سيرة

ما حدث لمكتبة الفرجاني

وشعار صاحبها الذي واجه به المحنة: “الوي واشبح القدام”

الأستاذ محمد الفرجاني
الأستاذ محمد الفرجاني

لا يستطيع احد من ابناء جيلي في طرابلس ممن بدأوا يدخلون مرحلة الوعي والنضج في عقد الخمسينيات، والتعرف على عالم الكتب، ان ينكر فضل مكتبة الفرجاني على تكوينه، واعرف ان الجيل الذي قبلي كانوا يتعاملون في الحصول على الصحف من متجر المشيرقي، ويباشرونه مع السيد الهادي المشيرقي، الذي كان صديقا لمثقفي المرحلة وكان صاحب اسهام في الحركة الوطنية مع اخوته عبد المجيد ومحمد، ولكنني شخصيا وممن اعرف من ابناء جيلي لم نكن نعرف مصدرا لاقتناء الصحف والمجلات القادمة من المشرق غير مكتبة الفرجاني، وكذلك الكتب، التى كان سهلا ان نحصل عليها من المراكز الثقافية المصري والامريكي والبريطاني وغيرها، مثل مكتبات المدارس التي ندرس بها، ولكن الصحف والمجلات كنا لا نعرف مصدرا لها غير مكتبة الفرجاني في شارع الوادي، وكان يباشر بنفسه العمل في المكتبة قبل ان يجلب صديقنا الراحل محمد اللموشي، وكنت شخصيا اتلهف على مجلتي روز اليوسف وصباح الخير، ومجلة ثقافية اسبوعية اسمها الرسالة الجديدة، وبعض المجلات الفنية مثل الكواكب التي كنت اغرم بها بسبب اتجاهاتي الفنية عارفا انني سالتقي بمقابلات مع نجوم الفن من امثال يوسف وهبي وعبد الوهاب وفريد الاطرش وفاتن حمامة ومن هم في مقامهم من كبار اهل الفن (وطبعا لا استطيع الان عندما اشتري مجلة فنية ان اعرف احدا من نجومها ولا تغريني باقتنائها) وطبعا كانت تقع في ايدينا مجلات اخرى مثل المصور واخر ساعة وصحف مثل الاهرام والاخبار، ولكنني كنت مداوما على شراء المجلات الثقافية الشهرية مثل الهلال والاداب التي تاتي من لبنان، ومنذ ذلك الوقت المبكر تعرفت على صاحب المكتبة الاستاذ محمد الفرجاني الذي توسع في اعماله، وكانت احدى المفاجات التي حصلت لي معه، ان ذهبت ذات مرة لتاجير مسرح الحمراء لتقديم عرض مسرحي، وسالت الصديق محمد سينما كما كانوا يسمونه، وهو مشرف صالة الحمراء، عن الايطالي صاحب السينما لكي اذهب اليه، فاذا به يضحك ويقول لي لم يعد هناك ايطاليا، ولكن ستجد انسانا تعرفه ويعرفك فتعالي لتلتقي به، ولم يقل لي عمن يكون، حتى ادخلني الى مكتب صاحب الدار، فاذا بي اجد الاستاذ محمد الفرجاني الذي آلت ليه ملكية السينما، واخذته بالاحضان مهنئا، ووجدت منه كل عون ومساعدة في تاجير المسرح بسعر مهاود لاقامة العرض المسرحي الذي كنا سنقدمه، عليه رضوان الله، واستطاع بالمثابرة والاجتهاد ان يحقق نجاحا في مجال الصناعة الثقافية لا على مستوى المكتبات ودور العرض السينمائي وصناعة النشرفقط، ولكن في مجالات صناعية كثيرة وفي مجال المعمار، الا انه بدل ان يحصل على وسام، جاء اليه التاميم، ليصادر مكتباته وعماراته والدارات التي ابتناها ومصانعه التي كان يعمل ليلا نهارا لانشائها وانجاحها، لا لصيانتها وحفظها وتسخير امكانيات الدولة لتكبيرها والمضي بها الى الامام ولكن لتخريبها وتدميرها وتوزيعها على المحاسيب  من اهل النظام وازلامه وجلاوزته.

واذكرانني التقيت به في طرابلس، عقب تاميم ممتلكاته، وكنت توقعت انه غادر البلاد، ولكنني وجدته لا زال مقيما بعد ان سطوا على كل شيء يملكه، لاقيته لقاء صدفة في الشارع، وكنت اظن انني سالتقي برجل يعاني من صدمة ما حدث، فلم اجد اثرا للصدمة في نفسه، ولم يظهر هذا الاثر في سلوكه ولا كلامه، بل حدث ان  راى على ناصية الشارع صبيا يتعرض لامراة فبادر بسرعة، ينهره ويطلب منه ان يحترم نفسه، فركض الصبي هاربا، ورايت ان شخصية الاستاذ والمدرس التي بدأ بها حياته لا تزال متمكنة منه، وقلت له حمدا  لله انك لم تتأثر اطلاقا بما حدث، فلم اسمع منه تعليقا واحدا يحمل تدمرا مما حصل له، لانه لم يكن شكاء ولا بكاء وكان  صابرا محتسبا مؤمنا معتمدا على الله، وكل ما فعله عندما ضاقت به ليبيا، ان انتقل بمجهوده الى مصر فاسس فيها مكتبة ودارا للنشر، ثم انتقل الى لندن فانشأ هناك دارا للنشر واكثر من مكتبة لبيع الكتب، وشركة عقارية، وبدأ المسيرة من جديد.

وقد اخبرني احد افراد عائلته ممن تابع موضوع المصدارات ان جملة ما تمت مصادرته وتم تسجيل قيمته المادية بلغ اكثر من مليار دينار بنقود ذلك الوقت اي في اواخر عقد السبعينيات. واعرف ان كل من تمت مصادرة املاكه لم يكن يتقاضى مليما واحدا، الا انه بعد سنوات كثيرة، حصلت بعض التعويضات، ولا ادري ان كان هو او اسرته نالوا شيئا من تلك التعويضات.

كنت اسمع منه شعارا يواصل ترديده، يتكون من كلمات شعبية تقول “الوى واشبح القدام”، وقاله لي مرة في لندن بجوار صديق بريطاني، فترجمته له بهذه الكلمات، وهي Peddle and keep looking forward وصار الرجل الاجنبي يردد المثل وقد اعجبه جدا، لان في كلماته ما يشير الى ركوب الدراجة، والنصيحة لراكبها بان يواصل تحريك دولابها والنظر الى الامام، لانه ان لم يفعل ذلك سوف يسقط،  وراى هذا الاجنبي انها اعظم منهج يتخذه الانسان في الحياة، ان يواصل طريقه ويحرك دواليب حياته، دون ان يعتني بما يمكن ان يشغله عن هذه الحياة وهذا العمل، ويعتني بتركيز بصره فيما امامه، دون ان يعتني بما خلفه وما يفعله الاخرون على شماله او يمينه، فهذه هي وصفة النجاح، وايضا هذه هي وصفة راحة البال.

وخلفية المثل ان الاستاذ محمد بشير الفرجاني، الذي بدا حياته مدرسا في مدرسة الظهرة، مع ابناء جيله ومرحلته العمرية امثال الاديبين الكبيرين خليفة التليسي وعبد القادر ابو هروس،  في عقد الاربعينيات ومطلع الخمسينيات، كان استخدام الدراجة هو الشائع في ذلك الوقت، بل وكان يستخدم هذه الدراجة التي تجر صندوقا حتى وهو يبدا عمله في مكتبته ببيع المطبوعات التي يحضرها على هذه الدراجة من مطار طرابلس في قصر بن غشير.

فهو اذن نابع من حياته ومن استخدامه لهذه الوسيلة من وسائل المواصلات،  وجعل من هذا التعبير الدارج البسيط شعارا حقق به النجاح في عمله والطمانينة الروحية والنفسية التي تضمن له الابتعاد عن المشاكل والهموم، لانها مشاكل تاتي دائما من مراقبة الناس، وتاتي السلامة والنجاة بالنأي عن الدخول في مشاكلهم او الانشغال بها، وتركيز نظره في الهدف الذي يقصده وليس بالالتفات الى الخلف.

الوي فقط وانظر الى الامام، اذا اردت في الحياة امانا وسلاما ونجاحا، كما تقول حكمة الشيوخ التي كان يرددها  الناشر والمثقف والانسان العصامي ابن ليبيا الاصيل المرحوم محمد بشير الفرجاني عليه رضوان الله.

_____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

عاشق السندبادة

رامز رمضان النويصري

صخرة الماء.. ذاكرة مكان

محي الدين محجوب

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (14)

حواء القمودي

اترك تعليق