من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك
سرد

تاجر الأوهام (2)- رجل الحاوية

ZWIK_01

حاول أن يحفر رأسه بين ساقيْه بانت أصابع قدميْه متوحشة ومتراصة ومتلونة تحته، أرضية المكان الحديدية تبدو غير آهلة لأن يحط عليها بالنسبة له، إنه يجلس مقرفصاً لساعات بالزاوية التي قامت بتنظيفها، حمل جميع الأوساخ إلى زاوية أخرى، ضحى بسترته الممزقة وصنع منها ملعقة للنفايات، مزقاً جزءاً منها ولفه على يديه حتى لا يمس القذارة وألقى بها بعيداً حامل ما تبقى من السترة كسرّة يلقي بها، مسح بها الأرضية حيث هو مقرفص، حاوية نقل مليئة بالقمامة، حاجيات وملابس ملطخة بالدم، حفرة باتساع قبضة اليد في وسطها تمتد الحفرة المظلمة تحت الحاوية مسافة رجل وتتسع مقدار رجل أيضاً، مليئة بالقاذورات والفضلات البشرية، يغزو حيطانها العشوائية الإسمنت المسلح، ثقوب في أعلى الحاوية تكاد لا تكفي إلا لإضفاء بعض من الهواء على المكان، ضوء أصفر وخافت لمصباح يكاد يموت في أيةِ لحظة، مجموعة من المؤن الغذائية مرصوفةً: ثلاث علب بسكويت، علبتيْ جبن، قنينة بحجم شنطة تكاد تفرغ من المياه، كأس بلاستيكي يستغرق في الانكماش وخبز يابس…علب، أقنية فارغة أخرى ملقية في الحاوية بعشوائية.

انتابه إحساس طفيف أنه سمع صوتاً ما، أصغى…سمع أعيرة نارية تطلق في الأرجاء، خيل إليه أنّ أحداً ما قاد جاء لإنقاذه، كان صوت الأعيرة النارية يتنامى، يتوزع ويتقلص بعدها، ينقص بانقضاء الوقت، والجته إثارةٌ…انتابه بعض الخوف، ارتبك، جرى نحو الجهة التي ظنّ أنه قد تكون مصدر الإطلاقات، وضع أذنيه على الجدار الحديدي، قلبه يخفق بسرعة، صور المعركة الدائرة ترتسم في عقله، هاهو دخيل ما يقفز إلى المعسكر، يختفي في الظلام، يتابع أحد الحراس يتجول تحت ضوء النيون لحجرات النوم، يفاجئه الدخيل…ينقض عليه، يأخذ منه سلاحه، لكن الحارس التعيس قبل أن يغيب عن الوعي صاح موقظاً الشرذمة الموزعين على حجرات النوم، لم يرد الدخيل قتل الحارس إلا أن اندفاع بقية أفراد العصابة حتم عليه أن يدمي دماغه بمؤخرة البندقية وتبدأ المعركة، نعم إن أفراد العصابة كثر لكن الدخيل أقوى…وللحظة، توقف كل شيء، انتهت المعركة….وهاهو يستعد لمعانقة الحرية من جديد، هاهي أساريره تنفرج…يلقي بنظرة أخيرة في المكان، تمر صور عام كامل داخله، أم هل كان شهراً؟ لم تعد تسعفه ذاكرته الحسابية.

  • إقامة طيبة! قال الرجل المقنع الضخم وهو يتبول في حفرة تخرج منها نتوءات حديدية، ضحك وقال له مشيراً لها ” الحمام!”، تحرك نحو المؤونة، فتح علبة بسكويت، أكل منها، كان صوت تكسر البسكويت يحدث داخله يقززه أكثر من منظر البسكويت وهو يُمضغ، أرشده إلى المكان، عدّ له العلب: خمس علب بسكويت، علبتيْ جبن، أربعة أرغفة”، رفع قنينة الماء لفمه، أرخى قليلاً من القناع بحيث يمكنه رؤية ذقنه، شرب الضخم الماء بشراهة، انسكب القليل على الأرضية، قنينة إلا قليلاً من الماء… قال له ” مياه الشرب والاستحمام ها ها ها ها ها “، أشار إلى وسادة وغطاء في الزاوية، وقال له ” حط سريرك وين ما تبي”…قبل أن يغلق الباب أخبره ” كان صقعت…حوايج التريس عالأرض ما يحشمك شي، خوك راجل!”.

