الكاتب أمين مازن
المقالة

بورتريه أمين مازن

في تلك الأشعار الرائعة
سخرت من الشمس ومن القمر
سخرت من البحر ومن الصخور
لكن الأشد حمقا
كان أن سخرت من الموت
ربما طفولة؟ – قلة ذوق
لكنني سخرت من الموت.
اشتهرت في الإقليم كله
بمبالغاتي الطفولية
أنا الذي كنت عجوزا محترما
تظاهرت بأن أفكاري واضحة
عبرت عن نفسي بثقة كبيرة
لكن الموقف كان صعبا.

الكاتب أمين مازن
الكاتب أمين مازن

• السيد والأستاذ أمين مازن

تحية طيبة وبعد.

دعني أكتب إليك رسالة خاصة كنت قد بدأتها منذ التقيت بك شخصيا في مطلع السبعينات أي منذ ما يزيد عن الربع قرن الأخير من القرن العجول المغادرة… وأسمح لي أن أبدأ هذه الرسالة بالمثل المكسيكي الذي يقول: إن من لا تحبه الآلهة تجعله واحدا منها. وإني أعتقد أن الآلهة لا تحبك لهذا فأنت واحد منا، وكنت منذ أربعين عاما ويزيد – كواحد من جيل 57 الذين وضعوا لبنة الخمسين الأخيرة الأهم في الثقافة الوطنية الليبية التي منها وعليها بحثت في وجودها وسؤالها في الثقافة العربية ومن ثم الإنسانية، وكان ذلك منذ صدور “أحلام وثورة” ديوان على صدقي عبد القادر وحنين على الرقيعى الظامئ بداية الشعر الجديد الذي احتفيت به وعشت معه وكتبت عنه، ومع بداية القصة الليبية القصيرة، نفوس عبد القادر بوهروس الحائرة، وكتاب المرأة الليبية “القصص القومي” لـ “زعيمة الباروني”، والبحث عن معنى الكيان في الفكر الليبي وحواريات عبدالله القويرى والمفاهيم النقدية الجديدة في نظرية النقد عند خليفة التليسى ومفكرة حساسيات ومستقبليات رجل لم يولد يوسف القويرى الإبداعية، ثم التمرد النيهومى – صادق النيهوم – في الأسلوب والمعنى.

وقد كنت أنت أمين مازن الكاتب الفاعل في كل ذلك ومن أجل ذلك تقول وتفعل ما يعنى أنه علينا أن نخترع أنفسنا، أي أن نقبض على حرية أن نكون خلاقين كل بلغته، فخورين أشد الفخر باختلافاتنا وبما نشترك به سواء بسواء كما يقول كاتب جنوب أفريقيا برايتن باخ، وأشدد على القول باختلافاتنا وبما نشترك به سواء بسواء. وأنني لا أذكر -أيضا- على مستوى السيرة الذاتية بيننا، التقيت بك منذ أكثر من عشرين عاما -كما أشرت -، وكنت أنت قبل ذلك بعقدين من الزمن قد وضعت وأسست مع زملائك – جيل 57 – رؤية جديدة في الثقافة والإبداع ما جعل ذلك اللقاء بيني وبينك، وأنا أحبو في دنيا الثقافة، أهلا وسهلا.

لقد التقيت بك آنذاك وكنت أعتقد في ثقافة شابة حملت فيما بعد اصطلاحا جديدا هو: الحداثة التي كانت تعنى مما تعنى أنه ومرة ثانية علينا أن نخترع أنفسنا وأن نقبض على حرية أن نكون خلاقين، وفى هذا كنت لا تستجيب لهذه الأصوات الجديدة وحسب -بل كنت تقدم نفسك الجسر ومنارة الطريق الذي كان منذ البدء الطريق الصعب، والذي لم تقف فيه لتلعب دور الأستاذ أو العارف فقد كنت كعادتك دائما تدرك أنه: على المرء إذا كان غنيا بالذهب أو المعرفة أن يراعى فقر الآخرين. وقد كانت مهنتك أن تمقت الادعاء والدجل لهذا عملت على أن يكون اتفاقنا الأساس على قبول اختلافنا؛ أي على التميز والإبداع وأنت تحتفي بالجديد فينا في الكتابات الشابة الواعدة والمتحفزة، الرافضة والمستريبة والتي تحمل معها أجمل ما في الحياة أوهامها.

