النقد دراسات

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (9) .. فاعلية بناء الإيقاع المعنوي

بقلم: فضة الشارف

3- الإيقاع المعنوي:

ينبعث الإيقاع المعنوي أساساً من طبيعة وفاعلية بناء عنصر الحركة في النص، أي النسق الداخلي المتحكم في تناسق الكلام من حيث الحركة والمعنى والفكرة والمواءمة بينهما، وجمع النظائر والأضداد، وما يولده هذا الإيقاع من صراع، واللعب بالكلمات والأفكار تبعاً للإظهار والإخفاء فتتشكل في النفس ألوان إيقاعية([1]).

قد تكون النواة ((الإيقاعية صفة جوهرية أو ثانوية في صوت، أو مجموعة أصوات، مطابقة لجملة أصوات وحدة الدلالة أو غير مطابقة، كما قد تكون نغمة مسموعة من توالي المفردات المكونة لتراكيب مخصوصة))([2]). وبذلك فإن هذه الحركة لا بد أن تتمظهر في نغمات تولدها اللغة عن طريق توالي المفردات المكونة للتراكيب، ويمكن تصنيفها إلى أصناف أربعة اثنان يتعلقان بنسق الخطاب ومتوالياته النحوية يربط بينهما أنهما يقومان على المقابلة التي تولد إيقاع الفكرة، وهما: ((الحركة وهي وضعية المتقابلين في سياق واحد ونظام واحد، من حيث تحركهما في اتجاهات معينة، والتوتر هو: مقابلة احتفظ فيها كل المتقابلين بمنزلته إزاء الآخر، فلم ينزع المتقابلان في تحركهما إلى الالتقاء والجمع بينهما في سياق واحد يكون لغاية إبراز التوتر في علاقتهما))([3]).

أما الصنفان الآخران: فيقومان على فضاء النص وطريقة كتابته وهما علامتا الترقيم اللتان تشيران إلى تمفصل سيكولوجي ونحوي في آن معاً ويوجد بينهما تدرج، فالنقطة تسجل نهاية الجملة أي نهاية مجموع يمكن أن يوجد منفصلاً؛ لأنه يحمل معنى كاملاً في نفسه، أما الفاصلة فإنها تفصل بين مجموعتين لا يمكن أن توجدا منفصلتين، ولكنهما تتمتعان مع ذاك بقدر من الاستقلال([4]). وهذا ما تمت دراسته سابقاً في المبحث الثاني من الفصل الأول (الانسجام).

1.3-التماثل والتقابل:

من خلال ما تقدم نلحظ استخدام عبدالمنعم المحجوب لهذه الأنماط في نصوصه، حيث نقرأ:

أعرف أنكِ الآن تعتريني

وأنكِ أمّ قافلتي

أعرف أنكِ خطيئتي المؤلّهة

وجنوني الوضيء

وعتمة همسي

وصيحتي تمزق حجابَ الليل

فيستنجد بالنهار.

وكان جَملٌ دلّني أن ألعبَ هكذا.([5])

يتمثل البناء الإيقاعي المعنوي للنص بالربط الجدلي بين حركات المعنى، جدل التماثل والتقابل وفق النظام التالي: (أعرف، أنكِ، أنكِ، أعرف) فالحركة الأولى تماثل الرابعة، والثانية تماثل الثالثة، وتقابل كل حركتين متماثلتين: الأولى والرابعة تقابلان الثانية والثالثة. أما التقابل فناشئ عن الخطيئة المؤلهة في مسعاه رغم وصوله إلى لحظة الجنون، إذ عرف بهذا الجنون عتمة وسوادًا وصل إليه نتيجة الخطيئة التي ارتكبها وهي تتيمه بها، حتى قاده إلى درجة من درجات الحب وهي الجنون الوضيء.

ثمة براعة فائقة من الشاعر في اختيار تجربة الجنون لتجسد الخطيئة، فهي أكثر التجارب ثراء دلالياً وغنى إيحائياً لانتمائها إلى حقول دلالية ورمزية تنصرف إلى معاني الحياة، فهي دالة على الحيوية واستيقاظ اللاوعي، وتفتح النفس، وتؤجج المشاعر، وصفاء الخيال واكتمال الذات بلقاء ذاتها، وتكامل الذات مع الآخر النديم في أقصى فاعلية من المشاركة الوجدانية.

على الرغم من أن هذا يتناقض تناقضاً حاداً مع ما وصل إليه من جنونه الوضيء وعتمة همسه التي أدت إلى السواد الثقيل، والوحدة التي عاشها مع نفسه في غياب الآخر الذي هو متيم به، الأمر الذي يعمق الخطيئة ويصعدها، بذلك يتسم إيقاع المعنى بحركية واضحة تنبع من التنقل بين المعنى وضده (عتمة همسي / صيحتي تمزق حجاب الليل). والليل هنا رمز للسواد الذي يخيم على الذات الكاتبة، غير أن هذه الحركية لا تصف زمن الحركة من حيث الطول والقصر، ولما كان المعنى مقولة لا زمنية فإن طوله الزمني يقاس بوقعه وأثره في النفس.

تتصف الحركة الأولى (أعرف أنكِ الآن تعتريني) بتراخي إيقاع الدلالة وامتداده المتأتيين من الفعل ومتعلقه (عرف) فهذا الفعل يدل على الإدراك والوضوح، إذ يشير إلى معرفة كمية حسية كانت أو معنوية. والمعرفة أو الإدراك يعطي انطباعاً بطول الزمن، فالزمن شعور بالحركة، والحركة (كم) متصل ويتعمق هذا الطول ب(العثور) في قوله (الآن تعتريني)، فالحركة الثانية (أعرف أنكِ خطيئتي المؤلهة / وجنوني الوضيء / وعتمة همسي) تراخي الإيقاع وامتداده لتقلبه إلى السرعة والقصر. وهكذا يساوي بين الخطيئة التي ارتكبها الشاعر وحالة الجنون، وهذه المساواة تتضمن هدم الإحساس بالزمن الذي وصل به إلى الجنون.

ينقلب الإيقاع الدلالي ثانية إلى التراخي مع الحركة الثالثة (صيحتي تمزق حجاب الليل) وفقاً لما تقتضيه إشارية الليل، وما تتركه من أثر. لكن هذا التراخي ليس امتدادياً على نحو امتدادية الحركة الأولى، إنما شديد الوقع وتقلبه، وذلك بما يتركه الفعل (تمزق) من أثر نفسي لما يستلزمه من الجهد والمشقة. أما الحركة الرابعة (فيستنجد بالنهار / وكان جملٌ دلني أن ألعب هكذا) فتماثل الحركة الأولى من حيث إيقاعها المتراخي الممتد، ويتركز ذلك في إيحاءات (دلنّي) الدالة على الوحدة.

فالحركة الزمنية للمعنى، أي أثر المعنى زمنياً، ثنائية كما حركة المعنى نفسه مبنية على التشابه والتقابل (ثلاث حركات متمهلة تقابل حركة سريعة)، وإن كان الطاغي عليها هو التمهل، إلا أن نسق التقابل يمنحها حركية تخفف ثقله، وثمة مكونات إيقاعية دلالية أخرى تحدث توازياً داخلياً لإيقاع المعنى الثنائي، وتنبع من لغة السرد الثنائية، زمن السرد وضمائر السرد، فزمن السرد يتحرك باتجاه متقدم بحيث يبدو وكأنه متوافق مع التعاقب الكرونولوجي (ماض – حاضر – مستقبل) (عرف – تعثر – تمزق – دل) لكن هذا التسلسل الزمني، يعاكس تسلسل زمن المعنى ويقلبه، فالماضي ليس ماضياً، والحاضر ليس حاضراً، إنما هو ماضي هذا الماضي السردي وسببه.

فالخطيئة حالة تتموضع في دورة الجنون قبيل (الهمس/ الصيحة) فالقصيدة لا تجري بلسان الشاعر (الأنا) ولا تنطلق من الذات المفردة لتعاين علائقها مع الآخر.

هكذا يتشابك إيقاع الدلالة في القصيدة وتتعدد مولداته وتتنوع، وتنضم جميعها في نسقية ثنائية حركية تجمع بين نسق المشابهة ونسق المقابلة والتضاد الذي حدث بين (همسي / صيحتي) و (الليل / النهار). أما نسق المشابهة فتتولد عنه حركة متراخية بطيئة تتطور باتجاه الانفصال، على حين يولد نسق المقابلة حركة حيوية تنبثق عن المراوحة بين الاتصال الذي هو محركها، والانفصال الذي هو مآلها.

بذلك ((يتضح البناء النّصّيّ المجسّد لانبثاق اللحظة الشعرية في المقطع السابق الذي قدمه المحجوب كائناً مكوكباً بعلائق الحضور والغياب))([6])، والذي يبرز من خلال قوله:

أعرفُ أنكِ جسدُ القصيدة

وأنكِ بين يدِي وقلبي

وأنكِ جبل الحقيقة

وأنكِ خطوتي في الجبل ولستِ صدىً

وأنكِ تنتزعين رَوعي

وأنكِ الكأسُ مترعةً بالانتظار

ولستِ تكابدين.([7])

بهذا النص يفعّل الشاعر عبدالمنعم المحجوب صوت الغنائية التي تحفل بها القصيدة العربية، فتتكثف لغة المفارقة الضدية، واشتباك الأنا، فنجده قارب الشعر بالغناء مهما بدا ابتعاده عنه، وذلك بالإشباعات الموسيقية الإيقاعية التي استعادت روح الأشياء، بكل حركتيها وحيويتها وإيحاءاتها لتطل من خلالها على روح (الآخر) الذي تتشكل معه (الأنا).