داوود الأمريكي: 35 سنة، أعزب… متوسط الطول، جسد رياضي، لونه كدقيق الزمّيطة، أنف يهوديْ ومجموعة من القوانين، الأفكار، المعتقدات والأفعال التي لا تتغير كثيراً، روبوت بلحم ودم تم برمجته حسب رغبة المبرمج، لا يمكن لك أن تصدق قابليته على التكيف مع رغبة المبرمج الذي يضيف بين الفينة والأخرى بعضاً من الأفكار البديلة، برنامج عقله تم ابتكاره خصيصاً لأن يكون خروفاً أسوداً، تربى على نمط حياة يجمع بين الإعلام الهوليوودي وأحكام العائلات النبيلة، قيل أنه يعود بدمه إلى جذور ثمينة في حي التوت، جدٌ له كان حاكماً بأمر الخليفة العثماني نفسه. علق به من أحلام الطفولة تلك الحادثة التي اختزلته: قفز في أحد الأيام مرتدياً غطاءه كعباءة من دولاب ارتفاعه رجل متوسط الطول يحمل على رأسه صندوق… حلق ومدت العباءة نفسها يتحكم بها بطيرانه، كان يلقي بناظريه في الناس، حركة المرور، سيارة أجرة صفراء تقف أعلى فتحة مجارٍ يصاعد منها البخار، حدق في رجل يرتدي بزةً وقبعةً رماديتان، كانت طريقة مشيه مريبة، وقف تحت شجرة ووقف يحدق في شخص آخر، أسرع في النزول… أرخى العباءة وسقط مالئاً جسده بالكدمات والجروح، شعر الوالدان بنفور ينتاب روح الفتى، حرية أن تفعل ما تشاء سلاح ذو حدين، تدرب الفتى تحت لائحة من القوانين، كان يصير برنامجاً أقوىً لا يمكن اختراق دفاعاته بسهولة، إلا أن هذا البرنامج كان لايزال يحلم بذاك البطل الخارق.

ولأن الأمريكي كان يتمتع بحالة من الرهاب وتأزم في الغرق داخل بحر الثقافة الأمريكية سماه الناس الأمريكي، هنا ووسط أناس يشار لهم بالإرهابيين والمتوحشين كان يتصور أنّه يعيش وسط حفنة من الكائنات الفضائية، يراهم بدواً يرتدون الأعبية تلفهم الصحراء أو بدلاً التصقت بها أتربة القبليْ ممزوجة بالقمامة المرمية في بطن الطريق مخلوطةً بالقاذورات ورائحة المجاري، أوبئة يمكنها أن تقتنص حياته كما قد كان سيفعل السقوط من أعلى دولابه، الليبوفوبيا التي حملها داخله جعلته يحاول أن يصنع بالوناً يحميه من كل شيء يمشي، يزحف، يطير أو حتى تتناقله حبات الغبار على هذه الأرض إلى اليوم الذي يأتيه فيه بطله ويطير به بعيداً عن اللعنة المصابة بها ولايات الإغريق الثلاث.

” وأنت زابط يا سيدي الكاتب، أكيد إننا والحمد لله مسلمين، بالنسبة ليا أنا مش مقتنع بالكلام اللي قلته توا، فيما يخص الأمريكي ماكانش مقتنع بجو الإغريق اللي تحكي بيه انت، الراجل كان واقعي وكلامه مبني علي الحاضر، ما يعرفش حاجة اسمها ماضي إلا أحياناً، هو قالي لتخلف أصيب المنطقة من بدو قطاع طرق كانوا والعهدة على رواة التاريخ الليبي يفلون القُمَّل من ملابسهم الرتبة…هذا ولا تنسى أن اللعنة أصابتهم لو هناك لعنة لرفضهم لكرامة من كرامات السماء حطت عليهم في العديد من التواريخ خصيصاً عام 1912 عندما وقعت الحكومتيْن العثمانية والإيطالية عهد بيع وشراء قانونيين تحت إتفاق قانوني… وأصابهم مرات كثيرة كـ1969 و2011، هذا ما كان ينظر له: ضد القانون…

ولأنه كان ذاكياً، فقد استطاع أنفه اليهودي أن يدله إلى المال، لا ترى كثيراً من الناس يكسبون مالاً جيداً بطريقة قانونية وشرعية لا غبار عليها وهم في سن كسنه، كان يودع ماله أحد المصارف، اكتنز ما يمكنه من شراء بطله الخاص، قرر أن يجدول للحظة المناسبة، أعد جدولاً زمنياً، قائمة بالمصاريف المحتملة، الكمية المناسبة تماماً بالمليم للنجاة، المميزات والعيوب وما إلى ذلك من تحتاجه من مخيلة للوصف يا سيدي الكاتب”.

” كان يقطن هنا..”، أوجدته الأيام هنا… وضع مليئاً بسائل رحميْ ودماء وحبل سري يصل إلى إلى الرحم، أمسكته ممرضة مرتديةً قفازيْن مائليْن إلى زرقة خفيفة، فتح عيناه ليرى شعرها الفحمي يلفها الرداء الأبيض والكمامة أسفل ذقنها، في شيء من الضبابية أحس بملمس القفاز البلاستيكي، أمسك الطبيب بمقص معقم استعمله مع غيره من المواليد، قص الحبل وربط السرة…ودع جسده جسد والدته، بكي وصرخ وتبرز ورضع وقُرِص وقُبِّلأ واحتُفِل به وزحف ومشى ووقع وتحدث ودرس وعمل هنا، ” كان محتماً أن يبقى هنا…”.

داوود، يعيش في حي التوت، شجرة توت ضخمة تتوسط الحيْ، تفصله بين البنايات والجبانة، خلفها الأجداد الأموات وأمامها الأحفاد الأحياء، حكايات تضمها القبور والبنايات بجدران من الاسمنت والصمت، حفظهم الاسمنت داخله وألصق لحمهم، رائحتهم، دموعهم وأفراحهم على ملمسه الخشن….تحت الشجرة كانت سيارة مرصوفة، يرى الجميع ويرونه، كان اللحم الوحيد الذي يعرف ما يشاء، عُرف ببارعته في التخطيط، التشجيع وتذكير الناس الذين عانوا من طبيعتهم وروتينهم اليوميين وشيء من النسيان الاختياري…يخرجون من سيارته لا كما يدخلون، مشتتون يدخلون، مليئون بالثقة يخرجون…مهززون وخائفون يدخلون، أقوى وأشجع يخرجون. كان داوود وحده الذي يمر كل يوم من أمام شجرة التوت يفكر قليلاً في الخرافات التي شادها البشر عن كراماتها، شجرة كأية شجرة، تثمر كما يثمر غيرها تحت ظروف طبيعية مشابهة لا دخل للكرامة التي تركها أحد الأولياء مزروعة في جذوعها وجذورها، وضع قبره تحتها…فالشجرة تتغذى من دمه، وتغذي دماء الموتى بالبركة بجذورها كما تغذي دماء الأحياء بثمارها، يبيع تحتها تاجر ما شيئاً لا يعرفه، يحدق فيه التاجر كلما مر يتساءل ” لما لا يأتي هذا الكائن كغيره يشتري البضاعة؟!”، يهز رأسه، يغرق في أفكار أخرى، يبلل الأرض، يشتم رائحتها ثم يمضي في حلم غريب، ” سيأتي يوماً ما…” يقول ضاحكاً.

يركب داوود الحافلة ثم يخوض النهار داخل الجامعة، زملاء وزملاء قدامى يجذبون زملاءً جدد، زملاء عليه التعامل معهم بامتياز يمنحه، كان جيداً في التعامل مع الناس، يضعهم حيث يشاء، ليس عليهم أن يتخطوا أكثر مالم يتخطى أكثر، على المرء في أيةِ حال أن يعيش طبيعياً ومتماشياً مع ظروف الحياة وقوانينها في خضم ما يستطيعه مع غياب قانون يفتقده، قانون أقل حضارة وتقدماً ولكنه قانون، ينظر من نافذة الحافلة ويسأل: هل كان القانون سيسمح للناس أن يلقوا بالقمامة حيث يشاؤون، يفسدون المال علناً تحت سطوة العصابات، لم يكن القانون سيجعل جاره الذي كان جالساً يعانق الوقت وهو مخمور بملابسه المليئة برائحة العرق والكحول، أسنانه الصفراء وسحنته الغارقة في لون التمر أن يملك كتيبة أو يركب اللاندكروزر، لن يسمح لأي شخص أن يمارس حرفته حيث يشاء كما يفعل تاجر التوتة بالحيْ، هذا ما سماه ” تاجر التوتة”… أحد زملاءه” مسعود: من أولئك الذين خاض معهم عقداً طويلاً في الدراسة من زبائنه، يراه راصفاً سيارته تحت الشجرة دون أن يعبر به، إن كان داوود أمريكي فمسعود طلياني يؤمن بالفاشية والطريقة الإيطالية في الحياة، تسمعه يقول ” تشاو” و” بيلّو”، يرتدي الأزياء الإيطالية الحديثة، يتابع الموضة ويتحدث عن شركات الأزياء الإيطالية، يسمح لراموزيتي أن يدور بغناءه في سيارته طيلة النهار، لا يتحدث إلا عن روما…يغوص في الحديث بإيطالية، يقول لداوود ” أنا بالنسبة ليك فرانشسكو، أنت بالنسبة ليا براين يا أمريكانو. يقول ويشدد على حرف النون في براين بلكنة صقليّة. آلورا؟!”. كان داوود يركب الحافلة ذاتها ذهاباً وعودةً للحيْ، في أحدِ الأيام…تأخر سائق الحافلة عن موعده، ظل يغلي ويبرر بصوت غير مسموع ” سائقو الحافلات اللعنيني، الأنذال…كل يوم يزيدون من التسعيرة، ويزيدون من تأخيرهم! أين القانون؟”…مر مسعود بسيارته، توقف ونده عليه من النافذة

– ” أمريكااانو…اركب.

حدق داوود في الوجه الذي يعرفه. هزّ رأسه شاكراً ومتأسفاً، قال له

  • ” لا بأس”.

فتح الطلياني باب المسافر ودعاه مرة أخرى

  • ” وين طريقك”؟.
  • حيْ التوت.
  • ها ها ها ها ها، مازال تسكن غادي يا بيلّو والا ماشي للتوتة؟! هيا أنا ماشي غادي اركب.

في الطريق كان يشتكي له من أتعاب الدراسة، قال له: لي مدة لم أذهب لإيطاليا، مللت الليبيات ونواحهن والليبيين، أريد أن أرى إيطاليا، صديقتي إيطالية اسمها انجلينا، سأتزوجها حالما أنتهي من الأشغال الشاقة هنا، سأغادر، مللنا الحياة هنا يا رجل! ابتسم داوود وقال ” إما وغد محظوظ أو بدوي كاذب”. وقفت السيارة تحت شجرة التوت، كان سيغادر إلا أنّ مسعود أرغمه على الانتظار ” شوية ونجيك يا أمريكانو”. ظل ينتظر، فكر ” لما عليْ الانتظار، لقد وصلت…تقنياً فإن هذا الكائن يعطلني بلا أي مغزى”، لمح مسعود خارجاً من الهامبورغا، لمحة من ابتسامة ثقة تغازله، كان كأنّ أحداً ملأه بالمحفزات الهرمونية جميعها: نيكوتين، هرمون السعادة الجنسية، هرمون النشاط وهرمون الشبع والرضى والحب والأمل، عاد كاملاً وذهب ناقصاً، سأله:

  • ماذا يبيع؟
  • ها ها ها في شارعكم وما تعرفش شن يبيع؟ ها ها ها ها والله يا امريكانو إلا امريكانو رسمي…هذا مكتب خدمات عامة، خدمات عامة للمجتمع… شوفه بالك تحصل عنده اللي تبيه. غمز له، ثم غرق في ضحكه.
  • اللي نبيه؟ قال بخفوت كأنه يكرر كلام مرافقه.

انسحبت الأيام، ظل لوقت مناسب من الزمان يمر أمام التاجر، يحدق في سيارته الهامبورغا تغرق في قدمها، تشدها الأرض إليها وتتشبث بها جذور التوت، التربة أغرقتها مقدار سبابتيْن في الأرض، الغبار لف جسدها أو كاد يفعل لولا حملات الغسيل الأسبوعية التي يقوم بها التاجر، حديقة من الطماطم تلف قطر المكان وراء انتهاء ظل الشجرة زرعها التاجر، إضاءة مغلفة المكان، مجموعة من المقاعد مرسومة على جذوع الشجرة الضخمة المنفتحة في وسطها، وضعت المصابيح على الفروع تسقط من جهة الشروق والغروب على السيارة، لافتة حديدية كتب عليها ” البركة للخدمات العامة”، ترى حروف كلمة البركة باللون الأحمر يتقطر الطلاء زاحفاً لأسفل ومجمداً بفعل الوقت، ” آه… من هامبورغا تحت التوتة لأضواء النيون!” يقول في نفسه وينسحب من المشهد، كان الرهاب الذي يعاني منه يجعله لا يثق بكلام الشفاه، لابد له أن يرى مصدراً علمياً وموثوقاً، شيئاً ملموساً ومجتمعةً على صحته مصادر متحضرة مختلفة، قاده ذلك إلى جعله موسوعة معلوماتية متنقلة، دراسته للطب عموماً عززت من معلوماته الطبية، أحب المعلومات، كانت عالمه ومجال موهبته التي لا يتفوق عليه فيها الكثيرون، كان يدور ليل نهار بين أنواع الأمراض ، وقع ذات مرة على موسوعة للأمراض النفسية، قرأ وقرأ وبدأ يسلط أعراضه التي يجدها على بشرٍ يعرفه ” آه هذا مثل الطلياني…يعد عينة ممتازة لمرض رهاب الحرب War Neurosis ، وجوده في مدينة عرضت لقصف المعدات الثقيلة لمدة شهر كامل تحت خوف من موقف أب مسئول مقرب لنظام يشهد تمرداً ضده، تمرداً أو انتفاضةً جعلت من انتماءه لمدينة مناوءة للنظام الذي يخدمه خطراً عليه من الجهتين، مصاباً بالصمت يتحيز أقرب فرصة للهرب، خاطر بحياته وحياة أطفاله بعد أسابيع أربعة من أهوال الحرب، هاهو فتاه قد يكون مصاباً ببعض أعراض الرهاب ويرى سبيل النجاة خارجاً…” ابتسم وأبعد الفكرة عن دماغه وقال: لست متخصصاً في علم النفس، ثم أنني لست مرخصاً، قلب الورقة وقرأ” رهاب التجمعات العامة” قال بخفوت يتابع بسبابته الكلمات.. آه ربما يكون ضحية للكلام، ابتسم، كانت الأعراض تنطبق عليه إلا أنه قال ” ولكني لا أخاف التجمعات العامة…ربما أخاف التجمعات الليبية”، كانت الأيام تربطه بمسعود الطلياني، يسلم الطلياني نفسه لتاجر التوت لدقائق، ساعة أحياناً ويغادر صحبته…في أحد الأيام أخبره مسعود ” هيا يا رجل، انزل ليس عليك أن تدفع شيئاً له في أول مرة، لك أن تصدق ما تشاء وتترك ما تشاء، إن الرجل معجزة…إنه يعطيك ما تريد يا داوود، ستجد عنده ما تريده”.

