النقد دراسات

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (7) .. ظلّ الذّات.. بحثاً عن صورة الضدّ

بقلم: فضة الشارف

 

3- الصورة الكلية:

يمكن تصور الصورة الكلية من خلال الوحدة العضوية للقصيدة بوصفها بناء كلياً، يتجسد في ((مجموعة من الصور الجزئية المترابطة يوظفها الشاعر، لأن الصورة الجزئية لا تستطيع أن تستوعب عاطفته وفكرته بصورة متكاملة، وخصوصاً إذا كان الموقف على قدر من التعقيد أكبر من أن تستوعبه صورة جزئية))([1])، إذ تبدو العلاقة بين الصورة الجزئية والصورة الكلية وثيقة، وهذه الصور في مجملها صور حوارية، تقوم على استدعاء الحالة النفسية، فهي لا تكتمل إلا بعد الانتهاء من البناء الكلي للنص.

تُعَدّ القصيدة – بذلك – صورة كلية تتكون من صور جزئية وتتفاعل هذه الصور بعضها مع بعض تفاعلاً يجعلها متوافقة في خصائصها، الجوهرية، ويرسم لها هذا التفاعل مناخاً نفسياً موحداً. لكن هذه الصورة ليست أكواماً مختلفة لا يجمعها جامع، أو لا تخضع لنسق، بل إن تلك الصورة تتشكل على نحو تفرضه التجربة الشعرية، وما تنتجه من عواطف، فما التجربة الشعرية كلها إلا صورة كبيرة ذات أجزاء هي بدورها صور جزئية([2]) باتحادها تنوجد القصيدة.

1.3- الضدية العميقة:

تُعد الضدية العميقة فعلاً ناجزاً لفاعلية البناء النصي الذي يتجلى من خلال الصورة، لاسيما في بنائها الكلي الذي يظل مخضّباً بحرارة التجربة الشعرية، والتي هي التربة التي تنمو وتتجسد فيها الكتابة الشعرية، هذا ما نسعى لقراءته في نص عبدالمنعم المحجوب الآتي:

رَمِّمْ تشابهكَ

صَحِّح أشباهكَ وماءَهم

ترى اختلافك. ربّما

أنْ تغورَ أعمق

كما لو أَن وجهكَ سينطفئ

كما لو أَن كفّكَ تضيءُ

وأَن نبعاً آخرَ

يشتعلُ.([3])

ينبني هذا المشهد على استراتيجية إزالة الوهم والسعي لإلغاء حدود التداخل بين الأنا والسوى، حتى بدأ النص وكأنه مشهد درامي كُتبت تفاصيله بأسلوب سردي ديدنه التخاطب الذي يأخذ بعداً منولوجياً تخاطب فيه الذات ذاتها عبر مرآة اجتمع فيها النور وظله، هذه هي فاعلية الجمع بين الثنائيات الضدية التي اعتمدها الشاعر في نسج خيوط الصورة الشعرية، حيث وظف المحجوب الحوار في بعض الصور الجزئية منها قوله:

كما لو أن وجهك سينطفئ

كما لو أن كفك تضيء.

فهذه الصور تناسب دلالة الصورة الكلية من خلال آليات متعددة منها هذا البناء الدرامي القائم على توحد المقاطع التي تحظى فيها الصورة الجزئية ببعض الاستقلال.

تقوم هذه الصورة على ثنائية التقابل والتفاعل بين الظاهر والباطن / بين الذات والذات / بين الأنا والسوى / بين السطح والعمق. كل واحدة تعد ((لبنة من لبنات البناء الكلي للقصيدة، وتصفية الجو النفسي الذي يسبح فيه الشاعر))([4])؛ بذلك ينهض النص ببروز الأنا، حيث نقرأ:

ليلٌ في رأسي

نَفَسُ طفلٍ قديم

يقتعدُ ركناً هناك

طفلٌ يدفعُ الشمسَ تسقطُ

في خفّةِ غيمةٍ في سّرة الكونِ ليلهو

بين الحكايات

النهارُ

لجمع بقايا حكايةٍ

تكسرّتْ خلسةً.([5])

تعود في هذه الصورة الكلية الأنا بوضوح، لكنها في هذه المرة تظهر من خلال الجدل (الثنائية الضدية)، وهي حركة نامية بين الارتفاع والهبوط الذي يفصل بين الواقع والبياض المتروك لفهم القارئ وإدراكه، إذ نجد ثنائيات: (الليل والنهار / طفل قديم وطفل الآن / الماضي والحاضر) تنسجم مع جو النص وجو الصورة. فالليل في الرأس يرمز إلى الهدوء، إلى التفكر، إلى التأمل… وهو يعانق ذاك الطفل الذي نما وصار شاعراً، ويحن دائماً إلى أمكنة عاش فيها، إلى بيت الطفولة فهذه التأملات الشاردة ((تساعد على الولوج عمقاً في ذاتنا إلى درجة أن تخلصنا من أعباء تاريخنا تحررنا من اسمنا، وتعيد لنا الوحدات التي نعيشها اليوم، وحداثتنا الأولى))([6]) التي تترك في بعض الأرواح دفعات لا تمحى([7])، هكذا يتحرك الخيال الذي هو منبع الصور، بذلك أضاف الشاعر صفات على معنى مجرد، هو الحظر الذي يلاحقه ويطارده، مما يجعله يجسد القلق الشعري المسيطر على ذلك الطفل، الذي يدفع الشمس الساقطة فيجردها ويجعلها ذات طابع يفقدها سمات الشمس المضيئة التي تأخذ ((الماضي في شبكة من القيم الإنسانية، في القيم الحميمة لكائن لا ينسى، حتى يظهر في القوة المزدوجة للفكر الذي يتذكر والروح التي تقتات من صدقها))([8]).

هكذا تقدم الصور نفسها عبر العناصر البانية لها، ويكوّن الشاعر بذلك لوحات تخلص الحياة، حتى إنها تنعم – بامتياز – بسهولة استدعائها في ذكريات الطفولة، ويكسب هذا الطفل الظلام، إذ تمثل الغيمة لحظة الكتابة؛ حيث هي اختمار واعتقال للفكرة قبل ولادتها، ومن ثَّم تكون في رفد الشاعر الذكرى – وهي صفة معنوية – بكل ما يحقق كيانه شيئًا ماديًا محسوسًا، فجعل الشمس تسقط وتكبلها غيمة سوداء مظلمة تبعث في ثنايا النص صورة غامضة غموض الروح التي تعانق أعماق النفس؛ ((لأن أفياء الروح وأضواءها هي التي ترسم ظلال القصيدة وصورها التي تنمو وكأنها الجوهر الذي يشغل حيزاً في الوجود))([9]).

 في هذا السياق نورد صورة كلية تجسد الأنا بشكل واضح من خلال استخدام الشاعر لضمير المتكلم؛ بذلك تكون القصيدة تخاطبية حديث الأنا للأنا، أو الذات للذات، فنقرأ:

أعرف أنكِ صمتي

أعرف أنكِ صخبي

وأنكِ يدٌ تتلقّى سقوطي

وأنكِ الماءُ

لترتوي كلماتي

أعرف أنكِ وطنٌ في سديمي

وأنكِ شارةٌ في متاهات فوضاي

وأنكِ فوضى في رتاباتي.([10])

تظهر هذه الكلية الأنا بشكل واضح من خلال استخدام ضمير المتكلم (الياء)؛ لينتقل بناء الشاعر للنص إلى ضمير المخاطب؛ ليبرهن على العلاقة بين الأنا والسوى؛ كما كان لتكرار كلمة (أنكِ) في النص دلالة على حالة القلق الشعري مما جعل القافية غير موحدة، كما جمع الشاعر في هذه الصورة الكلية بين المتناقضات في قوله:(صمتي / صخبي) الدالة على الضدية العميقة، (فالصمت) كتم الصوت، فهذه الصورة الكلية التي بُني فيها النص منحته لوناً حوارياً تتنازع فيه الذات المخاطِبة (الأنا) والذات المخاطَبة (السوى) في جدلية تنم هي الأخرى عن حالة الصراع بين الشاعر والورق الذي يدلق عليه حواسه، وكأنها مداد الروح الذي بلور فعل القصيدة، فالشاعر يثير الصورة تلو الأخرى، إذ الروح عنده مربوطة بعنفوان الجسد.

2.3- ظل الذات:

تبحث الذات الكاتبة عن ظل لها؛ لتكون فعلاً آخر منجزاً للبناء النصي، هذا ما يمكن أن يتجلى في الآتي:

كيفَ تُبْدِلُ ظلَّكَ

وهو يرتدُّ إليكَ كما هو

تنزعه عنكَ كلَّ مرةٍ

بينما تأخذُ شكلاً جديداً.

صرتَ عديدَ أشكالٍ

وظِلُّكَ واحدٌ

شاهدٌ كهلالٍ

ضَلَلْتَ

ضلالاً بعيداً.([11])

عندما يكتب عبدالمنعم المحجوب قصائده تتراءى للقارئ وكأنها قادمة من بعيد، من هناك، من أصل الإنسان، فتبدو في هذا المقطع الذي جسد صورة كلية مفعمة بأجزائها المشهدية الملتحمة، ما بين تذبذب الظل وارتداده وانتزاعه كل مرة، وبين تعدد الأشكال والظل الواحد، إذ إن الآخر يريد الإفلات من هذا الظل الذي لا مفر منه، لكونه مقيداً لا مفعماً بتعدد أشكاله ((متضمناً في الخيال، وحركة تلفته إلى البعيد وتشوقه إلى أن يقع على ما يريد غير منشطر ودون أن يقع في منطقة ضائعة، أو مكان غامض بين الكتابة والكلام، بين الواقعي والخيالي))([12]).

تتفاعل الذات الكاتبة والآخر عبر قدرة إبداعية حددت بناء النص بهذه الصورة البديعية عبر صورة الأصل التي ذكرت سابقاً، إذ إن الطبيعة المعتادة للإنسان أن له ظلاً واحداً وشكلاً واحداً، وهذا هو الأصل. أما عملية الانفتاح التي حدثت في صورة تتعدد فيها الأشكال، وتتنوع كثافة الكلمة والمعنى معاً في شعر الشاعر، فتنم عن عدم الاكتفاء بالانغلاق داخل القفص الذهبي لجمالية النص. هذا ما نقرؤه الآن:

التّلالُ،

بإغرائها،

أوضاع أخرى ذات عراقةٍ أيضاً

للصحراء نفسها

كيفما الصحراءُ بَدَتْ

تنضمُّ على عنصرها

نجمتها الغربيّةُ

الوحيدةُ سوى من أصابعنا

غزالها تقتله المعرفةُ الملكيّة.([13])

تكتب الذات الكاتبة نصها عبر بلاغة شعرية لا تحتفل بالموضوعية، لأن المسألة إلى حد ما تنساق ما بين الذات والآخر، فيمد هذا النص بجسور متحولة من (التلال بإغرائها التي صارت أوضاعاً أخرى ذات عراقة) إلى (الصحراء التي بدت تنضم على عناصرها نجمتها الغربية الوحيدة وإلى المعرفة الملكية القاتلة).

تبحر الذات الكاتبة في جو كلياني رافضة التجزئة؛ لتجمع خيوط النص الشعري، وتنسجها فيكتفي بها هذا النص، حيث حلية الصورة الكلية الدافعة لانسجامه عبر خطاب الآخر مع أذهان المتلقين جميعاً. وجملة القول: إن هذا النص بالذات تقترب صورته من صورة الوصف في القصيدة الجاهلية إلى حد ما وإن كانت بعض الألفاظ والمعاني والدلالات مختلفة، فصورة التلال والنجوم، والغزالة كلها أمور يرتكز عليها غرض وصف الرحلة عند الجاهلي مع أن الدلالات مختلة تماماً والشعر العظيم متعدد الوجوه والعناصر، ينأى باستمرار عن النثرية ومستلزماتها وأساليبها، ومن الصعوبة أن يلتقط المتلقي العنصر الباني سواء أكان صورة أم حركة أم رمزاً أم غير ذلك ((ذلك لا تكون العملية الإنتاجية للنص الشعري شعرياً قصدية))([14]).

لقد ذهب الشاعر بعيداً في بناء نصه، راسماً شكلاً للقاء بين ما كان وما يكون الآن، خطوط علائق متشابكة بين الماضي والحاضر، حيث أراد الشاعر لنصه أن ينغرس هنا في تربة الحاضر، لكن من دون أن ينبت عن تربة الأمس، من هنا جاء استحضار الطبيعة التي تربط نصه بنص سلفه الشاعر الجاهلي، بيد أنه افترق عنه بلغة أتقن بناءها لتوائم قصيدة النثر التي يرتدي حلة كتابتها؛ لتكون أدوات للكتابة التي هو منصهر فيها، سعياً لإنتاج صورة تسهم في بناء القصيدة.

3.3- توحد الذات:

وتجيئين..

لتكوني خطيئتي المرتجاة

سلامٌ – أيا ذنْبي – عليكِ

يا هوسي المؤجّل

يا فكرتي البتول البتول.

ما الذي متوحّداً كنت أصنعه

مَن أنا.([15])

تتجسد في هذا النص صورة كلية تبدأ بمخاطبة الأنثى (تجيئين) وتستمر بالنمط نفسه (لتكوني / خطيئتي / يا فكرتي)، فتبدو الصورة واضحة المعالم إلى حد ما، فالشاعر بذلك يستحضر النص القرآني ليحطم حاجز الزمن بين الماضي والحاضر فيستحضر الماضي في قلب الحاضر وحجره([16]). فذكر الخطيئة ثم الذنب ثم البتول يوحي بقصة السيدة (مريم) لتدل على العفة والطهارة، واتهام الناس لها بالخطيئة والذنب مع أنها لم تخطئ ولم تذنب، أما ذكر البتول فهذا يبعد تلك التهمة عنها فيحررها من أسر التهمة.

بيد أن إمعان النظر في النص ثانية يقدم قراءة كاشفة عن العلاقة بين الشاعر وقصيدته لحظة ولادتها، مخاض عسير من الآلام، يشرعن التهم الموجهة لهذا المولود، لكن بعد انقضاء آلام المخاض ستحتضن الأم وليدها بنحو مبالغ فيه، ذاك ما يكون بين الشاعر وقصيدته التي ستكون بتولاً بعد الفراغ من إنجازها، فيتم التوحد بينها وبين كاتبها، بهذا التوحد تتخلق الصورة الكلية لانكتاب القصيدة.

________________________________

[1]– كمال أحمد غنيم، مرجع سابق، ص: 218.

[2]– انظر: عدنان حسين قاسم. التصوير الشعري: رؤية نقدية لبلاغتنا العربية، ص: 253.

[3]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 22.

[4]– عدنان حسين قاسم. التصوير الشعري: التجربة الشعرية وأدوات رسم الصورة الشعرية، ص: 171.

[5]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 25.

[6]– غاستون باشلار. شاعرية أحلام اليقظة ترجمة: جورج سعد، ص: 86.

[7]– انظر: المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[8]– المرجع نفسه، ص: 91.

[9]– محمد عبدالرضا شياع. تجليات الذات الكاتبة في حرارة السؤال الشعري، ص: 79.

[10]– عبدالمنعم المحجوب. كلما شع النبيذ، ص: 17.

[11]– عبدالمنعم المحجوب. كتاب الوهم، ص: 23.

[12]– فاطمة عبدالله الوهيبي. الظل: أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية، ص: 266.

[13]– عبدالمنعم المحجوب. عزيف، ص: 27.

[14]– خليل الموسى. مبادلات شعرية: مفهوم التأثير أنموذجاً، ص: 51.

[15]– عبدالمنعم المحجوب. كلما شع النبيذ، ص: 45.

[16]– عدنان حسين قاسم. التجربة الشعورية وأدوات رسم الصورة الشعرية، ص: 164.

مقالات ذات علاقة

(رحيل آريس): دلالاتُ الأسطورةِ وجمالياتُ التداخلاتِ الأدبية

يونس شعبان الفنادي

النفسُ الأرسطيُّ والاغـترابُ الوجــدانيُّ

المشرف العام

جدليَّة الرَّمز في أُقصُـوصــة (ضجيج الصَّمت) للقاص: خالد خميس السحاتي

المشرف العام

اترك تعليق