الروائية عائشة الأصفر
شخصيات

الأديبة الروائية عائشة عمر الأصفــر في حفل تكريمها

الأديبة الروائية / عائشة عمر الأصفــر في حفل تكريمها

أثناء احتفالية إشهار منتدى ألوان الثقافي

الروائية عائشة الأصفر

يقولون بأن الوردة ليست بحاجة لأن تكتب اسمها. ولكن المتأمل لإسم ضيفتنا، حتى وإن كانت الأسماء مجرد عناوين لوجوهنا، يكتشف عند تحليله بأن اسمها يحمل رموز الحياة كافة. فالشخصي الأول ينتمي إلى العيش والمعايشة، والأوسط يصرّح بنسب الأبوة. أما اللقب فهو إشارة واضحة إلى التبر الأصفر النفيس، والمعدن الغالي الثمين، وكذلك قد يلمح إلى لون ونعومة حبات رمال الصحراء الدافئة ومغازلة سيوف كثبانها اللامعة…. وكل ذلك يحمل معاني إنسانية عميقة الدلالة تسمو بسقف قيمها المتعالية في سلم الحياة.

عائشة عمر اﻷصفر

هكذا ظلوا ينادونها منذ أن أطلقت صرخة الميلاد سنة 1956م وصارت بنتاً للشمس والقمر في مدينة سبها، تشاكس بمغامراتها اللذيذة رتابة الحياة الجنوبية بكل ضنكها وسكونها المعتاد. عاشت البساطة في بلدتها ومسكنها وحياتها ضمن أسرة ليبية شعبية تقليدية، وفي حي شعبي تعتمر فيه القلوب بغابات الياسمين لوناً وعطراً ورهافةً وحباً وحميميةً. عاشت عائشة عيشةً كريمةً عزيزة، لم تتذوق فيها طعم الحرمان، ولكنها خبرته وتجرعته مع كل المحرومين في أرجاء العالم. عشقت صورة الفرح على وجه الآخرين، والبسمة الصادقة في عيونهم، وسعت إلى ذلك فعلياً فأسست مبكراً فوج زهرات الكشافة بالجنوب الليبي الحبيب، وشاركت ضمن فعاليات المخيم العربي لمرشدات الكشافة بمدينة الموصل بالعراق سنة 1972م وغيرها من الأنشطة الأخرى، كزهرة وقائدة كشفية صحراوية عبقة، تعانق الوجود وتطبع بصماتها وقبلاتها على صفحات هذه الأرض الحبلى بالإبداع منذ حيوات مملكة التخوم والأهرامات الليبية وربما غيرها الأقدم الضاربة جذورها في التاريخ العريق.

هذه الأرض!!

نعم هذه الأرض!!! التي ربما لم ترق لها.. يوما ما… في ذات سنة من سنوات البواكير… فاختارت أن تغامرَ وتجربَ فضاءَ السماء، لعلها تلامسُ زرقتَها، وتلاحقُ خلايا سحبِهَا القاتمة الممطرة، والشفافةِ البيضاءِ الرقيقة، فتداعبُ قطراتِ البللِ الباردة بكلِّ لهفة العشاق وشوق المحبين. اختارت عائشة عمر الأصفر مبكراً جداً… أن تتعلم قيادة الطائرات.

نعم.. ودعت رحابة الأرض وغادرتها إلى فضاء السماء… حيث منها… أي من هناك.. في العُلا… بين خلايا الغيوم والسحب الركامية والمزنية والطبقية.. وتدافع الرياح النفاثة .. ودوي الرعود وشرارات وميض البرق الخاطفة…  سجلت اسمها في تاريخ ليبيا المجيد منذ شهر يناير 1972 كأول فتاة ليبية تجلس في المقعد الأيسر بقمرة قيادة الطائرة…. تضع على رأسها سماعات الاتصال وتدير أزرار التحكم الالكترونية المعقدة بغرفة الطائرة… تضبطها في الاتجاه والتوقيت الصحيحين… وتمسك مقود الطائرة بكل ثقة وثبات…. وتخاطب برج المراقبة الجوية بالمطار طالبة الإذن بإدارة المحرك أولاً، ومن ثم الإقلاع حيث ترتقي في سلم المجد كما في عوالمها الفسيجة التي تخطط لها.

وما أن يأتيها صوت المراقب الجوي عبر سماعتي أذنيها clear to fly as planned 5A-DKC حتى تفردَ جناحي طائرتها للهواء، وتندفعَ على أرض المهبط بأقصى قوة محركاتها.. ثم ترفعَ مقدمة أنف طائرتها لتعلو بكل براعة.. وتغلقَ عجلاتها.. لتعلنَ في تناغم أنثوي فكراً وجسداً أنها تودعُ سطح الأرض، وقد صارت الآن معلقة تماماً في رحاب السماء بين السحب والغيوم… منتشية بريادتها النسائية للطيران في ليبيا.

تطير وتطير وتطير… توجه عينيها الجميلتين لتنظر تحتها فتتأملُ كلَّ الأمكنةِ والمعالمَ والشخوصِ التي كانت تجوبُها وتسكنُها وقد صارت الآن تحتها ضئيلةً.. وبعيدةً جداً عنها… حتى تتلاشى تماماً.. وتصبحُ الزرقة والسمو عالمَها الخلاب… تحلقُ عالياً وبعيداً عن ضجيج الأرض ورائحتها… وترتفعُ بذاتها الإنسانية وذواتِ كلِّ النساء الليبيات الفضليات….بعد أن صار الارتباط وثيقاً بين التاريخ واسمها والحدث. تبتسمُ عيناها وتذرفُ دموعَ فرحٍ حلوة.. ويرقصُ قلبُها تيهاً…حين تتعالى زغاريدُ أقمارِ ونجومِ السموات والأرض احتفاء بالفتاة الليبية الرائدة.. فتقرر الهبوط بحنو وفخر واعتزاز… والعودة من جديد إلى  كوكب الأرض… عشها الدافئ.. وما إن تلامس عجلات طائرتها أرضية المهبط وهي تضغط على مكابحها لتقودها إلى مربضها… حتى تطيرَ مجدداً وهي تقود سرباً من الطيارين للمشاركة في استعراض جوي خلال حفل افتتاح نادي الطيران بطرابلس… وهنا تتوقف عن التحليق… ولكن التاريخ يعلن أن صفحاته لم تكتمل بعد.. بل ربما من هنا ستكون البداية الحقيقية… فوق ثرى هذه الأرض الليبية وأديمها الطاهر.

بعد أن نالت الفتاة الجميلة الطالبة عائشة عمر الأصفر الشهادة الثانوية العامة سنة 1974 من مدرسة سبها للبنين… نعم للبنين… حيث لم يكن حتى ذاك الوقت قد أُفتتحت أيةُ مدرسةٍ ثانوية للبنات في الجنوب الليبي… حزمت حقيبتها ورحلت إلى مدينة بنغازي الحبيبة.. لم تفكر طويلاً في التخصص الذي ستختاره أثناء دراستها الجامعية.. فأمواج الأسئلة المتوالدة والمتدافعة في ذهنها الفطري البكر، وتزاحم نظراتها التأملية الفكرية البعيدة المدى، والعميقة التحليل والتأويل، قادتها بسلاسة إلى قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة قار يونس الذي نهلت من علومه الغزيرة، وفتحت شبابيك قلبها لزميلات وزملاء ظلوا رحيق وبهجة المشوار الدراسي، يستوطنون القلب النابض بالمحبة وكذلك ذاكرة الأيام الجامعية الجميلة التي لم تخبو لحظاتُها الممتعمة حتى بعد تخرجها من القسم بدرجة الليسانس سنة 1978م وظلت تلك الأيام حيةَ في أعماقها مسجلَةً  في روايتها الجميلة (خريجات قاريونس).

علاقتها بالقراءة تفتحت منذ بواكير عمرها على عيون الأدب العالمي فقرأت البؤساء في السنة الثالثة الإعدادية وتبعتها روايات تولستوي وهمنجواي ويوسف السباعي واحسان عبدالقدوس وغيرهم كما طالعت مجلات “المعرفة” بالمركز الثقافي الأمريكي بسبها وما يتوفر بمركز المنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”.

