قصة

الجــمل الفـــضي

 

(1)

…. فأخذ الراوي يتمتم لنفسه وكأنه قد نسي ما كنا فيه… كان يردد وهو مطرق برأسه:

– كل ظلام يبتلعني ظلي.. كل صباح أفاجأ بنفسي ثم رفع رأسه وقال:

– ما دمتم تريدون قصة قاصرة أي قصة صغيرة فلا مفر إذا من الجمل الفضي:

(2)

قيل الشروق بدأت الشمس في إضفاء لون فاتح على السماء في اتجاه الشمال الشرقي تقريباً.. أخذ تدريجياً في الميل نحو الاصفرار… وكان الوادي يصنع في ذلك الاتجاه بضفتيه العاليتين انفراجاً يبرز البحر من خلاله ملتحماَ بالسماء… بمرور الوقت وبالاقتراب من موعد شروق الشمس يتضح الحد الفاصل بين السماء والبحر.. كانت العصافير قد استيقظت قبل هذا وقد أصدرت في البداية زقزقة على هيئة أصوات خشنة قصيرة متباعدة ثم تداخلت وتسارعت وخفت خشونتها.. وببزوغ الشمس خفت الزقزقة تدريجياً ولم يعد يسمع منها سوى زقزقة القبرات بوقعها الخاص والتي يتفاءل بها الناس ويرددون حين سماعها: (خير يا طوير)… متوقعين حدثاً سعيداً.

الندى الذي استيقظ أيضاً بفعل الشمس تحول إلى ضباب خفيف أخذ في الصعود عبر الوادي ثم شيئاً فشيئاً تلاشى… والأشجار البعيدة التي كانت علامات سوداء اتشحت رويداً رويداً باللون الأخضر القاتم ثم تحولت إلى الأزرق ثم بارتفاع الشمس اندمجت في الأفق.. والحدث الفريد السعيد لم يظهر بعد.

(3)

في الشمال تتخذ الجبال المكسوة بالغابات مظهراً مهيباً. تبرز خلال الأحراش بقع صغيرة من الأرض الصخرية والفراغات الترابية الحمر والبرتقالية… منها ماله شكل حيواني أو إنساني.. من هذه الجهة يتوقع ظهوره.. فالأشجار كانت تهتز بفعل النسائم وكان اتجاهها يوحي بأنها قادمة من الشمال أو الشمال الغربي..

أما في الغرب والجنوب فقد كان الغطاء النباتي أشد شفافية وكانت الأرض أشد ميلاً للانبساط.. تبرز بعيداً بعض القمم الصغيرة وكان الأفق يبدو كطبقات متباينة الكثافة من الدخان الساكن.. أما الأمر السعيد الطريف الذي تتنبأ به القبرات فلم يحدث بعد.

(4)

بارتفاع الشمس ارتفعت درجة الحرارة وحق للجداجد (أي البوزنين) أن تغني… وياله من غناء… يبدأ بصري متقطع كعملية تسخين ثم يتواصل.. صرير مزعج متصل يشبه أصوات المضخات الصغيرة التي يستخدمها سكان المدن العطشى لرفع المياه إلى الطوابق العليا من العمارات.

(5)

في الظهر لم يتغير شيء سوى درجة زرقة السماء في جهاتها الأربع أو لون الدخان الذي يجلل الأفق… ربما مما يعد من التغيرات الملحوظة تقلص الظلال وازدياد نشاط بعض الحشرات مثل النحل والنمل… أما الجدجد فمازال منهمكاً في غنائه.. سيأتي في الشتاء إلى النملة متوسلاً كما تقول الحكاية الشعبية وستسأله عما كان يفعله في الصيف… فصل الحصاد وسوف يلقى برده التبريري:

(أيام الحصايد خذني القصايد)… لقد كان أيام الحصاد مشغولاً بالغناء… وهذا الرد سوف يشير سخرية النملة… لكنه يكفيه أنه تمتع فصلاً كاملاً بالغناء على طريقته.

(6)

بعد الظهر لا تغير يذكر سوى تبادل الشرق والغرب درجة الزرقة في لون السماء والأفق وازدياد صرير الجداجد المزعج ونمو الظلال نحو الشرق.. والحدث الهام الذي لا يتكرر مازال يتمنع عن الحضور بالرغم من أن المكان برتابته المعتادة مهيأ تماماً لاستقباله فالشمس ساطعة والسماء صافية والآفاق باقية والنسمات الشمالية مازالت تداعب الأشجار والأعشاب المصفرة.

(7)

بعيد العصر كان المشهد يحتفل بظهوره بعنقه الأبيض الجميل ورأسه الخالي من الآذان والعيون وسنامه ذي الوبر الأبيض المنقوش قوائمه الست… يعبر الأفق الشمالي من أقصى الغرب إلى الشرق.. كان ظهوره حدثاً رائعاً لا يتكرر أبداً جعل المشهد كله باستثناء الشمس يتحرك وكأن الأرض تدور في الاتجاه المضاد… إنه جمل فضي اصطبغت حواف جسمه التي في اتجاه الشمس بصفرة خفيفة أما تلك الحواف التي في الاتجاه المقابل فقد اكتسبت لوناً يميل إلى الرمادي…

وقبل أن يتوسط الأفق انفصلت إحدى قوائمه وأخذت تنزلق بمحاذاته ثم انفصلت أربع قوائم أخرى وسقطت بمسار مائل ببطء خلف الأفق حتى توارت تماماً.. لقد شوه الفنان لوحته… فالريح فنانة حمقاء لا تدري ما تفعل… وبرغم ذلك واصل سيره.. وقبل أن يصل الانفراج الذي بنهاية الوادي استطالت رقبته فتحول إلى ما يشبه زرافة بسنام ثم تحول إلى ما يشبه القارب الشراعي وهو يعبر الانفراج الذي يبرز البحر من خلاله…

ذلك هو الجمل الفضي الذي ظهر مرة في الدهر بتحولاته التي لا تتكرر مع أن عوامل تكونه مكررة فدرجة التبخر ودرجة الحرارة واتجاه الرياح عوامل محدودة الاختيارات فكأنه بذلك الفرادة التي تولد من التكرار…

وبينما كان القارب الشراعي الذي اكتسب تدريجياً لوناً أكثر رمادية يغرق خلف ضفة الوادي الشرقية كأنما ليستقر على سطح البحر غير المرئي أو ليغوص فيه كانت الشمس تغوص في لجة الدخان الأصفر في الأفق الغربي…

بعد اختفاء البطلين: الفريد والمتكرر اكتسحت الظلال كل الجهات تدريجياً وألبستها درجة واحدة من القتامة أما القبة السماوية الأقل قتامة والمرصعة بالنجوم فقد اتخذت حافتها شكل الأفق.

(8)

حينما وصل الراوي هذا الحد سكت لبرهة متطلعاً في وجوهنا.. ولاحظ أن بعضنا كان يتطلع إلى الساعة وخمن ما تعني الحركة فشرع في إثارة الموضوع من جديد.. ووجدنا أنفسنا ونحن نخوض فيه كأنما بدأنا لتونا.

مقالات ذات علاقة

كيس الأدلة..

محمد مفتاح الزروق

الــمــســده

فهيمة الشريف

دموع من قريتنا..

ناجي الحربي

اترك تعليق