سمع كلماته لأول مرة، كانت كمزمار افتقده منذ زمن…داوود ومزماره يتحدث أمامه، رآه.

  • آه بيلّو!! تشيفاتشي سنيوري، إيتاليانو…كافي دي كابوتشينو ليك يا صديقي، صاح التاجر. كان جالساً على كرسي نحاسي وضع في قلب الشجرة، أمام سيارته، يرتدي نظارة شمسية فوق رأسه وملابس ذات ذوق إيطالي تغطي سحنته الرقيقة، سيجارة يحملها برفق بين السبابة والإبهام، كانت السترة التي يلبسها تنتهي بين الإصبعين لتعود لافة على يده بينهما، كان جزء من اليد مغطىً بها، خرطوم مياه يسقي به حديقته الصغيرة.
  • آه بيلّو…ماشية الحياة يا لويجي؟ قال الطلياني.
  • والله يا طلياني، البدلة متاعك سكسية، تي حاس بروحي في روما يا حبيبي…سكينة البوتانا خطمت اليوم وعاكستها ضحكت، قلتلها” يا سكينة يا بوتانا ما تجي في جمال انجلينا ..لا في صدرها لا في الوجه لا في التينا”.

مضى التاجر يحادث الطلياني بما قد سمعه، أحدهم يجعل الزنوج يصلون إلى شواطئ إيطاليا الآمنة، كلام حقيقي يا صديقي… هؤلاء الزنوج الذين يصطفون تحت الكوبريات، يبنون وينظفون ويفعلون ما يفعلونه ليسو أفضل منا، أنا خارج ولو على ظهر فلوكة، الزنوج الآن يعلمون في مزارع التفاح، وأمثالنا يرحلونه إلى حيث التفاح يباع، حياة كريمة والهواء نقي وبعيداً عن التناطح والأسلحة وما شابه يا رجل، سألت الجل وقلت له: لي صديق أريد أن أطمئن على سلامته يا رجل. كنت قد خدمته ذات مرة، هيا يا رجل، حضر نفسك ومالك وسأرتب كل شيء، وسأتبعك عاجلاً أم آجلاً إلى انجلينا… افرح يا طلياني ستسفار ولو على جثتي…كان يبدل نظراته بين مسعود وبين داوود متجولاً ومبتسماً، كان يثبت بنظره عندما يقف على داوود الأمريكي وكأنه يسأله ” ماذا تريد؟! إنه حتماً عندي”… أردف التاجر وقال ” صاحبنا هذا يرفعك وين تبي، الجنة، إيطاليا، فرنسا….حتى أمريكا”، ظل يسرد كافة البلاد حتى وقف على أمريكا، شعر بشيء ما أدرك كينونته داخل نفس داوود… قال ” وصل هلبا تريس لأمريكا… تذكر في فلان؟ فامريكا بتأشيرة قانونية وإجراء دراسة ” قفز عقل داوود الباطني فرحاً، سأل دون أن يفكر ” حقاً؟!” نطق برغبته دون وعي منه، أصبح منذ ذلك اليوم زبوناً، ” ولكنه ليس كأي زبون…زبون مثير للقلق ومتعب ويكاد يقتلك بشكوكه وأسئلته”.

” ها ها ها ها ها خوك داوود بدي زبون برتبة شرف يا سيدي الكاتب، صعب أحياناً، يرتخى أحياناً، ما تعرفش كيف تتعامل مع زبون زيه كان ما يرتخاش وما يثقش سوا بالكلام والا الورق اللي توريهوله، ما تقدرش تعطيه اللي يبيه وأنت مستريح إنه حياخده، أنت تعرف إن جميع التجار في الاخير مادابيهم ما يخسروش شي، يتحملوا النفخ في الأول باش بعدين الزبون نفسه يجي بروحه من غير دعاية لا شي… اقتصاد يا حبيبي، فهمتا كيف؟”

” لكنه كان ألماً في المؤخرة إذا سنحت لي، كان دائماً ما يشكك فيما أقوله، يقول لي : هل من أوراق تثبت ذلك؟ هل لديك أوراق قانونية بمزاولة العمل خاصتك؟ ها أنت تحتكر سلعة لست الوحيد فيها، لما عليْ أن أعطيك هذا القدر من المال؟ إن الرحلة للخلاص ليست كما تدعي، هناك مجموعة من الطرق أفضل من التي تقولها، أقل تكلفة وأكثر قانونية.. كنت أخبره: أين القانون يا صاحبي؟ اصحى!! كان من أولئك الزبائن المساومين، طردته ذات يوم وقلت له: سترجع يوماً ما وأنا الذي سأساومك وأقدم لك بضاعتي دون عناء، وستشتري مني…لن تجد كلامي على الورق ولكنك ستفعل!”

جاء اليوم الموعود، كان يحاول أن يثبت للتاجر أنه لا شيء، لم يتمكن، كان الوقت أقوى منه…رأى العالم يبتعد عنه، رأى نفسه وحيداً ومنفصلاً في جزيرة بعيدة عن العالم، فقد المقاومة، دخل الهامبورغا بعد مرور سنين، جلس بجانب التاجر، ظل داخلها لساعتين….نزل سعيداً، واثقاً. حُدد موعد ما، أيقظه المنبه، نظر إلى الساعة، لبس أجمل ثيابه، حلق وجهه، مرر الموسى على ذقنه وهو يغني ” تيك مي هوم..”، اغتسل، استيقظ وكل شيء على ما يرام، سيذهب للمصرف…يسحب جزءاً بسيطاً من ماله ليرتب التاجر الإجراءات، خرج من المصرف، حمل حقيبته سعيداً، خرج من الباب، واته توجس ما، افاقه هاجس وقال له ” ماذا لو تعرضت للسرقة؟ ماذا لو كان التاجر مجرد نصاب؟ لماذا لم أفكر في هذا الاحتمال من قبل؟ بل فكرت فيه، نعم، منذ أن عرفته ولكنه طريقي الوحيدة في هذا الوقت العصيب، سأذوب هنا…آه الشمس حارقة، الغبار قاتل، لم أعد أتحمل” حدق في الوجوه حوله، بدى له أنهم جميعاً هنا لسرقته، لانتشال ماله، قد يوجد بينهم سارق، مجرم، إنهم جميعاً قطاع طرق، أجدادهم قطاع طرق، اللعنة…. الغبار يخنق رقبته، يشعر به ككيس يكاد يخنقه، ككيس…كإغماء يحاول أن يقاوم حدوثها، كإغماءة كيس ويد قاطع طريق تحاول انتشال ماله… ” آه أين الضوء؟!”.

رماه، ألقى به كجثة حملّوها إلى المشرحة، نفذت رائحة المكان إلى أنفه، استعاد أنفاسه، القرف يحل حوله…كان مقيداً، قلبه ينبض أسرع من المعدل الاعتيادي، الرطوبة بالمكان قاتلة…لم يتوقف عرقه عن إشعاره بها، كان كأنه ظل يجري لأيام…سائل لزج فوق شفته العليا ويبدو أن سائلاً دافئاً حل بين فخذيه وبدأ ينشر رائحة لاذعة وقارصة، فك الرجل الضخم وثاقه، نزع ساعته وارتداها، كانت يد الرجل مليئة بالجروح، جروح بين كل إصبعيْن، جرحان بين السبابة والإبهام… كانوا قد نزعوا ملابسه وحذاءه ليعذبوه بسهولة، مارسوا عليه عمليات التعذيب التي يعرفونها…كان الرجل الضخم يستذكر عمليات التعذيب التي يراها في السينما ثم يسلطها على ضحيته، أحس بجسده هش كالبسكويت…عظامه سهلة وهشة مثله، قال له المقنع الضخم ” آه يا بشكطي ما ادهشنيش ورحمة أمك فلوسك؟!”. كان ساكتاً طيلة الجلسات لا يتحدث، بالوا عليه، لطموه وسددوا لكمات قاتلة في جيده، ولكنه آمن بإرهابهم وأنه عليهم أن لا يفككوا عزيمته، أعيوه ضرباً… غاب عن الوعي، جثته صارت تئن، لم يستطع أن يرتاح على فراش سوى الهواء… تبول الرجل الضخم وقال ” إقامة طيبة… هوتيل سان فرانسيسكو يا حومة!”.

أصابه الرهاب… مات، تعفنت ملابسه، أراد تغييرها، عليه أن يغسل سرواله، أن يغسل فخذيه على الأقل، لم يتمكن…الماء كان بعيداً، السراويل حوله دامية وملطخة وقذرة، قد تعود لمرضى مقرفين أو بدوي مليئين برائحة الجمال، جسده محطم، لم يتحرك ليوم كامل، غزته الأحلام، غزته الكوابيس، عيناه غارقتان في فتحات الهواء بالسقف، يداه والدم يغشيهما كطلاء عليه أن يستعمل محاليل لإزالته، ارتعاش قدميه جعله لا يحس بالأرضية تحته، كان يخدش الحديد بأظافره، رائحة البول ولّت أكثر نفاذاً، الرعب لا يمكن أن يُنسى، الأصوات والأسواط واليد الغليظة المصابة بالندوب تكاد تمزق أحشاءه، ضغط باليد الأخرى على وجنتيه، التصقت نهايتا شفتيه، الدم ينبثق من جسده، كان كبرميل ثقب من نواحيه جميعها ” كم لديك في حسابك المصرفي؟ ، اسحب المال وننسى الأمر جميعاً، حياتك مقابل مالك، مليون دينار؟ مليونا دينار؟ ما قد جمعت من تعبك في دنياك، ما جمعته… مقابل حياتك، الموت والحياة سيان في هذه الحاوية القذرة، ضعه في قفص من اختياره هو وسيبجلك”.

أصيب اليوم الأول بالاضمحلال، فتحات السقف دارت بين شدة إضاءة تثقبها وبين إضاءة قمر خافت، ثم عادت تسخنها الشمس اليوم التالي…استيقظ، ألام التعذيب لازالت تصيب رجولته في مقتله، ألم آخر أصابه… شفتاه المشققتان ستتحولان حتماً لسكين حاد، رقبته لا تزدرد لعاباً، لقد جف نبع اللعاب… حملق في الماء كثيراً ” يا ترى ما مدى قذارتها؟!” التفت ناحية المؤونة، جبن، بسكويت…خبز يابس، سيستند بها للحفاظ على حياته، حاول أن يتحرك ببطء…بألم، بتعب، حاول أن يلتهم قطعة الجبن الأولى، نزلت إلى بطنه بتأن، شعر بها تتأنى داخله. طعم قطعة الجبن الثانية كان ألذ ربما، أكثر قداسة وسماويةً من قطع الجبن التي أكلها في حياته، أغمض عينيه واستمتع بها يلوكها بلسانه، دون أن يشعر مدّت يداه إلى قنينة المياه، شرب، كانت عضلات جسده تظمأ للماء، تصرف دون إذن من وعيه، تفكر الهواجس…توقف، وضع القنينة ونهض، تسارعت نبضات قلبه، روائح جديدة طفقت تنبعث من الحاوية، حريق ربما، من أين تأتي رائحة الدخان؟، آه، الدخان، السجائر، تفقدت عيناه الحاوية، بعض أعقاب السجائر ملقاة على الأرض، أنصاف سجائر وأرباع وسجائر منتهية، نظر إلى الأنصاف بشراهة، تفكر الهواجس ” كم تصبح نفس الإنسان جائعة للتفاهات عندما لا تجد شيئاً ذي قيمة، تجعل من التفاهات أثمن الأشياء… كم الوقت الآن؟ ” تفحص معصمه، أين الساعة؟! انتزعوها اللصوص!! كدمات وجروح، دم متخثر، منابت الأصابع تخترقها زرقة وخدوش، أحس بالغثيان، عقله لم يتقبل وجوده داخل حاوية كهذه بظروف كهذه بحالة كهذه، أسرع ناحية الحفرة التي تبول منها المقنع الضخم، أفرغ مافي جعبته، توقف، تذكر المقنع الضخم يتبول وهو ينظر لقذارة الحفرة، براز بشري، مياه سوداء، أحذية وأقنية مياه فارغة وعلب جبن، تراب واستفراغه، استفرغ مرة أخرى…أجال بنظره في الحاوية، كان عقله يأمر جسده أن يستفرغ مرة أخرى لكنه لم يستطع، صار يزحف من البرد، عينان دامعتان….تكور تحت الغطاء، تفحص الحاوية، منصتاً للصمت تارة ولصياح بشر تارة أخرى… مرت فيه ذكرى سقوطه من الدولاب، الناس الذين رآهم…الناس الذين أنقذهم، السقوط… التمعت عيناه.

سبعة أيام لم يرى فيها أحداً، كان في مواجهة الوقت والعقل، استيقظ اليوم الثالث، رآه شاخصاً أمامه، يرتدي بزةً سوداء تلفها عباءة سوداء وقناع من الجلد لا يظهر إلا القليل من ذقنه وعينيه العسليتين، وعلامة محفورة في صدره تشبه طائر ما… ” آه الرجل الخفاش!! هل هذا أنت ؟ ” فزع، جلس يحتمي بالغطاء، ” الهلاوس!!!” لازال الرجل شاخصاً على بعد قلميْ رصاص، تشجع، شيء من طمأنينة حل على روحه، شعر بالآمان…كان الرجل الخفاش كخادم يسقيه الماء، يغسل فخذيه وسرواله، ينظف مكانه، يطعمه ويستند عليه ليتبول أو يتبرز من الحفرة، نظف له زاويته، صنع له سريراً من الأشياء الملقاة على أرض الحاوية، في ليل اليوم الرابع شعر بصداع يأكل جمجمته، تمكن الرجل الخفاش من أن يجد له نصف سيجارة نظيف لم تلامسه من قبل شفاه، وجد له قداحة، أشعل سيجارته وغاب في خذر لذيذ…في رفاه من العيش لذيذ، غطاه بعباءته…شعر أن الطفل داخله يصحو، يستيقظ ليكسو لحمه، شعر أنه يزن أقل من فتىً في العاشرة، وأن الشعر لا يكسو إلا رأسه…رأى ذلك الطفل الذي كان يتنمر عليه، اعتدى عليه هو بالفرجار، حمل داوود قطعة الحديد وغرسها بين السبابة والإبهام، انحشر الرأس المدبب في قطعة اللحم الطريقة تغلل من الجلد إلى حاجز اللحم وكاد يقترب للوجه الآخر حيث الكف، رآه يلتصق في اليد، كان الفتى المتنمر يبكي، كان هو على العكس سعيداً تتسع بسمته… شعور بالفوز غازله، بالقوة والانتصار…الآن أنت تبكي أيها المتنمر وها أنا داوود أضحك، كان طفلاً لا يعبأ بالقوانين، لم ينتظر بطلاً ينقذه، لا القانون ولا الرجل الخفاش… عوقب، حُرِم وأشين بفعلته، أنِّب، هُذِّب، قُنِنَ وصار القانون بطله، فأين هو الآن؟!

استيقظ، وجده شاخصاً أمامه…حاول أن يحادثه لكن بلا جدوى، كان لا يصنع شيئاً سوى تحريكه ومساعدته وتنفيذ رغباته، قص له عن حياته: آه مرة، كنت أمر على ذلك التاجر، يسمونه تاجر التوتة…رجل مخادع وبنى تجارته تحت دعائم غير قانونية، مدعياً أن الشجرة لجده الأكبر احتلها، الناس هنالك يؤمنون ببركتها، كنت أجادله، حدثت يوماً ما مشاجرة فطردني…اشتكيت فيه الدوائر الحكومية، أثبتت له لا قانونية أعماله، لكن لا أحد يسمع، نعم صحيح وسننظر في الشكوى كل ما يبيعونه لك هناك، ولكن الوقت قد مضى… جئت إليه أعتذر، جئت أجرر أذيال الخيبة شاخصاً في الأرض استنجد به، وها أنا هنا الآن. يحدق في الرجل الخفاش، لا تجاوب… يجد يده تحك الأرض الجديدية، طارئ من الجنون ألمه، بكي بحرقة، اشتعل قلبه…. بركان يلف جسده، بكاء وحرقة وخسارة وجنون، شيء من أمل ألمّه…هناك سمع أصوات الرصاص لأول مرة منذ عام، شهر… أو أسبوع تخترق المكان، نظر بعظمه الذي بدأ يرق بالأصابع الصدئة، نظر بها، نظر بأنفه يشتم رائحة غابت عنه، كبجر أشهر نفسه، نظر بأذنيه إلى البطل الذي لابد أن ينقذه، لم يعد يحتاج أن يراه، إنه ينظر إليه بحواسه جميعها، بجلده، بعينيه، بأنفه، بأذنيه… هاهو يخفت صوت الرصاص، وهاهي أقدام يسمعها تحطم الأرضية باقترابها، هاهي أحاديث يسمعها… ” هنا…هنا”، طرق على الحاوية، ” هنا….هنا”، فُتِح الباب، ضوء الشمس اخترق المكان….ظل انعكس على جدار المكان، كان الظل يرتسم بضخامته على الجدران الصدئة، كان يبدو كأنه يرتدي عباءة، يده الطويلة تشبه المسدس.

” ها ها ها ها… تبي تعرف شن صار فيه؟ ها ها ها ها…. الأمريكي يا سيدي الكاتب، كان بطل فلم أمريكي باتقان، لكن مش نوع الأفلام الأمريكية اللي يربح فيها البطل…ولا النوع اللي يخسر فيه، النوع اللي يموت فيه من البرد والجوع والعطش والجنون في حاوية لين تطلع جيفته وتشمها تقول جرذ ميْت…نفس الرائحة بالزبط!”.

!”.

مقالات ذات علاقة

وزارة جديدة لشؤون الأحلام

محمد الأصفر

مقتطف من رواية “تليتماس”

عبدالسلام سنان

جزء من رواية السرداب

فتحي محمد مسعود

اترك تعليق