ومن بين أنشطتها الثقافية عضويتها في أول لجنة للشباب والشؤون الاجتماعية وقيامها بإجراء مسح اجتماعي شامل لكل مدن الجنوب الليبي الحبيب، كما شاركت في ندوة للمركز الوطني للمأثور الشعبي تحت عنوان (أثر الثقافة الشعبية في تشكيل المرأة) وشاركت في المخيمات الكشفية في طرابلس وسبها وبالاضافة إلى مهامها العملية في التدريس وتولي منصب إدارة المدرسة عملت متطوعة في برامج تدربس الكبار ومحو الأمية لمدة أربعة سنوات، غايتها إشعاعُ النور في عقول الناس، وتحفيزُهم والعملُ على زرعِ بذورِ المعرفةِ والجمال والمحبة فيهم. كما ظلت طوال ريادتها لحركة النهضة النسائية في أوائل السبعينيات تؤمن بشكل مطلق بأن قضية المرأة ليست منفصلة، ولكنها ضمن قضية الإنسان بجنسيه، وأزمة العقل التي يواجهها وانعكاساتها المختلفة، حتى أنها في مشروع الدفاع المسلح عن الوطن انخرطت في التدريب على السلاح بأول دفعة لكراديس المقاومة الشعبية التي أقيمت سنة 1972م بمدرسة جميلة الازمرلي الثانوية للبنات بشارع النصر بمدينة طرابلس.

 تناولت الجرائد والصحف مغامرتها النسوية فكتبت عنها مجلة “المرأة” و”الفتاة الليبية” وغيرها من الصحف والجرائد والمجلات، ونالت من الدولة الليبية وسامين بكل استحقاق، الأول وسام الريادة في الطيران والثاني في العمل الشعبي والتطوعي.

اتجهت منذ 2005 الى عالم الكتابة السردية الابداعية، فنشرت ثلاث روايات. الأولى بعنوان (اللي قتل الكلب) التي أنجزتها سنة 2005  ونشرت سنة 2007، والرواية الثانية بعنوان (خريجات قاريونس) التي أنجزتها سنة 2006 ونشرت 2007، والرواية الثالثة بعنوان (اغتصاب محظية) التي أنجزتها وسجلتها بدار الكتب الوطنية سنة 2008 ولكنها نشرت سنة 2012.

واقتبس بعض هذه المعلومات حول الروايات:

أولاً/ اللي قتل الكلب: هذه الرواية تحكي فصول قبيلة بدوية وحديثة بعض الشيء تدور الأحدات في إحدى قرى هذه القبيلة. الشخصية المميزة في هذه الرواية شخصية “دنقله” وهو أستاذ يعمل بهذه القرية الصغيرة ومن نفس القبيلة أيضاً، وله آراء وطموحات ووجهات نظر، وله قصة غرام مع ابنة سيد القبيلة. الرواية تنتابها بعض الجرأة وأوصاف أو نعوت طريفة.

وحول توظيف الرمزية في هذه الرواية تقول المؤلفة (.. لا بد من الرمزية في أي عمل فني خاصة الرواية وإلا لا قيمة أدبية لها. وعندما وظفتُ الرمز في رواية “اللي قتل الكلب” كان لدي يقين بأنه سيؤدي وظيفته فيها بشكل كبير وليس فقط مساعد. أما هل أدى الرمز دوره أم لا فذلك يرجع للقارئ والناقد. فالكاتب تنقطع صلته بالنص فور الانتهاء منه.)

ثانياً/ أما رواية (خريجات قاريونس): فقد تميزت إجمالاً بمقدرة الكاتبة على نسج فضاء دافيء يعكس عمق العلاقات الحميمية المتوطدة بين طالبات جامعة قار يونس أثناء مرحلة الدراسة الجامعية، وتواصل تلك العلاقات وامتدادها بينهن بعد مضي سنوات الدراسة مستمدين من ماضيهن المشترك محركاً يمدهن بالكثير من البهجة والصراحة والحنين.).

وترفض المؤلفة القول بأنها قدمت سيرتها الحياتية في هذه الرواية وأكدت بأنها (ليست سيرة ذاتية البتة. وأعتقد أن الانطباع بكونها سيرة ذاتية لدى الكثيرين دليل ملامستها وتفاعلها مع القراء وهذا أمر يسعدني وأراه ايجابيا).

ثالثا/ أما رواية (اغتصاب محظية): فقد كُتبت سنة 2008 خلال فترة حكم النظام السابق ولجأت المؤلفة فيها إلى ما يعرف بالأدب السريالي على حد وصف وتحليل الكاتبة ليلى نعيم المغربي في مقالها حول هذه الرواية المنشور بعنوان (اغتصاب محظية.. لوحة سريالية أدبية) مؤكدة أن السريالية ظهرت منذ الفقرة الاستهلالية الأولى بهذه الرواية (… على سطح البحر تتحرك الأجساد الحية والميتة، أما أعماقه فللأحياء فقط” تستدرجك الكاتبة بداية من سطرها الأول لتبدأ رحلة الإبحار والتدبر في عالم روايتها المخالف كلياً لأعمالها السردية السابقة. وهي لا تكتفي بذلك بل تقذفك في متون السؤال الأول المربك بتمنياته المعلقة والذي يقول: “ليتني أنجح في تصوير قصتي كما هي، فمعايشة التجربة تجعلك تختزل بعض الصور عن غير قصد فتحجب بعضها دون أن تشعر، فهل سأنجح في تصوير تجربتي كما حدثت فعلاً؟ أرجو ألا يؤثر اهتزازي على تماسك روايتي”.. ). وفي تصوري فإن هذا الاهتزاز نفسه هو الذي بعث التشويق والرغبة في مواصلة السعي لفك طلاسم الرواية بكل همة ونشاط وإمتاع.

