قصة

مـلامـح مـأسـاة

– امقت الليل وأخشاه .. فهو يغرقني برغمي في الوحشة , ويدهسني بالوحدة وربما البكاء .. أخافه , قرين الموت وربيبه ..!

نطق بهذه الكلمات , وأخذني بين  ذراعيه بقوة أكثر, وهو يبكي لم استطع كبح جماح دموعي , فاتهمت على خدي معلنة حقيقة الإحساس الموءودة تحت كثبان المكابرة والتعالي والعنطزة , التي اكتسبها الإنسان في حياته وركضه اليومي البائس وراء الرغيف واللذة وربما الخطيئة أيضاً .. !

لم أره من قبل يبكي , بل لم أره بهذا الضعف مطلقاً .. رغم التصاقي به في الضراء ومشاركته فيها ..!

اذكر لقاءنا الأول .. اقصد تعاطفنا وتعايشنا ..!

يومها .. كنت سجين انتظار بأحد المطارات الداخلية .. الوقت شتاء والبرد ينشر سطوته وسلطانه في خلايا جسدي والمطر يغسل كل شيء في الخارج .. وحيداً كنت انتظر , مرت ساعة ولم يأت احد .. كل شيء في حالة سكون .. إلا أنا .. وتسليتي الوحيدة مراقبة موظف نائم في حالة قلق .. لا يكاد يغفو حتى ينتفض مع أول اهتزازة للكرسي تحته .. اشعر بمأساته وهو يحاول أن يختلس لحظات للراحة دون أن يقف أو يقطع ركضه الحياتي الذي يمارسه منذ البدء ..!

–                     حياتنا مسافة صغيرة .. تساوي سمك شجرة , نصفها للسرير ونصفها الآخر للتابوت ..!

وما بين السرير والتابوت يحدث الكثير لنا .. ونفعل الكثير .. نخادع .. نطأطئ .. ندوس الكثيرين ويدوسنا الكثيرين , ننسلخ بإرادتنا عن حقيقة الإنسان الذي يقطننا وكناه يوماً ..!

–                     لست ادري ما الذي يجرجرني إلي مثل هذه المواضيع والأفكار الغريبة والموجعة .. الآن ..!

عله الضعف أو صدق لحظة خوف أو ربما الألم والوحدة .. نعم عله الألم .. فنحن نألم لوجعنا , لضعفنا , لفقرنا .. لوجودنا العبثي وحياتنا المفرغة من معناها .. نألم لاستمرارنا الحقير على هذا التراب الذليل .. نألم لعدم قدرتنا على امتلاك الألم ذاته والتمتع به .. نألم … !!

–                     آه .. يا له من ألم أن لا يكون لك ألم ..!

جميل أن نعرف مفاتيح الشعور لدينا .. ونضبطها لنعزف سمفونية الحياة بإتقان وصدق ورهبة ..!

انهارت هذه الكلمات على شفتي .. فأصبحت أسير طغيانها برغمي ..!

.. لا ادري كم مضى من الوقت .. وكم بدت الحياة تافهة بمنظار وحدثي ليلتها .. ولكن .. فجأة .. قطع ذاك السكون الشكلي .. والانقطاع التام عن لعبة الحياة بدخوله ..!

لم ألحظ دخوله في البداية .. ولكن حينما وصل إلي الموظف النائم , ومزق بصوته الجهوري بكارة الصمت .. موجهاً حديثه للموظف ..!

–                     يا سيد .. حلل قرشك .. موظف استقبال ونائم ” عيش تشوف “

نطق هذه العبارات .. فبدأ كأنه يطلق الرصاص على ذلك الموظف البائس .. استيقظ الموظف .. وبدت على ملامحه علامات الذهول والدهشة والارتباك أيضاً ..!

–                     الملامح تقول كل شيء بصراحة .. وفي لحظة .. إنها لا تعرف الكذب مثلنا .. !

تدارك الموظف بعد صمت .. قائلاً

–                     آسف يا أستاذ .. ولكن الوقت متأخر

–                     متأخر متقدم .. العمل هو العمل

استشعرت في عباراته التكبر والقسوة .. وأحسست بالرأفة على ذاك الموظف .

برهة .. سكنت تلك الضوضاء التي أشعلها .. وعاد السكون كما كان سابقاً .. سلطاناً ..!

دقائق أتم إجراءاته واتجه نحوي .. اقترب

–                     مساء الخير , أو بالأصح .. صباح الخير

رددت عليه بأسلوب فيه شيء من الجفاء

–                     صباح النور

يبدو انه استشعر جفائي , وأحس به فصافحني وأردف قائلاً ..

–                     أنا آسف يا أخي لو تسببت بأي إزعاج لك

دهشت لهذا اللطف الذي أبداه تجاهي .. كأنه ليس ذات الرجل الذي كان يرمي الموظف بعباراته اللاذعة

وضع يده في جيب سترته , واخرج علبة علكة صغيرة , قدم لي قطعة منها .. أخذتها , لم انطق بكلمة لشدة دهشتي وذهولي مما يحدث ..

