه ميدان “البارتيجاني”، وكانت بيروجا على رأس جبل، تتسلق سلالم كهربائية لتصل إلى قلب المدينة، سلالم تهبط وأخرى تصعد، للداخلين وللخارجين، صدفة كحلم، رفعت رأسي، وإذا بمي تنظر في اتجاهي وتبتسم، صرَخَت بإسمي، لأول مرة أسمع صوت مي يشق المكان باسمي، لأول مرة تصرخ مي بصوت عال، ولأول مرة تنطق بإسمي بعلو أثار كل الصاعدين والنازلين، ولأول مرة أشعر أنني لا أستطيع النطق بأية لغة، تسمرتُ في المصعد الذي كان يعلوا بي إلى مركز المدينة، مرت بجانبي تماماً شاهرة يدها إليّ بالسلام، كان سُلّمها يهبط، أردت أن أقول شيئاً، أن أسلم، وإن يكن أن المسار تقاطع، لم أستطع بقيت في حالة سكون استاتيكي، مذهول، شُلت حركتي، لامستني من كنزتي الصوفية، وهبط بها السُلم، فيما صعد بي الآخر، لهثت، وفي سرعة لا أعرف كيف كانت، ركضت رغم الإزدحام كي أصل إلى نهاية السلم في أعلاه، وأنزل من الآخر، ربما مشيت على رؤوس بعض البشر، ثم استدرت بسرعة أيضاً، كنت كالمجنون، ودخلت في سلم النزول….. مرت لحظات كنت أستوقف فيها كل فتاة تشبهها، غابت مي في الزحام، ربما انتظرتني في الأسفل، وربما صعدت من أجل اللحاق بي في نفس السلم الذي غادرته أنا، وربما نزلت كي ألحق بها، وربما كنت أحلم، رغم أنني كنت بكامل قواي الواقعية، ورغم سماع الناس بصرختها المدوية باسمي، وتصفيق بعض من كان يتابعني من الطليان وأنا أركض.

في الأسفل، لم أعثر على مي.

وحين لا تعثر على ما تريد، لا تقل إنك لم تعثر عليه، اكتمه، أو اتركه للمستحيل، ذابت مي مع ندف ثلج فبراير، وكنت امتلأت بالكلام المخزِّن، واشتريت هدايا كثيرة خبأتها عنها، ومصحف باللغة اليابانية، وكتبت أشعاراً بلغتي على أن أترجمها حين تكبر اللغة الأعجمية، عبث داهمني في لحظة سكون، وكان يجب أن لا أكتب ما سردته الآن.

أتذكر وأنا أنسج هذه الأسطر، أن مي ترجمت لي باللغة الإنجليزية، ونحن في بداية فصل الخريف، أبياتاً من الهايكو لقصيدة قصيرة، لامعة كالبرق:

ندفُ ثلج تتساقط
وعلى مسافة بُعد
حبيبي رحل.***

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ماي إسم علم مؤنث ياباني، بمعنى إشراق.
** جملة بمعنى (مسكينة إيطاليا)
*** كيسارو، شعر، هايكو ياباني

مقالات ذات علاقة

الحنين الي الأراض الخصبة

المشرف العام

المدينة التي لم تعد تجمعنا

المشرف العام

القطة أكلت أولادي

كريمة الفاسي

اترك تعليق