المقالة

انطوائي

حسن المغربي

مدير تحرير مجلة رؤى الليبية

أنا رجل انطوائي لا أملك خبرة كافية في الحياة ، ولا أرغب في معرفة عما يدور خارج الذات ، أجهل أشياء كثيرة يعلمها الناس بالكسب والفطرة ، كل ما أملكه في بيتي مجرد كتب قديمة ، يشكل جزءا كبيرا منها روايات ومعاجم لغوية ، في وقت الفراغ أكتب الشعر الحر ، لأني أجهل علم العروض ولا أعرف عدد البحور الشعرية ، وأحيانا أرسم لوحة مجهولة المعالم على نمط لوحات ( كاندنسكي ) ، مجرد ألوان وخطوط ودوائر تجريدية لا معنى لها ، لا تهمني الفكرة أثناء العمل الفني أو احترام وظيفة الفن ، ما يهمني بالدرجة الأولى هو فعل الرسم ، كل يوم أشعر بولادة جديدة ، وإضافة جديدة ، واسم جديد . أستطيع إزالة كل الترسبات العالقة في الذاكرة ، وإلغاء الكلمة التي لا تفيد شيئا في قاموسي اللغوي ، وهذه مزية أزعم بأن لها أهمية قصوى في الأحكام القبيحة والجميلة معا ، ليس من الممكن مسخ الذات وإرسالها إلى الماضي ، فالإنسان بوصفه حيوانا مفكرا يستطيع فعل أي شيء داخل عالمه الخاص ، هذا أقل تعريف للحرية ، وما هو جدير بالاحترام ليست الأقوال المأثورة والقيم المكررة ، بل الأفعال ، فعل أي شيء ، زرع وردة ، بناء حائط ، إصلاح مدفع قديم ، لا يمكن فهم الحياة خارج الحركة الأولى ( في البدء كانت الكلمة) . كلنا نطمح في الكمال ، ونأمل في المجد والخلود ، على الرغم من أننا على يقين بفشل المحاولة . القاعدة ، المبدأ ، والثيمة الرئيسة ، كلمات أمقتها بشدة ، وأرفض أن يكون محور كلامي حولها، لا لشيء سوى أنها تلغي العقل ، وتشل التفكير ، وتجعل المرء ينظر إلى الأشياء بنفس النظرة التي ينظر بها من يلفق الأكاذيب ويؤمن بصحتها ، وكذلك الكتابة ، فهي عدو الفعل والتفكير والذاكرة ، الكتابة تلغي الكلام الذي يمتاز بالحضور ، الكتابة غياب ، نعم ! إن الكتابة تمارس خطرا على الذاكرة كما يقول افلاطون .

كيف نفكر بهذه الكيفية المخجلة في زمن أصبحت فيه الكرة الأرضية مثل كرة التنس ، أليست العقول هي من تصنع المجد ؟ لو كان لي معرفة دقيقة بعلم الهيئة لاخترعت نظرية تثبت بأننا دوائر ومثلثات ، مجرد أشكال تشغل حيزا من الفراغ ، التأكيد على وجود قيم ثابتة صالحة لكل الأوقات ، فكرة تافهة ، هراء ، خدعة تعلمها الناس منذ الطفولة ، القضايا الإنسانية ، قضايا نسبية كالحق والجمال والعدالة ، يجب العمل على تقويض التصورات الكلية من خلال الفعل ، فعل الكلام ، لأن الكلام يحمل طابع الحيوية الذي تتصف به النفس ، أما الكتابة فهي محاكاة ميتة للفعل الكلامي ، يجب الإعلاء من شأن الأفعال على حساب القيم المضللة ، فالبناء ، والحركة ، والكلام ، جميعها أفعال تمتاز بخاصية المباشرة والحضور ، وأنا مع رأي (روسو ) ” أفضل الحضور المباشر على التأمل ” ..

التفكير مثل الكلام فعل أيضا ، وهذا نقيض للمعنى الدارج له ، وانطلاقا من عبارة ديكارت ( أنا أفكر إذا أنا موجود ) فإن حياتنا لا تمثل شيئا ذا بال حينما نغطي عقولنا بالشمع . اعرف جيدا ماذا تعمل ، وستفعل كثيرا ، حاول التدرب على السباحة ، تعلم الشطرنج ، لعب الورق ، مارس أي رياضة ، فكرية أو بدنية لا يهم ، وسأضمن لك النجاح ، أما أنا فكما ذكرت آنفا رجل انطوائي لا يملك سوى مجموعة كتب ، وقلم رصاص ، وأهم شيء ممتع أفعله كل يوم القراءة والتفكير ، وكل ما أتمنى هو أن تنتهي حياتي عندما تنتهي قدرتي على فعل القراءة و التفكير .

 

مقالات ذات علاقة

“دار الفقيـــه حسـن” شعــــاع نــــور يحمـل الأمــل

سالم أبوظهير

النساء قادمات وقادرات

مفيدة محمد جبران

فضيلةُ الإزعاج

سعاد سالم

اترك تعليق