إنسان كهذا المفترض أن يشعل سيجارة , ويدخن بعصبية وتوتر , أو يشتعل .. رددت بداخلي

–                     الإنسان عالم غريب ورهيب بذاته

أحس بدهشتي وشتاتي .. فابتسم وقال

–                     يجب أن تكون مجنوناً كي ترافق جنون الحياة .. الذي هو الحياة ذاتها الآن على الأقل

كانت هذه العبارات هي المقصلة التي قطع بها الصمت وأراق الروعة .. فقلت له بتودد

— الجنون .. كل ما يغاير سلوكنا وأفكارنا الداجنة يعد جنوناً , وان كان أكثر صدقاً وفائدة منها .. كان المسيح مجنواً بنظر اليهود .. وكذلك النبي بنظر قريش . ..!

تابع وكأنه يلحق شيء أغفلته

–                     الجنون لذة يمارسها الكل خلسة أحيانا .. شأن الجسد , لذلك اعتبر خطيئة ” نسبياً ” ..!

نظرت إليه بتمعن .. وكأنني أتفقد آثار الكلمات على شفتيه , والتقت عينيا بعينيه .. فابتسم وقال لي :

–         أتشعر أننا متواطأن على ممارسة الجنون هذه الليلة هنا .. أم تراه القدر الذي رتب لنا هذا اللقاء واعد لنا هذه الكلمات المفخخة بالجنون طبعاً .. فالحكاية كلها جنون بجنون ..!

ازدادت حيرتي ودهشتي أيضا .. وأحسست انه وضعني عاريا من كل شيء لأواجه ضعفي وعجزي حتى عن فهم نفسي .. أنا كون كامل يمشي على قدمين .. تائه في دروب الحياة المكتظة بالشوك والفخاخ .. !

كنت استمع إليه وهو يتحدث بأسلوب فلسفي علمي عن الجنون .. ويناقشه باعتباره قضية وجودية متعددة الوجوه ذات طابع فردي وأحياناً جماعي .. جنون الأفراد .. وجنون الشعوب .. فالجنون حالة فكرية طافحة .. وأيضاً مبعثرة تغرينا فننتمي إليها ترفاً أو فقراً ..!

نظر إلي برفق .. أنا الشتات المبعثر على قارعة اللحظة , وضفة الارتباك .. وهمس بهدوء كأنه يحاول لملمتي بحنان ورفق ..

–                     الدنيا لا تساوي جناح بعوضة عند الله , فكم نساوي نحن من هذا الجناح , وماذا نعرف عنه ..!؟

مسيرة فكرية امتدت قرون . . أنجبت الصراع .. والصراع أنجب الصراع .. قتل أنبياء وقسيسين وكتبة ورهبان وراهبات وطيبين وموحدين ونساء وأطفال . . لقد تخلى الإنسان عن إنسانيته عمداً ..!

نظر إلي ساعته واتبع

–         الخامسة والربع , اقبل الفجر واقترب موعد الرحلة .. أتعرف خفت أن أبقى في البيت فأنام وأتأخر عن موعد الطائرة .. لذا فضلت السهر في هذا الصقيع ..!

–                     اذكر أننا استقلينا الطائرة بعد وقت قصير جلس هو في المقاعد الأمامية وجلست أنا في المقاعد الخلفية

تراني تعمدت الابتعاد عنه , والفرار من مواصلة حوارنا .. حينها أم …!

عندما هبطنا وجد عائلته بانتظاره .. صافحني .. وكتب لي اسمه وعنوانه على ورقة , ورحل مع عائلته

.. هكذا كان لقاءنا الأول

لم  نلتق بعدها لفترة طويلة .. ولم أحاول الاتصال به , أو البحث عنه إلا أن أصداء لقاءنا الأول ظلت تتردد في ..!

رأيته ثانية في احد المصايف , كان يلعب الكرة ويركض ويصرخ , ولم يبدي مبالاة بأحد

فكرت انه لم يرني أو لم يعرفني .. فاقتربت منه , التفت إلي وأبدى البهجة لرؤيتي .. صافحني بحرارة  واخذ يسألني عن صحتي وأحوالي تناولنا العشاء سوياً , وافترقنا بعد سهرة طويلة , خضنا خلالها في مواضيع مختلفة مغايرة تماماً لموضوعنا السابق .. ” الجنون ” .. !

.. بصراحة .. حاولت أن ادفعه إلي ذاك الموضوع أو إلي آخر مشابه له .. ولكنه كان متعلقاً بسيرة المشروبات والأغاني وغيرها من الموضوعات الحياتية المستهلكة .. بنظري .. !

بدا كأنه ليس ذلك الشخص الطافح بالجنون , المتمرد على البديهيات التقليدية المألوفة الذي قابلته بالمطار .

بعد أيام اتصلت به ودعوته لزيارتي سهرنا معاً مراراً .. تكررت الزيارات فيما بيننا وتوطدت علاقتنا كثيراً .. إلي إن كانت تلك الليلة التي ارتمى فيها بين ذراعي وهو يبكي , ليهمس لي بضعف شديد ويخبرني انه مصاب بمرض خطير .. وانه قد استنفذ رصيده من الفرح والجنون والمجون أيضاً ..!

دمعت عينيه .. ولاذ بالصمت .. أحسست بأنه حطام إنسان نبس بضعف .. وقال

–                     إنني مصاب بمرض خبيث .. انه ” السيدا “

ذهلت .. وانزلقت من فمي أحرف لست أدريها .. قلت له أنت ..!

–                     نعم

–                     ولكن لماذا .. وكيف ..!؟

–         لأنني وأدت ما بداخلي .. وأطلقت نفسي ورحت أجوب أزقة الضعف , وأنا امتشق شهوتي وسقوطي .. كنت مجرد وهم .. خرافة تبجح .. كل ما درست وتعلمت .. كان غرضه التبجح .. كنت طوال الوقت غير سوي ..!

عندما كنت طالباً بدأت رحلة السقوط والانسلاخ عن المبادئ والتقاليد وبدأ انهيار النقاء داخلي .. كنت أمارس كل شيء خلسة عن الآخرين .. وكانوا يمارسونه بدورهم أيضاً ً ..!

بهرتنا خلاعات الغرب ورفاهيتهم عندما كنا في أوروبا .. امتشقنا أيدي الحسناوات ورحنا نمارس غرائزنا البهيمية .. أهنا أنفسنا وأكبرناهم .. اخذوا يرتبون الدنيا على مزاجهم وما يناسب أفكارهم ومعتقداتهم .. رتبوا كل شيء حتى أفكارنا وفق رؤاهم .. ضللنا الطريق .. وانقطع بنا السبيل .. فأوينا إلي صقيع الجهل والبؤس والفقر .. أصبحت أوطاننا عواقر تنجب العجز , وان حدث وأنجبت يفر من تنجبه إلي أحضانهم أو يوأد في رمال اللامبالاة والتجاهل .. إننا أعداء أنفسنا .. ويحكمنا الجهل ..!

–                     حاولت الصمت .. أمام هيبة حزنه ومقدار اليأس الذي يتملكه ولكن حديثه أجبرني على النطق فقلت

–                     ألا يوجد علاج .. هل سألت أطباء ..!؟

–                     سألت طبيباً واحد

–                     من وأين

–                     انه أنا .. لقد سألت نفسي عن مرضي وعرفت العلاج

–                     هذا جيد

–         لا أتوقع .. أنا سوف أموت .. لأنني فرطت في كل شيء  .. لقد نسيت الله .. وأنا الآن اشعر بحنين جارف إليه .. لقد مللت هذه الكوميديا الهزيلة التي أمارسها منذ ولادتي ..!

أنت أكثر إنسان عرف دواخلي .. لدي إخوة ولكنك أنت من يعرفني  ويمتلك مفاتيحي ..وعليك أن تعرف أنني أريد أن أموت .. ولا أريد رؤيتك منذ الآن .. ّ!

–                     أمطرتني عباراته بالتفكر والحزن .. ومهرني الألم بختمه فتألمت .. الألم .. أستاذ الجميع ..!

سكن الكلام ونحن أمام مقهى بالمدينة .. لم تعد تقوى الشفاه على الحديث , ولم تعد بلاغة الحروف ذات قيمة , فبلاغة الصمت مؤنسة للروح .. وهو وأنا في حاجة إلي سكينة ..!

وقفت لأمضي

فقام واحتضنني بشدة كادت تداخل ضلوعي بضلوعه .. لقد ذرفت دموعه بحيث لم املك إلا سفح دموعي إلي أن سمعت أنة حزينة تخرج من جوفه .. وهو يقول

–         يحزنني أن أموت قبل أن أسدد ما عليا .. ولكنني أريد أن تحتفظ بي قوياً في ذاكرتك .. أنت بالنسبة لي امتداد يفوق طموحي , غلبتني طوال الوقت بطيبتك .. أقدرك .. ولكنني لا أريد أن أراك قبل موتي .. ولا أريدك أن تحضر جنازتي .. ولكنني أريدك أن تحتفظ بي داخلك ..!

 امقت الليل وأخشاه .. فهو يغرقني برغمي في الوحشة , ويدهسني بالوحدة وربما البكاء .. أخافه , قرين الموت وربيبه ..!

مقالات ذات علاقة

أبطال و ديمقراطية

حسن أبوقباعة المجبري

طايح السـعد !!

رجب الشلطامي

صعاليك بلا هوية

عبدالرزاق العاقل

اترك تعليق