من أعمال التشكيلي عادل الفورتية
قصة

حوش اليتريك

من أعمال التشكيلي عادل الفورتية

حين وقفت زينوبة أمام صنبور المياه عند الفجر.. كانت ترتعش ليس من البرد فحسب ولكن من شعور مرتقب ببرودة المياه التي ستنهمر على يديها الحمراوين والمنتفختين من شدته.

انقطع التيار الكهربائي منذ الأمس، ولم يكن لزينوبة إلا أن تستعد له. ارتدت الروب الصوف فوق فستانها القطيفة الطويل، وجوارب يصل حتى ركبتيها، عقصت شعرها إلى الخلف ولفت رأسها بوشاح، وتمددت على “المندار”، ولفت جسدها ببطانية، وانتظرت أن تسمع صوت الثلاجة وقد انبعثت فيها الحياة. لكنها سرعان ماغطت في نوم عميق، ولم يصدر عن البيت أي صوت يبعث فيه الحياة سوى صوت المنبه الذي افزعها من نومها.

منذ أن امتد غياب الكهرباء لأكثر من نصف النهار طالت ساعات نومها، فلم يعد من داع للبقاء متيقظة.. تشابهت الأيام وتحول النهار إلى ما يشبه الليل. هالها أن اليوم يرتبط ارتباطا وثيقا بالكهرباء حتى في عز النهار، وأنه يمثل الصخب والدفء والحركة وحتى الحواس ونمنمة الحياة..

ما أن يسدل المغرب ستائره حتى يوهن الضوء وتتسع الأحداق وتعتاد الظلمة و تهدأ الحركة في البيت ويخف دبيب الأقدام، ويركن كل إلى مكانه الذي فيه، إلا زينوبة تمتد على “المندار”، ترسل ذبذبات اطمئنان إلى أولادها عبر نظرتها المشجعة وهي تقول ” بناخذ غفضة لين يجي الضي”.. لكنه لا يأتي.

تتمنى زينوبة حتى أن يكون زائرا للفجر ولحين أن يرتدي أولادها ملابسهم ويعدوا حقائبهم، وتعد لهم افطارهم وخبزهم.. لكن أمنيتها لا تتحقق.

ما أن يسري في مفاصل البيت ويعيد للثلاجة أزيزها، وتتكرعه الأنابيب، وتخض له الصنابير، وينطق التلفاز، وتضيء شاشات الهواتف المحمولة، وتصل “المسجات” دفعة واحدة، وتحمى المدفأة، وترتعش “اللمبات” العارية، حتى تسري فرحة ما بين الجوانب وتخفق القلوب وكأنها قد ظفرت بلقاء الأحبة..

ولابد في كل مرة أن يصيح أحدهم “اليتريك جي..” وتسمع صوتا مبتهلا “الحمد لله”، وتبدأ الحياة من حيث عودته.

تتذكر زينوبة حين كان والدها يقود السيارة في الصباح الباكر لايصالهم إلى المدرسة، يمر من أمام مبنى رمادي في شارع النصر، يخفف من سرعة السيارة، يلتفت إلى شقيقها الأصغر، ويومئ له فيصيح “حوش اليتريك.. حوش اليتريك.. حوش اليتريك”..

تبعث هذه الجملة المكررة ثلاث في أنفسهم البهجة وكأنها مقطع غنائي.. انطفأ المقطع مع الزمن، لكنه أضاء ذاكرتها هذه الأيام، “كلمبة” حمراء خافتة تنير ذكرياتها التي تسربت نحو عتمة الذاكرة.

بعدها بعقدين انتقلت شركة الكهرباء إلى مقرها الجديد أمام “قصر الملك” يفصلهما طريق ونافورتين حديثتين تنثران الماء وتضيئان بألوان الطيف كلما حل الغروب.. تظل انواره الداخلية مشتعلة طوال الليل.. “خلي والله يشعل مش شركة الكهرباء؟” هكذا ردت زينوبة حين سألها أبنها “علاش ديما شاعل وانت تكشخي ع الضي؟”…

“نوضوا هيا نوضو… وقت”.

“جي الضي يا أمي؟”

“فرقة حاله.. غير هيا نوضوا”.

كان الفجر قد أرسل أول خيوطه الأفقية على الأفق فأضاءها، ثم سرعان ما دثر السماء بضوئه، حتى باغت العصافير فزقرقت من أمكنتها دون أن تطير.. شاهدت زينوبة خيوط الضوء تتسلل من فتحات الشباك الخشبي، وطرق سمعها محرك سيارة جارهم…

“عمكم حميدة حتى من الطلوع طلع.. هيا”

“عمي حميدة يخدم في الصيانة.. علاش ما يديرش حل”

“تي بالله.. كان في حل راهو داره لعمره.. الناس كلوله وجهه.. يطلع بكري ويروح متأخر”.

منذ أن ودعت زوجها ذات شتاء إلى مثواه في “جبانة سيدي منيدر”، أصبحت تتولى مهمة ايصال أولادها إلى مدارسهم المبعثرة في وسط المدينة، تحاول في كل مرة أن تخرج بهم باكرا قبل أن تختنق الطرقات بالسيارات ” .

وكان عندنا باصات زي الناس والله ما نسوق”.. تعيد هذه الجملة كل صباح وهي تخنق “المارشا” بيد ويزداد خناقها كلما رغبت في تحريكها وكأنها حانقة عليها، وباليد الأخرى تقبض على عجلة القيادة، تكاد بطنها أن تلامس العجلة ورأسها ممتد نحو الأمام…

“تي سوقي باهي ياحاجة”

“حطي حزام الأمان يا أمي..”

“بالله عليك خليني في حالي.. الأعمار بيد الله”.

يخيم صمت عميق في السيارة، تمر من أمام مبنى شركة الكهرباء، تعلو وجهها ابتسامة خفيفة، تحاول أن لا تظهرها وهي تتذكر”حوش اليتريك.. حوش اليتريك.. حوش اليتريك”.

*****

تتجه زينوبة بسيارتها الفارغة نحو المدرسة وتضغط على الوقود لتسرع العجلات على أسفلت الشارع المبلل بعد ليلة ماطرة.. تقتحم برك المياه التي تجاوزت الأرصفة رغم ارتفاعها بغرض منع السيارات من الوقوف عليها، تقترب من حافة الرصيف، حتى تحتك به احيانا بحثا عن أقل الأماكن انغمارا بالماء… تطاوعها السيارة وتهدر بمحركها وتستجيب لدعواتها وتخرج بسلام…

ما أن تصل مبنى المدرسة حتى تلوح لها بوادر الظلام فيها…

“صبح يافتاح”!

“أبلة زينوبة ما نشبحش في الكتيبة ع السبورة”.

تجيب زينوبة “حتى التاباشير مندي.. شن هالحالة بس”.

“بوي قال كله من الثورة”.

يعلو صوت زينوبة “شن قلنا من أول السنة.. ممنوع الكلام في السياسة”.

“يا أبلة جمدنا”!

تنظر زينوبة إلى يديها.. تشعر بالدماء وقد تيبست تحت أظافرها التي ازرقت… تنظر إلى وجوه تلاميذها، فترى البخار يخرج من أفواههم، والاصابع بالكاد تقبض على أقلامهم، وتلمح أقدامهم وهي ترتفع عن البلاط بين الحين والآخر، وتستمع إلى سعال جاف يفلت من اقفاص صدورهم أو هسيس أصوات للسعات الصقيع، وتتأمل الوجوه المصّفرة الناطقة بوخزات البرد…

“البره أدفى من داخل يا أبلة”

يرن الجرس… تتجه زينوبة إلى حجرة المدرسات وهي تتوقع أن تعج أُذناها بالشكاوى من انقطاع الكهرباء، لكن زينوبة لم تعد تسمع منذ سنوات فقد امتلأت أُذناها لحد الإفاضة.. تبحلق في الوجوه، فترى الألم.. ذاك الألم الذي لم تره في حياتها حتى حين كان زوجها يصارع المرض.. مستلقيا على سريره، وفي يده آلة تحكم التلفاز، ينتقل من محطة إلى أخرى، يضيء مصباحه إلى جانبه ويقرأ، بل يلعب “الكارطة” على شاشة هاتفه.. والثلاجة الصغيرة تأز إلى جواره.

وحين مات في ذلك الشتاء.. اقتربت منه زينوبة وامسكت بيده فوجدتها دافئة. اليوم كل الأحياء من حولها يرتعدون من شدة البرد…

“قالوا غريان ويفرن والبيضا ثلج.. ما بعدهم”

“إمالا التاورغية في المخيمات…”

لم تعد تسمع لكنها باتت تتخيل.. صنابير المياه التي تُخرج جليدا معلقا في الهواء.. والسحنات السمراء التي ماعادت تتدثر إلا بالبرد الذي تكثف على أجسادهم في طبقة بيضاء من “الوشن”، وأعاق الأفواه عن الكلام، وورّم الأصابع التي تحولت إلى ما يشبه المخالب، وأغار الأعين التي لا تنام من قسوته.. والعائلة التي فاضت أرواحها التسعة بسبب “زنزانة الكانون”…

“عام الجميد ياهوه”.

خرجت زينوبة مسرعة.. وحين فتحت باب سيارتها سرى في أُذنها أنين صديده، أغلقته أكثر من مرة بسبب انزلاق معطفها من بين ثنايا الباب، جذبته نحوها وأحكمت اغلاقه، واقتربت من مقودها وانطلقت إلى رحلة العودة.. وحين وصلت إلى طريق “السكة” واقتربت من مبنى أنيق بواجهة زجاجية، تقف أمامه مدرعة ويصطف حوله مسلحون، وتزينه الصواري ذات الأعلام التي ترتعد بردا كفرائصها، فتحت زجاج سيارتها الذي لا يهبط إلا قليلا.. وبصقت فلطخت الزجاج.. وصرخت بأعلى صوتها “حوش اليتريك..لعنة الله عليكم… وطيح مزالكم.. وينه”.. ولم يسمعها أحد.

مقالات ذات علاقة

سردية الحال

كريمة الفاسي

الطبيب الايطالي

محمد العريشية

لعنة الطريق السريع

رحاب شنيب

اترك تعليق