وهنا لابد من أن أذكر بأنك أول من احتفى على مستوى الكتابة بتلك الكتابة الشابة أو الحداثية منذ أكثر من عقدين، مذكرا بمقالك عن كتاب القصة الجديدة – كذا مقالة الكاتب المبدع حسين مخلوف – الذي نشر في ملف جريدة “الفجر الجديد” – وكان رئيس التحرير آنذاك عبد الرحمن شلقم الذي له دور هام في تاريخ الصحافة الثقافية الليبية فترة السبعينات – وقد نشر الملف في مارس 1977م، ومن أسماء ملف القصة ذاك وملف الشعر قبله؛ البارزة الآن: محمد الفقيه صالح، عاشور الطويبى، عمر الككلى، فتحي نصيب، فاطمة محمود، فوزية شلابى، محمد الزنتانى، على عبد اللطيف احميدة، جمعة بوكليب، إدريس ابن الطيب، عبد السلام شهاب، محمد المسلاتى،….. غير أن هذا الاحتفاء وهذه الكتابة لم تتوقف عند ذلك فقد واصلت نفسها عقب 3 مارس 1988م بعد تجربة السجن، وتمثل ذلك الاحتفاء في الاهتمام الذي أوليتنا به وبكتابتنا التي خرجت خروج آل الكهف، غير أننا جددنا في ذلك أدواتنا التي صقلتها التجربة/المحنة التي كنت خير صديق عارف بها ودافعا للحيوي فيها ليكون كل عصفور طليق طار، يكتب في الفضاء مربعات وانحناءات جميلة أو هكذا كنت تقول، ومن ذا لم تعد الأناشيد أو الأغاني الداخلية يمكن أن تكون مجرد وقفات غنائية ساكنة بل أصبحت تؤدى دورا في معمار الثقافة في بلادنا وفى الثقافة العربية عموما.

• أيها السيد المحترم والأستاذ الجليل

مرة ثانية اسمح لي في هذا المقام أن أستعير قولة الكاتب الإنساني غوته: انه كلما اشتد الضوء اشتدت الظلال، فتبين الخيط الأسود من الأبيض وتدرجات ما بينهما، وإذا كان ذلك كذلك كما يقول المناطقة فإنه الآن قد اشتدت الظلال لهذا لا ننتظر لكي نلتقي بموضوعنا بل نسعى لملاقاته سعيا، وموضوعنا ليس أن نكرم فيك الثقافة الوطنية وحسب بل وأن نجدد أسئلتك في هذه الثقافة التي تشكلت من السؤال الذي عانيته وعنيته كمشكل، كـالوعي الشقي، وعى لمعنى الكيان وبحث في المعنى، ولهذا كان يوسف القويرى يقول – منذ ذاك أي منذ بدء جيل 57، جيل الحداثة الليبية، جيلك وجيله -: إن ثقافتنا الوطنية لا تزال قريبة من النبع، لازالت تشق مجراها الطويل، وهى لم تصل بعد إلى المصب، لم تصبح تيارا واضح الاتجاه، ولازالت ضعيفة الارتباط بالمجتمع إلى حد مؤلم و انه من الممكن أن نقرن الأزمة بالوضع الثقافي في الجزائر، لأن الاستعمار الفرنسي الذي استمر في ذلك القطر الشقيق أجيال استطاع أن يفرض لغته – ص 136 الكلمات التي تقاتل – الطبعة الثانية – الشركة العامة للنشر- طرابلس.

فهل حقا لازالت هذه الثقافة في النبع؟ وهل حقا أنها لأنها كذلك لا تعاني من أزمة؟ وهل أن (مسارب) سيرتكم الذاتية سيرة هذا السؤال؟.

لقد بدأ لي أن هذا هو السؤال فلا يمكن للمرء أن يكون ابنا لقرية ويكون كزموبولتي هكذا دون أن يقرصه حامض هذه القرية، ليس لأنه يريد هذا أو ذاك ولكن المرء مسكونا بعفاريت قريته ومعجونا بطينها وموجوعا بتضاريسها الضيقة، وحينما يحلق تشده أزقتها. وليس ثمة معاناة لهذه الحقيقة الصفيقة كما في وقدات عبد الله القويرى الذي ولد ومات غريبا بالمعنى المادي للغربة، ولعله لهذا وليس غيره كتب صادق النيهوم يقول: وإذا كان الألمان يقولون إنه ليس من حسن الطالع أن يظل المرء شاعر القرية؛ فأنا أعتقد أنه ليس من حسن الطالع أن تظل القرية دائما مجرد قرية.

فالمبدع الليبي محاصر، ومحاصر مرتين مرة في أنه من بلد صغير يعانى ما يعانيه كل الصغار، ومرة أنه في بلد ضيق يضيق بمبدعيه مما جعل هذا المبدع على هامش الثقافة العربية فهو مغيب عن فاعلية هذه الثقافة رغم فاعليته حيث أن: الشعوب الصغيرة ليس لديها الحس بالاسترخاء الناجم عن قوة الوجود، في الماضي والمستقبل، إن لديها كل عناصر الحضارة، في نقطة ما عبر تاريخها، لقد مرت عبر حجرات انتظار الموت، مواجهة دوما بالتجاهل من قبل الدول الكبرى المتغطرسة، وهى ترى وجودها مهددا بشكل دائم، أو محلا للتساؤل، لأن وجودها ذاته هو مجرد تساؤل. – ميلان كونديرا -الطفل المنبوذ-ط أ، 1998م.

من هذا عنى المبدع في مثل هذا البلد بالسؤال باعتباره معنى وجود، هذا الوجود الذي يكمن دائما في المستقبل الذي هو شاهد على غائب، شاهد من حيث أن معنى الوجود مشروعا وليس منجزا، وبالتالي فسيرة مثل هذه الشعوب الصغيرة سيرة لـ ..الوعي الشقي، سيرة المتغير وجغرافيا هذه السيرة كالصحراء مسارب تمحو مسارب، ومن ذا فلوحات تاسيلى موجودة بالقوة لا بالفعل وكذا روايات الكوني، وبحث نجيب الحصادى المضنى في فلسفة العلم الذي هو جامع الصادق النيهوم، وهو جامع بدون حدود، كما هي هوية محمد المفتي التي هي أسطورة، وصناعة محلية في قصص عمر الككلى التي لا هامش لها، وخوف مكلوم من مجهول في قصص يوسف الشريف، لذا فسيرة مثل هذا البلد سيرة وجود لا سيرة ذاتية، فالذات ملمح والوجود بحث، وفى هذا وبه تكون كل سيرة ذاتية سيرة بحث وكأنها سيرة للموضوع لا للذات.

لقد عنيتم بكتابة سيرة ذاتية ومن خلال اطلاعي عليها منجزة / مخطوطة بدأ لي أن هذه العناية بتضاريس ذاكرة المكان، وتعين ذلك في نمنمة هونية هي أول كتابة تعتني ببلدة ليبية إن لم أقل بالجنوب الليبي، ومسارب الصحراء وأبواب المدينة التي غطاءها تراب هذه الصحارى، وأنها في ذلك تشترك – وهى تنزع لخصوصيتها ولجنس الرواية – وسيرة مفكرنا عبدالله القويرى وقدات في أنها سيرة صيرورة، الصيرورة الباحثة عن الوطن – وطنها، وأنها تتفارق مع الوقدات في أنها مسارب لتفاصيل ما صنعت وصنعتم جيل 57 حيث كانت – وأظن لازالت – المهمة المنوطة بكم أنه علينا أن نخترع أنفسنا.

فإذا كان المثقفون المصريون يعانون -مثلا -من هيمنة المؤسسات فإن المثقفين والمبدعين في بلادنا يعانون من غياب هذه المؤسسات. لهذا كان الفرد منكم يقوم بدور المؤسسة فهو الفرد المؤسسة والتي تجلى في العناية -التي أبديتموها وأعطيتموها كل العمر وأجمل ما فيه-بالعمل الثقافي وبالإبداع؛ مهتمين بالمبدعين الاهتمام الشخصي والحميم بنشر أعمالهم، بالكتابة عنهم، وبمتابعة همومهم الخاصة وتذليل ما بالإمكان، وأن هذا الدور أعطاكم أيضا ما أحرزتموه من مكانة وإمكانية فكانت مسا ربكم مسارب لغيركم وغيركم مسارب لكم!

وكان هذا الأمر يخص -هنا والآن -المستقبل الذي يكمن فيه التقليد الوحيد لهذا البلد -بلادنا، هذا البلد الذي أنشئ من أجل المستقبل، فكان المستقبل نصب عين أهله والذي قد يكون المعنى الذي بحث عنه عبد الله القويرى في معنى الكيان وفى مجمل إبداعه / حياته.

وعنت هذه المهمة مما عنته أن نتسلح بأدوات العصر من أجل هذا المستقبل الذي هو هويتنا، فرغم كل الهذر وهدر الطاقات وتفخيم الذات كانت هذه المهمة حاجة شديدة وملحة علينا ووقفة المستقبل التي هي بالضرورة استشرافية؛ نافذة تخلصنا دائما من هوس الهوية وأوهامها لأنها تعنى أننا نصنع أنفسنا.

وإذا كان اكتافيو باث الشاعر المكسيكي شاعر التعويذة الطاردة لأشباح الماضي، والرغبة في رؤية جذور المكسيك بوضوح، الشاعر الإنساني يقول: إن الدفاع عن الشعر، المحتقر في هذا القرن، يرتبط ارتباطا وثيقا بالدفاع عن الحرية، فإن الشعر والمستقبل صنوان. وكانت ولازالت مهمتكم الدفاع عن الشعر، وكانت ولازالت الحرية اللازمة.

وفي النهاية: لقد أجيز له الوجود في دنيا البوهيميين، أقول “أجيز”. إذا لم تنجح الأسرة في أن تبيد أبنها غير المحبوب، فإنها تذله بالغفران الأبوي. على أنه داخل أسرته الوطنية كان هناك، على أي حال، هؤلاء الذين أحبوه… لهذا وبهذا فإن هذه السيرة الذاتية سيرة المستقبل الذي نصنعه معا والذي به نصنع أنفسنا.

________________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

 

مقالات ذات علاقة

فقدان

يوسف الشريف

توّهمهُ مرضُه

نورالدين خليفة النمر

قرنٌ من حربٍ كبرى لم تنتهِ بعد!

أحمد الفيتوري

اترك تعليق