أما الفاعلية التأثيرية لهذه الصرامة الإيقاعية والتكرارية الصوتية فهي إثارة الارتخاء الحلمي وإثارة انتباه الخيال. إذ الثنائية المسيطرة في هذا المقطع ثنائية الحضور والغياب معاً. غياب في الظاهر المرئي، وحضور في العقل والوجدان بقوله (أنكِ بين يدي وقلبي / وأنكِ جبل الحقيقة / وأنكِ خطوتي في الجبل ولستِ صدى). هكذا تتكثف استراتيجية التماثل والتقابل مكونة إيقاعًا يمنح النص شعريته بناء ودلالة.

2.3 -الحركة والسكون:

تنماز قصيدة النثر بجو مليء بالإيحاءات الآتية من بنياتها الشكلية التي تحدث إيقاعاً نفسياً داخل القارئ، وتخلق حواراً بينه وبين القصيدة من خلال الفكرة، متماوجة ما بين الحركة والسكون كما جاء في قول عبدالمنعم المحجوب:

كمْ أن الغيمَ تصيبهُ لذةٌ

إذ يحرسكِ

كم أن البحر

وكم أن الليل والفجرَ

والعناصرَ الأربعةَ والعجائب السبع،

والكتبَ المقدسة والرؤى والقدّيسين

والشهداءَ يمنحونَكِ التفاتتهم الأخيرة.([8])

ثمة مشاهد كثيرة تثير الحركة والسكون في هذا النص، فمشهد الغيم يوحي بحركة نصية، إذ تصيب اللذة شعور الغيم وهو في حالة حراسة، وهذه حركة داخلية. أما مشهد البحر فيوحي بإثارة نصية حركية رغم سكونه أحياناً، وهي حركة خارجية، إلا أنه في المقابل نجد مشهد الليل والفجر الذي يشير إشارة نصية إلى السكون والهدوء على عكس البحر.

ثم يعود الشاعر ليرجع إلى الحركة من جديد فيذكر حالة الالتفات مع أن حركتها تختلف في الدرجة عن حركة الغيم والبحر. وهذا ما أطلعنا عليه نص المحجوب الذي يكسبه إيقاعاً نفسياً يطرب النفس ويستدرج الآخر؛ ليرسم للنص هالة مشتعلة بهواجس المرأة المتوجة بالتفات الشهداء، فهو يجمع سمات سردية تتجسد في الأصوات المتعددة، والحوار الذي ينجزه القارئ مع حركة البحر وسكونه.

لم تعد الحركة والسكون ثنائية ضدية تسهم في بناء القصيدة فحسب، بل هي بنية إيقاعية ذات دلالات نفسية تجتذب القارئ إليها، وتدعوه للإسهام هو الآخر في بناء النص وإنتاج دلالته، وهذه سمة إبداعية حرص الشعراء المعاصرون على وجودها لاسيما في قصيدة النثر التي بغيابها تفقد الكثير من سماتها الشعرية، التي تظل هذه الثنائية فعلاً معنوياً يرفدها بالحضور والبقاء.

______________________________________

[1]– انظر: المرجع السابق، ص. ص: 52. 53.

[2]– محمد الهادي الطرابلسي. في مفهوم الإيقاع، ص: 21.

[3]– محمد الهادي الطرابلسي. خصائص الأسلوب في الشوقيات، ص: 112.

[4]– جان كوهن. بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي، ومحمد العمري، ص: 185.

[5]– عبدالمنعم المحجوب. كلما شعّ النبيذ، ص: 19.

[6]– محمد عبدالرضا شياع. تجليات الذات الكاتبة في حرارة السؤال الشعري، ص: 86.

[7]– عبدالمنعم المحجوب. كلما شع النبيذ، ص: 18.

[8]– المصدر السابق، ص: 28.

مقالات ذات علاقة

لحظات متوترة في خطاب التجديد الشعري في ليبيا

محمد الفقيه صالح

على حافة عالم.. المقهور

نورالدين خليفة النمر

الكتابة النقدية الساخرة في ليبيا منذ “أبوقشة” إلى “طرنيش”

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق