المقالة

أَطِبّاءٌ لَهُمْ تارِيخ

لم يكن الدكتور “صَبْري القَبّاني” طبيباً نِطاسِيّاً فقط، ونِطاسِي تَعْنِي في المعجم العربي – كما هو معروف-الطبيب الماهر في مهنته الإنسانية إلى حدٍ يُوضَعُ فيه الطبيب الحاذِق في مَرْتَبَةِ العلماء فهو دائم الانشغال بتطوُّرات مهنته وبكلّ ما يطرأ عليها من جديد. فقد كان الدكتور صبري القبّاني إضافة إلى درايته الفائقة وتأديته البارِعَة لعمله كطبيب تَمْتَدُ جُهُودُه خارج تخصُّصه في الطِّب فتشمل مجالات أخرى كثيرة، والمَعْنَى الذي أَسْتَخْلِصَهُ من ذلك أنَّه مثقف يمتلك زِمام التَّدْوِين في مجالات مُغايِرة لمجال تخصُّصِه. وفوق هذا وذاك يُجيد إدارة المشروعات أو المؤسَّسَات ويُحَقِّقُ لها النجاح. وهو أيضاً صَحافِي مُتَفَوِّق يعرفُ ما يُسْتَحْسن نشره وما لا يُستحسن، وما ينبغي أنْ يُتَرْجَمَ وما لا ينبغي، ويُدْرِكُ ماهي العناصر والموضوعات التي تَجْذِبُ القُرّاء وتُفِيدُهُمْ في آنٍ واحد.

وقبل ستين سنة أَسَّسَ الدكتور “صبري القبّاني” – رَحَمَه اللّه – مجلة “طَبِيبُك” في دمشق بصفته طبيباً إخصائيّاً سُوري الأصل. وكان كلّ زملائه وأصدقائه من الأطباء مُتحمِّسين لمشروع إصدار الدكتور صبري القبّاني للمجلة الجديدة ماعدا قِلّة قليلة منهم ظَنَّت أنَّ المشروع لا تتهيَّأ له الظروف الحضاريَّة المُناسِبَة وخافَتْ إهدار الدكتور صبري القبّاني لأمواله في أحوال غيرِ مُلائمة لإصدار مجلة علميَّة مُتَخَصِّصَة وليست مجلة إخبارِيَّة جامعة وَشَتَّان ما بينهما، وصارحوه بذلك متسائلين عن تأثير الواقع الاجتماعي، وقالوا له – بحكم الصداقة- إنَّ معظم الأطباء في الوقت الحاضر وعلى نطاق العالم العربي يقومون حقاً بتأدية واجباتهم تجاه مرضاهم بإخلاص وجِدِّيَة وكفاءة لكنَّهم لا يتابعون التطوُّرات الحديثة في الطِّب من ناحية الأجهزة الجديدة وأساليب المُعايَنَة والعلاج ومِنْ ثَمَّ الأدوية العصريَّة، وإنَّ القليل من أولئك الأطباء يُتابِعُ التطوُّرات في مجالات الطِّب المتباينة حَسْبَ تخصُّصِه، وإنَّ هذه القِلّة من الأطباء لا تكفي لشراء مئة نسخة من المجلة المُزْمَع إصدارها لأنَّ هذه القِلّة من الأطباء لن تَقْتَنِي بمجموعها نُسَخَاً من المجلة الجديدة فما الموقف –إذنْ- الذي سيكون عليه القارئ العام!؟ ..ونَرَى بالبداهَة أنَّ القارئ العام قد يشتري نُسخاً على الإطلاق!.

وأَصْغَى الدكتور صبري القبّاني إلى ما قالوه له باهتمام، ثم قال لهم إنَّ الملاحظات والتَحَفُّظات التي أُبْدِيَتْ له منهم ليست خالية من المُغالاة والشَّطَط وإنَّه يَعتزمُ إصدار المجلة بكلّ تأكيد، وناقَشَهُمْ في تفاصيل الأمر إلى أنْ أَقْنَعَهُمْ بجدوى عَزْمِه.

ويُورِدُ الدكتور صبري القبّاني في أحد الأعداد القديمة لمجلة “طَبيبُك” ضِمْنَ مقالة بعنوان ” خواطر مُرسَلة ليلة العام الجديد” أنَّ المجلة وصل توزيعها إلى خمس وسبعين ألف نُسْخَة، وفي موضع آخر من افتتاحية ذلك العدد القديم يَعِدُ القارئ بالتَّوَسُّع في بعض أبواب المجلة وزيادة مَلْزَمَة كاملة على صفحاتها المئة وثمانين وأنَّ جميع الأعداد القادمة ستكون ممتازة دون زيادة في سعر النُّسْخَة.

وحِرْصَاً من الدكتور على تَوسِيع مدارك القارئ العامّ يَكْتُبُ في باب رسائل القراء واستفساراتهم عن الصَّحَة الذي يُشْرِفُ عليه مُستعيناً بلفيفٍ من كبار الأَطِبَّاء الإخصائيين ومُوَجِّهاً كلماته إلى القارئ حَيْثُ نُطالِع ما يلي: ” إنَّ ما تَقْرَأهُ في هذا الباب لا يُغْنِيكَ عن الطبيب، إنَّه للتثقيف والتَّوْعِيَة فقط.”.

وكان رقم التوزيع الذي أشار إليه الدكتور صبري القبّاني دليلاً واضحاً على نجاح المجلة واستقطابها للقارئ العادِي-أيْ القارئ العامّ – كما كان لها فَضْلُ الرِّيادَة في إثارة اهتمام الأَطِبَّاء – في شَتَّى أرجاء العالم العربي- بضرورة اكتساب الجديد في المجال الطِّبي واستخدامه لصالح المرضى من كلا الجنسين.

وبتأثير الجهود الدائبة للمجلة لم يَعُدْ الطِّب في معظم بلدان العالم الناطق بالضَّاد مُنعزلاً عن العصر الحديث سواء في العيادات والمصحَّات الخاصة أو المستشفيات التابعة للدولة.

ورقم التوزيع بالنسبة لأيّ مطبوعة صَحَفِيَّة له علاقة وثيقة بالإعلانات، فَسِعَة انتشار المطبوعة الصَّحَفِيَّة ووجود قرّاء ثابتين لها يفتح الباب على مصراعيه لتدفّق الإعلانات، وبالتالي فهذا التَّدَفُّق الإعلاني مِقْياسٌ ثانٍ لنجاحِ تلك المطبوعات الصَّحَفِيَّة.

وقد انهالت الإعلانات على مجلة ” طَبِيبُك” مُنْذُ أَعْدَادِها القديمة الباكرة لأنَّها استطاعت أنْ تُثْبَّتَ أقدامَها في سوقِ التوزيع وتأخذُ في حَوزَتِها آلاف القرّاء مِنْ كافَّة المُستويات حَيْثُ بلَغَ مجموع الإعلانات في ذلك الحين القديم في عَدَدٍ واحد من مجلة “طبيبك” الذي نتناوله بالفحص ونقتطفُ من نصوصه أكثر من خمسة وعشرين إعلاناً معظمها على صفحة كاملة. وجَدِيرٌ بالإشارة أنَّ أسعار الإعلانات المُلَوَّنَة على الغلاف تكون دائماً أكثر ارتفاعا من أسعار الصفحات الداخلية. وواضح أنَّ مجموعَ الإعلانات المذكور مجموعٌ كبير بالنسبة لعَدَدٍ واحد من أَعْدَاد مجلة ” طَبِيبُك” . وهناك أسباب أخرى شديدة الأهمية وراء الدُّفْعات الإعلانيَّة للمجلة المذكورة. وإيضاح ذلك يَتَطَلَّب إلقاء نظرة سريعة على الأحوال في سوريا حَيْثُ كان اليسارُ السياسي ومثقفو ذلك اليسار المُتَكَوِّن من الاشتراكيين ذَوي التَّرْعَة العربيَّة والماركسيين الفِكْرِيين والشيوعيين المُنَظَّمِين في كَيان عَمَلي وغَيْرُهُمْ وحَيْثُ كان اليمين السياسي ومثقفو ذلك اليمين بنزعاته المتباينة. وكانت الأجواء – بصورة عامّة – لِيبْرَالِيَّة. وبمقدورِ المُلاحِظ استنتاج أنَّه لابُدَ أنَّ اليسار فَكَّرَ على النحو التَّالي: مادام الدكتور صبري القبّاني رجلاً شريفاً فمجلته ستكون كذلك، وهو أساساً طبيب مثقف غير مُشتغل بالسياسة، ورغم أنَّه ليس ماركسياً أو شيوعياً فهو وطني غيور ومَجَلَّتَهُ مَجَلَّة عِلْمِيَّة تَربطُ القرّاء بالعصر الحديث وبالتالي فهو تَقَدُّمِي ومجلته تَقَدُّمِيَّة.

وبمقدورِ المُلاحِظ – أيضاً – استنتاج أنَّه لابد أنَّ اليمين العادِل فَكَّرَ على النحو التالي: إنَّ هذا الطبيب رجلٌ مستقل وَوَطَنِي ومَجَلَّتَهُ طبِّيَّة فلا غُبارَ عليها ومِنَ الحِكْمَة دَعْمَها بكلّ الوسائل القانونيَّة.

ويجدُ القارئ في نفس العدد من مجلة ” طبيبك” الذي ندرسه إعلاناً عن مُزيل حَب الزِّيوان الأسود بجهاز طِبِّي حديث سهل التشغيل بأيدي المصابين أَرْسَلَتْهُ كإعلان ” مؤسِّسة سُولار للهندسة والتجارة”، باعتبارها وكيلاً عامّاً في الشرق الأوسط وتُعْلِنُ فيه عن طَلَب وكلاء آخرين من البلدان العربية. ونجد أيضاً إعلانات من صيدليات دمشق ومختبرات عالمية وإعلان آخر من الخطوط الجويَّة العربية السعودية في بيروت. وفي باب أسئلة القرّاء واستفساراتهم الطِبِّيَّة طالعتُ سؤالاً عن مرض يعانيه صاحبه الذي يستفسر عن مظهره الطِّفْلي وعن عدم نمو شعر الوجه فهو أَمْرَد، ولم تكن هناك ضرورة مادام السؤال طِبِّيّاً لذِكْرِ بيانات أخرى حيث أَوْرَدَ المُسْتَفْسِر اسم حزب البعث مُقترناً باسم مدينة في المملكة السعودية ولم يذكر اسمه إطلاقاً. وأجابوا عن استفساره باستعمال الهرمون المُذكَّر “بروفيرون” عيار 25 ميلليغرام كلّ يوم وضرورة إشراف طبيب أخصائي على المعالجة. ونختارُ من نفس المجلة فقرات من مقالة ” خواطر مُرسَلَة ليلة العام الجديد” جاء فيها: “إنَّ الإنسان منذ أنْ وُجِدَ على الأرض حتى الآن ما يزال في سلوكه يكرِّر ذاته مهما اختلفت الوسائل فالجَدُّ القديم الذي جعلَ مِنَ العصا رُمْحاً تتكرَّر صورته اليوم في الإنسان المعاصر الذي يحوِّل الجَّرار إلى دَبّابَة ويركب صهوة الطائرة بدلاً من الحصان. وهذه صورة واقعية يؤكِّدُها أنَّ هذا العام الذي ودَّعناه قد شَهِدَ من كوارث الإنسان بأخيه أكثر مما شَهِدَ مِنْ كوارث الطبيعة بل أنَّ هذا الإنسان قد صَنَعَ الكوارث ضد أخيه الشقيق في الوطن الواحد وضد نفسه في الأسرة الواحدة وما يزال الدم يسيل في هذا الصراع في أَنْحاء الأرض. ولكنْ هل توقف المشهد القاتم ولم يتحرَّك إلى الجوانب المضيئة، وليس الجواب سلباً ويمكننا أنْ نَعُدَ عشرة بَنّائين مُقابِل هَدَّام واحد.” .

وفي 1977م وقت رئاسة الأستاذ ” محمد رفعت” لمجلة “طبيبك” أَصْدَرَ كتاباً طِبِّيَّاً بالاشتراك في التأليف مع نُخْبَة من أساتذة كليات الطِّب في مصر اعتبارا لريادتها مُنْذُ القرنِ التاسع عشر وما تلاه بل مُنْذُ عصورِ الفراعنة حَيْثُ ازدهار فروع الطِّب.

____________

نشر بموقع الأيام

مقالات ذات علاقة

المصلحون والمجتمع

يوسف القويري

عاشق البحر وأم كلثوم..

ناجي الحربي

لماذا نكتب..؟

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق