قصة

الإمــكـان

والمساء الخريفي المكابر يصغي باستكانة واستسلام لوقع دبيب الليل الزاحف برعونة وإصرار داهمت جحافل النعاس وجه الحارس الليلي وهو رابض السكون:

.. مراقبا بعينيه الحذرتين المتحفزتين الشاطئ الطويل.

متوجساً من العتمة وهي تمتد وتمتد في تؤدة وتمهل حتى تكاد أن تغمر البحر.

متوغلة صوب الأفق البعيد.

مرتمية بجسمها الثقيل على أطراف الشاطئ بانحناءاته الكالحة وعلى مراسي القوارب الشاحبة المقرورة:

داهمته بعنف حتى ارتخت ملامح وجهه وانهارت أجفانه وغاب البريق المشع في عينيه ثم ما لبت أن احتضنته بقوة صاعقة واستقلت معه على فراش واحد وغابا معا في عناق حميم..

من بقعة ما على الشاطئ .

وبحذر بالغ انطلق السهم الخشبي كشبح يشق العباب في نزق وخفة إلى اتجاه مجهول:

هدأت الريح .

توارت عن البحر زرقته.

تلفع بالظلام.

تدحرج الموج برتابة.

تراخت مفاصلة.

ولوهلة

تلاش الزبد.

وذاب الموج على السطح.

ثم غاص في الأعماق.

هناك ..

على مدي الأفق الممتد / بعيداً/ عميقا /مبهماً /غامضاً.

في نفقة تضمحل فيها الرؤية – وتغيب عنها الأضواء المتلألئة البعيدة- على أطراف المباني العالية – المنتشرة على امتداد الشاطئ البعيد.

في خط الالتحام بين زرقتي  الماء والسماء. في انزلاقه عريضة صنعتنها موجتان – كبيرتان – متنافرتان.

برز القارب الخشبي وذؤابات الرؤوس الآدمية . تتماوج على أطرافه في حركة بدت منسجمة مع إيقاع البحر الصاخب وبخفة لولبية مجربة التصق القارب الخشبي بالجدار المرتفع الداكن وتهالك على  أطرافه / متعبا/ مرهقاً/ من رحلة بدت أبدية وشديدة الوطأة..

في عنفوان اصطدام الموج، واشتداد عويل الريح.

في غمرة الصخب والضجيج- انطلقت إشارات الضوء الشاحب، من القارب الخشبي وتكررت بإصرار وسط الزوبعة والرذاذ المتطاير إلى مسافات بعيدة ولبرهة بدت النداءات العالي والصيحات الغامضة تزاحم الضوء  الشاحب المنبعث من القارب الخشبي إصراره الدؤوب.

في لحظة مبهمة.

انزلقت بعض الأشباح الآدمية  في هدوء وخفة من الجدار المرتفع الداكن.

أخذت تلامس أطراف القارب وترتفع مرة أخرى حتى نهاية الجدار وتظهر من جديد، لتلامس أطراف القارب وترتفع حتى نهاية الجدار.

في حين بدأت الحركة داخل القارب الخشبي شديدة الحماسة/ سريعة متوترة/ حذرة- وأخذت الرؤوس الآدمية تنحني وترتفع تختفي وعندما تسلقت الأشباح الآدمية الجدار لأخر مرة بدأت الحركة داخل القارب الخشبي تخف على مهل حتى خفتت تماماً – وابتدأ القارب في الابتعاد رويدا.

رويدا متوغلا في الظلام وكأنه يريد مصارعة الموج بمفرده مره أخري بعد أن أخذ قسطا من الراحة فيما اقتربت الرؤوس الآدمية من بعضها حتى كادت أن تلتصق والقارب يبتعد

يبتعد ويواصل توغله الظلام

ومن فوق قمم الموج المتلاطم بدت الأضواء المتلألئة المنتشرة على سطح السفينة الكبيرة وكأنها الأضواء المتلألئة البعيدة  على أطراف المباني العالية المنتشرة على امتداد الشاطئ البعيد.

استيقظ الحارس الليلي

استيقظ- فرك عينيه بحيرة.

/ هاجس الخوف

/ قتامة الإحساس بالهون

/ كابوس الهلع.

/ التوجس / الانطفاء/ الحذر

لملم أطرافه الرخوة- تحسس جسمه المنهك/ المكدود – جذب أطرافه / الباردة- تتدلى بثقل.

تطلع إلى مكان اليف- انتابه القلق- تأمله جيدا- تأمل تفصيله .

المساحة الترابية المبللة، المحيطة به – تأملها بتركيز

وكأنه يسورها بسياج حديدي – خطا إلى الأمام – مبلحقا- متأملا- خطى بتعثر- توقف لبرهة- توقف بانقباض- تطلع من جديد- تطلع بإعياء – تطلع بانكسار – تسمرت حدقتاه على الفراغ الموحش أمامه  – اعتراه الوجوم- شعر  بالانكفاء- غمره الإحساس بالوهن  تسربت موجات  الخدر – بدأت تسري في أوصاله ببطء- تسمر – منهاراً، كشجرة ذابلة – في مساء خريفي عاصف- حاول أن يتماسك- تطلع بإرهاق- تطلع…

في المرسى القريب من نقطة الحراسة.

في مربض القارب الخشبي المألوف.

بدا المكان- أخذوا مغمورا بالمياه- متواصلا مع طرف الشاطئ وفي الجوار- بدت الألواح الخشبية- مبعثرة على الثرى – مبتلة- متشققة- مكسوة بشرائط من الأعشاب الداكنة – اللزجة.

عبر لحظة شجن حارقة- انزلقت بعيدا في الأعماق- غالب كي لا تطفو – لا حظ أنه يقف عاريا، إلا من حزام جلدي، ملتفا على وسطه بإهمال – تتدلى منه قطعة المعدن الثقيلة/ الباردة- كتلك الأشجار اليابسة، التي سقطت عنها أوراقها ، وهي تقف في صف طويل – منتظم- على جانبي الشارع الطويل، الملاصق للبحر.

عندما أخذ في الابتعاد عن المكان – تحسست عيناه المنطفئتين، بألم حاد كوخز الإبر- شعاع الضوء المنبعث من الأفق البعيد- فيما ارتفعت بعض النوارس- محلقة- فوق المراسي الصغيرة- وعلى صفحة الماء.

وللحظة.

استقضت الريح- بهدوء ودعة.

عادت إلى البحر زرقته.

طفا الموج على السطح..

.. وشرع يرقص رقصته الأبدية.

مقالات ذات علاقة

سرُّ الجَدّة

عائشة الأصفر

كذبة فبراير

المشرف العام

ونيس…

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق