شخصيات

محمد عبدالله المحجوب.. شاعر خارج النطاق

الشاعر محمد عبدالله المحجوب

كنت قد تعرفت على الشاعر العصامي محمد عبدالله المحجوب منذ بداية الثمانينات في ملتقى القصة القصيرة الذي استمر لعدة أيام في مقر اتحاد الأدباء والكتاب الليبيين بطرابلس حينذاك.

كان المحجوب وقتها رئيساً لاتحاد الأدباء والكتاب فرع بنغازي، و بصحبته كل من الكاتب والصحفي محمد السنوسي الغزالي والقاص الراحل بن عيسى الجروشي.

كان ذلك أول لقاء تعرفت فيه بالشاعر عن قرب، وقد ازداد تقاربنا أكثر في مقر الإقامة بفندق باب البحر وسرعان ما جمعتنا هموم الثقافة والأدب وتبادلنا الأحاديث عن الشعر الليبي وعن القصة القصيرة، ولم نفترق بعد انتهاء فعاليات الملتقى إلا وقد نشأت بيننا حميمية رسمت علاقة خاصة بيننا امتدت لسنوات طويلة مفعمة بالنصوص والتميز.

ولد الشاعر محمد عبدالله عمر المحجوب سنة 1940 م بمدينة الإسكندرية وعاد مع أسرته بعد الحرب العالمية الثانية إلى ارض الوطن طفلاً حيث درس بمدرسة البركة بمدينة بنغازي.

ثم التحق بمعهد المعلمين بنغازي وتخرج منه مدرساً وعمل في حقل التدريس لعدة سنوات ثم انتقل بعدها إلى نظارة العدل حيث عين موظفاً في محكمة الاستئناف ببنغازي.

و تدرج في السلم الوظيفي للهيئة العامة لشؤون القضاء حتى شغل مدير عام المركز الوطني للبحوث التشريعية والجنائية فرع بنغازي وقد تفتقت قريحة الشاعر مبكراً حيث بدأ نظم القصائد منذ مطلع الستينات  في الشعر العمودي فتتلمذ على يد الشاعر الكبير حسن السوسي الذي شكل له العلاقة الأولى مع الشعر ونقح له أول تجربة شعرية سنة 1962م.

كان شاعرنا المحجوب غزير الثقافة ضليعاً في اللغة مرهفاً وعصامياً يجتمع على خبرة كبيرة واهتمامات متنوعة جعلته يلامس شتى الأغراض الشعرية من وطنية وفخر وغزل ورثاء وغيره.

ونشر شعره في الصحف والمجلات المحلية و العربية فرصعت قصائده صفحاتها أذكر من بينها على سبيل المثال  «الموعد العربي» اللبنانية و«الرقيب» و«الثقافة العربية» وغيرها من المطبوعات المهتمة بالنص الشعري.

مرت أيام كثيرة وزمن خضبتنا فيه الصحافة ومتاعبها، وذات يوم التقيت بالقاص عبد القادر مطول في مدينتي طبرق الذي اخبرني عن اطلاعه على صحيفة البطنان ولكن ما يقلقه هو الأخطاء المطبعية.

فأخبرته بمراحل إخراج الصحيفة وكيف أنها تجمع مرئياً وتخرج فنياً بل وتطبع في نفس الليلة في المطبعة ولا يوجد من يقوم بالمراجعة اللغوية في ربكة الطباعة فاقترح صديقنا القاص بأنه علي الاتصال بالشاعر المحجوب كمصحح لغوي خاصة وأنه قد أحيل على المعاش وتقاعد من عمله الحكومي ويعمل في مكتب محرر عقود فأبلغته أننى أعرفه جيداً ويعرفني وأريد منك أن تبحث عنه وتجعله يتصل بي في مطبعة بنغازي عند موعد الطباعة وبالفعل أتصل بي الشاعر وأسندت إليه المراجعة اللغوية لصحيفة البطنان وبدأ يتواجد معنا يوم طباعة الصحيفة وكان لحضوره المتميز أثراً كبيراً علينا وعلى صحيفة البطنان وكذلك على عمال المطبعة أيضاً.

وواظب على عمله لعدة سنوات بهذه الصحيفة وكان دقيقاً في تصحيحه لمواد الصحيفة ومراجعتها لغوياً بارعاً يعشق اللغة العربية التي يكتب شعره بها وكانت اللغة طيعة بين يديه وكثيراً ما كان يتحفنا ببعض الأبيات التي تصور عملنا في الصحيفة أو تحاكي تلك المواقف التي كانت تمر بنا في غمرة العمل.

ومنذ ذلك اليوم عاد إلى قرض الشعر الفصيح من جديد بعد أن انقطع عن كتابته لعدة سنوات.

وتدفقت قصائده فما كان ينتهي من إلقاء قصيدة على مسامعنا حتى يبدأ في نظم أخرى وعن عشق العمل في صحيفة البطنان نقطف له هذه الأبيات:

عملت لدى المطابع بعض عام
بها أدركت تغريد اليمام
فلم أعلم له يوماً أصولاً
ولم أعلم بتاتا من نظام.

وعن حبه لصحيفة البطنان التي عمل بها مصححا لغويا قال الشاعر:

أهدت إلي مليحة أحببتها
قد توجتني في خريف زماني
فتحت مجال الشعر عند قريحتي
فتفتقت درراً على أوزاني.

وتوالت قصائد المحجوب على صفحات البطنان وأخبار بنغازي والقبة والشلال وغيرها.

واتجه في شعره إلى الغزل العفيف ومن ذلك قصائده في عشق زينب، تلك الفتاة التي تقوم بالجمع المرئي لمواد صحيفة البطنان، والتي كانت دائماً تستعجله في الإسراع في التصحيح والمراجعة اللغوية لصفحات الصحيفة ويصل ما كتبه فيها إلى ديوان أسماه «المستعجلة» يهديه بقوله: «إلى زوينب المستعجلة التي أثارت أحاسيسي بخفة روحها وجمالها وأخلاقها فحفزت قريحتي فنظمت فيها 42 قصيدة غزل».

يقول الشاعر في مطلع قصيدة المستعجلة والتي سميت بها أولى دواوينه، حيث طلبت منه الفتاة العاملة بالجمع المرئي ضرورة الإسراع في تصحيح مواد صحيفة البطنان فخاطبها الشاعر في قصيدة قائلاً:

لا تدفعيني إلى الإسراع في عملي
فقد يقرب ذا الإسراع من أجلى
ففي التأني نجاة دونما خطر
وفي التسرع أقبال على الخطر
فلا يليق بشيخ مثل شاكلتي
مالي و للجرى والإسراع والرمل
ولترفقى بمشيب الغض يا أملى
فإن مشيت معي سيرى على مهل.

يمتاز الشاعر المحجوب بروح الدعابة في شعره وكذلك في حياته فهو صاحب نكته وروح مرحة ظريفة.

فالشاعر المحجوب هو شاعر حالم رقيق في شعره له العديد من القصائد الغزلية العاطفية مثل «غيرة»، «شبيهتها»، «إلى ملهمتي»، «ضحكت»، «مناشدة»، «أعاتبها». والشاعر في قصيدة «المستعجلة»، عندما يتغزل في عيني محبوبته نلاحظ دقة الوصف وروعة التعبير وجمال الصور في قوله:

هذى العيون التي تسبى بنظرتها
لها رموش تحط الباز من جبل
فإن رميت بها غراً فتكت به
وصار عندك مصفوداً وكالحمل
لا يستطيع حراكاً إذ يهم كما
يصاب مريض العصر بالشلل.

هذا الشاعر قام بجمع قصائده في دواوين صغيرة مخطوطة بعناوين هي «زنابق»، «إلى ملهمتي»، «المستعجلة»، «حفيدتي»، «كشفيات» وللأسف لم تر هذه الدواوين النور، وربما عصامية شاعرنا وأنفته كانت السبب الرئيسي وراء عدم تمكنه من طباعة أعماله بالرغم من المجهودات التي بذلها هذا الشاعر من أجل طبعها ونشرها قبل وفاته في التسعينيات وكذلك دراسة حسين الحلافي ومخطوط عن قبيلة المحاجيب وربما كانت له بعض المخطوطات الأخرى لم تسنح لنا الفرصة لرؤيتها، رحل عنا الشاعر وبقت ذكراه الجميلة وأملاً قد يتحقق في طباعة ونشر أعماله التي ظلت خارج نطاق التداول، رحمه الله بواسع من رحمته.

________

نشر بموقع المستقل

مقالات ذات علاقة

أربعون المهندس الباحث عبدالمنعم الدبسكي

رامز رمضان النويصري

مفتاح بومدين!

أحمد الفيتوري

في ذكرى التي لم تعد وحيدة (2/1)

حواء القمودي

اترك تعليق