المقالة

سَقِيفَةِ الإيْطَالِيْ

 

كان اسم الشارع أثناء الحكم السابق ” شارع أول سبتمبر” ثم أُعِيدَ إليه اسمه الأصْلِي القديم الذي يعرفه الجميع ” شارع 24 ديسمبر” المُرتبط في الأذهان بالاستقلال الوطني وعهد الملك محمد إدريس السنوسي.

ومن نَوافِل التَّدوِين تحديد مَوْقِعِه الكائن بموازاة ” شارع ميزران في طرابلس”.

وفي هذا الشارع الرئيسي “24 ديسمبر” كانت هناك سنة 1957 م ” سَقِيفَة ” يديرها رجل إيطالي، وصارت الآن أحد مقرَّات ” موبايل ليبيانا”. وليس ثَمَّةَ ضرورة لإيضاح كلمة ” سقيفة” فهي واضحة وذات شأن في التاريخ العربي وبالتالي التاريخ الاجتماعي الإسلامي منذ بدايته حيث أنَّ كلمة “سقيفة كان يُشارُ بها في تلك الأزمنة القديمة إلى ” سقيفة بني سَاعِدَةَ ” ..وكما يَرِدُ في المعاجم الكلاسيكية للُّغة العربية : بَنُو سَاعِدَة قومٌ من الخَزْرَج وسَقَيفَتُهُمْ في مكة بمنزلة دارٍ لهم ” يقيمون فيها كبيتٍ في الليل وكمنتدَى للنقال والمُسامَرَة في النهار .

وكان كبار الصَّحابَة – بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام- يجتمعون في سقيفة بني سَاعِدَة ليتناقشوا حول شؤون المسلمين وأوضاعِهُمْ ومصائرِهُمْ بعدما إفتقد الجميع النبي الحبيب ، وذلك وفْقَاً لما هو مَذْكُور في الإصدارات الدَّوْرِيَّة للأزهر مِثْل مجلة ” الفُرْقان” الرسميَّة ، وبناءً على ما وَرَدَ عند كبار المؤرخين العرب المسلمين ومنهم الفارابي والطبري وابن الأثير وابن حَوْقَل وابن عباس والإدريسي والعَسْقَلانِي والسَّيُّوطي .وقبل هؤلاء جميعاً ما جاء في “نَهْجُ البلاغة ” للإمام الكبير علي ابن أبي طالب – رضوان الله عليه –وفي العصر الوسيط الشيخ الجليل ” محمد عَبْدُه” وكذلك – في العصر الحديث – فضيلة الشيخ الأستاذ خالد محمد خالد من علماء الأزهر ” الكبار ،،وفضيلة الشيخ الجليل “علي عبد الرزاق”، وبناءً على ما دَوَّنَهُ الدكتور طه حسين عند تناولِه تفاصيل الفتنة الكبرى.

وحين نعودُ – في هذه المقالة-إلى سقيفة الإيطالي نجد أنَّها لا تشبه السقيفة القديمة سوى من ناحية الاشتراك اللُّغَوِي في كلمة ” سقيفة ” القاموسية، فخلال سنة 1957م كانت سقيفة الإيطالي مطعماً، ولم يتَّخِذْها صاحبها الإيطالي بيتاً له في أيّ وقتٍ من الأوقات.

وهذا المطعم يقدِّم لزبائنه أشهى المأكولات التي تخصَّصَ في إعدادها مِثْل الفاصوليا والكِرْشَة والبقر الوطني.

ولكلّ زبون يَضَعُونَ على المائدة زجاجة “كوكا كولا” أو ” بيبسي كولا” فارغة عُبَّأت نبيذاً بدون مُقابل للزجاجة الأولى، أمّا الزجاجات الأخرى المماثلة للزجاجة الأولى فيُضافُ ثمنَها إلى حسابِ المأكولات. وأسعار السقيفة الإيطالية معتدلة ومعقولة لكنَّها ليست مُتَهافِتَة حِرْصَاً من المطعم على المكان المحترم كَيّ لا يتحوَّل إلى بُقْعَةٍ للأوباش ومشاجراتِهم الكريهة.

وكنا نذهب سنة 1957 م إلى سقيفة الإيطالي لنتناول الطعام الذي تخصَّصَ فيه الطاهي الإيطالي وأعوانه الإيطاليون الذين لا يغادرون المطبخ وأعوانه الإيطاليون الذين يقدِّمون الطعام للزبائن. ولم تكن الساعات الكثيرة التي نمكثها جالسين حول المائدة مثاراً للتساؤل لأنّ الإيطاليين في طرابلس الغرب أو في إيطاليا اعتادوا البقاء في المطاعم لمُدَدٍ تزيد أحياناً عن ساعتين أو ثلاث ساعات يأكلون ويتحدثون فهذا عادي جداً عندهم. والحقيقة أنَّ المسامرة والنقاش في الأدب والفن والثقافة كان غرضنا الأساسي مع الطعام . وكان الإيطالي صاحب السقيفة يُبادِر نحونا فور جلوسنا مُرَحَّباً بنا، وهو يُرَحِّبُ بنا كزبائن دائمين عنده ولأنَّه يعرفُ أيضاً أننا أدباء وكتاب وشعراء وصحافيون جاؤوا للمسامرة والحوار حول الأدب بالذات .وكان يستقبلنا مُتَهَلِّلَ الوجه بلهجة طرابلسية أصْلِيَّة فكان بعضنا مِمَّن يجيد اللُّغة الإيطالية يَرُدُ على تّرحيبه بلغة إيطالية فصحى لدواعي المجاملة.

يقول الرجل الإيطالي صاحب السقيفة :

–    المحل محلكم فكلوا مالَذّ وطاب واشربوا ما شئتم من النبيذ وتحدثوا وتناقشوا بحرية فلن تجدوا محلاً يهيئ لَكُمْ ذلك مِثْلَ محلنا.

ومن أشهر المداومين على المأدبة الكاتب الليبي عبد القادر أبو هروس والشاعر الشاب الأستاذ علي الرقيعي والأستاذ محمد الشاوش من أسرة تحرير جريدة “طرابلس الغرب” اليومية.وكنتُ أَصْطَحِبُ معي أحياناً الأستاذ المعروف محمد عمر الطشاني مدير المطبوعات في ولاية فزان ورئيس تحرير جريدة “فزان” الأسبوعية –قبل أنَّ يُعَيِّنُ الأستاذ عبد الهادي الفيتوري محرر الرياضة بجريدة ” طرابلس الغرب” رئيساً لتحرير جريدة “فزان” – وقد تَعَرَّفْتُ على الأستاذ الطشاني في مدينة ” طرابلس الغرب “سنة 1957م أثناء العهد الملكي وكتبتُ في تلك الجريدة مقالات كثيرة مُنْذُ ذلك التاريخ 1957م وقامتْ الجريدة المذكورة بإجراء أكثر من حوار في الأدب قبل الالتحاق بها والسفر إلى سبها للعمل فيها سنة 1958م بناءً على عَرْضٍ من الأستاذ الطشاني.

وكان يأتي إلى مأدبتنا السنيور “ماسَّا ” رئيس تحرير الجريدة اليومية الإيطالية كلما أتاحت له أعباء عمله فرصة للمجيء.

وقد كان الأديب عبد القادر أبو هروس في ذلك الوقت مسؤولاً في دار الإذاعة الليبية قبل استلامه لمسؤولية رئاسة تحرير جريدة “الرائد” غَيْرِ الحكومية.

وكُنا نعرفُ جميعاً أنَّ عبد القادر أبو هروس قد ألَّفَ مجموعة قصص قصيرة احتواها كتاب عنوانه ” نفوس حائرة” وكان بعضنا فقط يعرف أنَّ عبد القادر أبو هروس كان مقيماً في الولايات المتحدة الأمريكية وأنَّه عاد إلى وطنه في العهد الملكي قبل اكتشاف البترول .وبعد ذلك نَشَرَتْ جريدة “طرابلس الغرب” اليومية التابعة للدولة تفاصيلاً عن إقامة عبد القادر أبو هروس في أمريكا وعودته إلى وطنه .وكان نَشْرُ تلك التفاصيل الهامَّة في فترة رئاسة تحرير الأستاذ محمد فخر الدين لتلك الجريدة اليومية.

والواقع أنَّ التأثُّر بالمدرسة المهجرية الأدبية الشهيرة في أمريكا واضح تماماً من عنوان كتاب ” نفوس حائرة” ومحتوياته. ومعلوم أنَّ من أعلام تلك المدرسة المهجرية في أمريكا الأديب اللبناني جبران خليل جبران والشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي الذي هاجر إليها في أربعينات القرن العشرين. ومن أَعْلامِها أيضاً الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي والشاعر اللبناني الآخر يوسف الخال وغيرهم مِمَّن لم يسافر إلى أمريكا حتى للسياحة مِثْل الشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي والشاعر الليبي الشهير الأستاذ علي صدقي عبد القادر لا سيما ديوانه الأول “أحلام وثورة ” وهو لا يَعْني أيّ ثورة من هنا أو هناك والدليل هو تاريخ الطَبعة الأولى لهذا الديوان المُهِم فأحلام هي ابنته وثورة تَدُلُّ لَدَيه على النَّقْلَة النوعيَّة .

ويتبدَّى بوضوح في هذا الديوان تأثُّرَهُ بالمدرسة المهجرية المذكورة.

وفي إحدى الجلسات سنة 1957م قرأ لنا الشاعر الليبي الأستاذ علي الرقيعي إحدى قصائده الجديدة فنوَّهْنا بها وبشفافية موهبته، وقلنا إنَّه يحمل راية التجديد الشعري في ليبيا وإنّنا ننتظر منه الكثير مِمّا سوف يَضَعُ تحديث الشعر الليبي الفصيح أمانةً نتابع تطوراتها على يديه .وقال الأستاذ عبد القادر أبو هروس – بعدما ناقشنا تأثُّر الرقيعي بالشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي – إنّ النَّفْسَ الخاص لعلي الرقيعي يكتمل شيئاً فشيئاً داخل المدرسة الحديثة التي يرفعُ رايتها الشاعر العراقي المعروف عبد الوهاب البياتي .

واستطرد عبد القادر أبو هروس قائلاً لي:

-أَوَدُّ إبداء سعادتي لأنّك مع الأستاذ فاضل المسعودي قد أدْخَلْتُما للمرة الأولى نثراً حديثاً .

وأنا لا أَعْنِي الأسلوب فلكلّ واحدٍ منكما أسلوبه الخاص إنّما أقصد التراكيب والجُمَل والمُخيِّلَة غَيْرَ المُخْتَلِطَة بالرَطانَة.

ثم أردفَ أبو هروس قائلاً:

–    تَلْزَمُ الإشارة بالضرورة إلى مصطلح ” مقالة العمود” فلكما الرِّيادة في ذلك النَّمط من أنماط الكتابة الذي جَلَبْتُما أُسُسَه إلى ليبيا.

فقلت بانتعاش :

–    سنطرح للنقاش مجموعتك الأدبية ” نفوس حائرة ” ..

وشَرَعْنا في تناول الطعام.

_______________
نشر بموقع الأيام

مقالات ذات علاقة

عالم “أحمد يوسف عقيلة”.. “خراريف ليبية” لا تنتهي

المشرف العام

ما اضيع الجمال عند البهائم

أحمد معيوف

الليبيون وصلوا إلى أمريكا قبل كولومبوس

محمد قصيبات

اترك تعليق