الروائية عائشة محمد الأصفر

لا يمكن للكلام المطرز الجميل أن يستوفي كل جوانب وصور رياداتك وابداعاتك الأدبية ومساهماتك الإنسانية في مسيرة الوطن. وطالما أن التوقف يصبح حتمياً تحت قيود الزمن والوقت… فلابد لي في الختام أن أحيي فيك روحك الوثابة المتحفزة للمغامرة والحالمة بغد ووطن يلج بالمحبة والمجد والفخار الذي تستحقينه بكل جدارة. وأضافت: “تعب الكتابة متعة. استمتعت جدا بالوقت الذي كتبت فيه كل رواية. أتفاعل مع شخوصي وهم بالنسبة لي كائنات ملآى بالأحاسيس والانفعالات كل حسب تكوينه وشخصيته، وكل لديه عندي انطباع مرسوم، تتشكل بينهم علاقات ترتسم تلقائيا، أسير وراءهم حتى نهاية الرواية.. ولكن نسبيا أستطيع القول إن روايتي “اغتصاب محظية”، كانت شخوصها من المشاكسين الأكثر تعقيدا”.

القارئ والنص

تقول الكاتبة الأميركية جينيفر إيغان: “حين لا أكتب يجتاحني شعور بفقد شيء ما؟”، وتجيب الروائية عائشة الأصفر عن سؤال الكتابة بالقول: وحين أكتب يجتاحني شعور بامتلاك كل الأشياء، وتضيف: “فالكتابة تعني لي الإحساس بالحرية والتحليق. يتساوى فيها الحلم بالواقع والعقل بالجنون حد الهذيان. وهي رغم وجودها الكينوني فإنها حالة خاصة فردية، وفعل معقد، وفن مركب تمتزج فيها الفكرة والتخيل واللغة في صور وحروف مترجمة على ورقة جاهزة للقراءة في زمن قياسي شأن اللغة ولأنها كذلك فإنني ل ابد أن أتهيأ لفعل الكتابة التي تحتاج إلى صفاءٍ ذهني فلا يمكنني الكتابة وأن أفكر في شيء آخر. وأميل للكتابة ليلا أو في ساعات الفجر”. وأوضحت ضيفتنا: على الكاتب المبدع أن يداعب النص الذي بين يديه ويشكله ويتفنن فيه بالطريقة التي تحلو له حسب رؤيته هو لا مقياس القارئ، فهو عندما يكتب لا يفكر في ردة فعل المتلقي، يكتب الكاتب نصه وهو لا يعلم إن كان سيقرأ أم لا. صحيح أن المتلقي الواعي والقارئ الايجابي والمتفاعل يشجعه على الكتابة لكن ينبغي ألا يتأثر بردة الفعل السلبية.

هل نستطيع القول إن لدينا رواية بتفاصيل ليبية، بمخزون تراثي ليبي، رصد تحولات المجتمع الليبي عبر فترة من الزمن؟ تجيب ضيفتنا: رواية بتفاصيل أي مجتمع تحتاج إلى كم هائل ومخزون لا بأس به من الروايات المتناولة لهذا المجتمع.. واعتقد أننا في ليبيا لم نصل إلى هذا الكم بعد.. إضافة لذلك أن لكل فترة زمنية تفاصيلها وسماتها، وإن كانت هذه المظاهر ترافقنا من جيل لآخر لكن يبقى لكل مرحلة تاريخية خصوصيتها.. ونأمل أن نصل لرواية بتفاصيل ليبية قريبا.

مقالات ذات علاقة

‘‘أوندينا باراديل’’ الشخصية التي أجادت ممارسة الدبلوماسية الثقافية في ليبيا

المشرف العام

منسيون 2/1

سالم الكبتي

25 عامًا على رحيل بنت الوطن

مهند سليمان

اترك تعليق