من أعمال التشكيلية الليبية .. خلود الزوي
قصة

الرقص أخيراً

هنا ليبيا

في إطار حدث “فيكان” بالشراكة بين “هنا ليبيا” وحركة “تنوير” في طرابلس، ننشر الأعمال الثلاثة الفائزة خلال هذه التظاهرة الثقافية. المساهمة الثالثة والأخيرة لـ ريم التمبكتي.

قامت وأخرجت ألبوم صور من خزانة في زاوية حجرة الاستقبال حيث جلسنا نشرب الشاي. بدا جديدا، لم تكن به سوى بضعة صور. بدأت عند آخرها: صورة من حفل خطبتها الأخير. ظهرت فيها مع رجلين. “كان الرقم ثلاثة” قالت مخرجة الصورة من جيب البلاستك. “دكتور من عيلة غنية. عريس لقطة يعني” ضحكت فابتسمت. ناولتني إياها. ظهرت فيها بفستان دون أكمام ذا لون زهري خفيف “هذا بابا” أشارت إلى الرجل عند يمينها “و هذا الرقم ثلاثة” وقف إلى يسارها. “كل منطلع من غير منقوله وعرف تعصب”. “طالعة كانك مش إنتي” قُلت لها. “ناعمة وأنثوية؟” ردت مبتسمة. لم أخبرها بأنها تبدو كذلك في الأسود أيضا. كانت على الأرجح تختبئ خلف السواد، أو هذا ما أعتقدت حينها. ناولتني صورة أخرى، لم يختلف فيها سوى أنها إرتدت فستانا ذا لون أحمر بورغندي هذه المرة ووقفت إلى جانب رجل غريب آخر. والدها أصغر سنا فيها من سابقتها. الشعيرات السوداء في رأسه أكثر عددا. البيت ذاته، الغرفة ذاتها. علّقت “رقم اثنين” ثم أخرجت أخرى لها معه جلسا فيها على أريكة جنبا إلى جنب. “من بين الثلاثة كان أكثر واحد استمريت معاه… كله على خاطر أمي، لكن في الآخير فسخت. مكانش مينفعش لكن زيه زي الاثنين التانين بالضبط”. ثم جاء دور الرقم واحد، ذات المشهد بإختلاف الفستان والغريب وعدد الشعيرات السوداء في رأس والدها. “الثلاثة مكانوش يبوا غير يسيطروا ويتحكموا بيا”، أخبرتني. أردت أن اسألها إن أحبت أيا منهم في وقت ما ولكن الخجل منعني.
كنت في السادسة عشر أما هي فقد تجاوزت الخامسة والعشرين بعام. إلتقينا بطلب من والدتها، جارتنا حينها. “وحلت معاها بنتي، معاش عرفت كيف ندير معاها” قالت يومها ناظرة في وجه أمي، متناولة فنجان القهوة من الصينية التي مددت. كانت قد انتهت من سرد حكاية ابنتها التي لم تكن قد أتمت الأسبوعين منذ وصولها هنا من طرابلس لزيارتها. ستحتاج لبعض الرفقة قالت. “تعالي هدرزي عليها يوم وإلا اطلعوا مع بعض كان متبوش الحوش”.
* * *
غطت أوراق الأشجار الذهبية المحمرة الأرصفة، ونسمات باردة بدأت في الهبوب. انتظرتها أمام بنايتهم لبضع دقائق. شعرها منسدل حتى منتصف ظهرها، وخصلاته الأمامية تغطي نصف وجهها الصغير، تطيرها النسمات لتعيدها وترتبها بأصابعها. كانت كثيرة الشبه بوالدتها، ذات البشرة السمراء والشعر الطويل القاتم. قصيرة القامة ونحيلة مثلها. لم ترتد سوى الأسود، وجهها مزيّن ببياض شديد وعينيها بسواد دراماتيكي صارخ وكأنها تعادل من حدة البياض. قررنا عدم الجلوس في مقهى والذهاب عوضا عن ذلك للتجول في الجراند بلاس والمنطقة المحيطة به. في الطريق أخبرتني عن شغفها بموسيقا الميتال التي أصبحت فيما بعد جزءا من لقاءاتنا، تشغلها كلما زرتها في شقتهم الصغيرة. حكت لي أيضا عن سبب عدم تخرجها إلى الآن؛ مادة الثقافة الإسلامية التي رسبت فيها مرتين سابقا. “لازم ننجح فيها العام هذا. آخر فرصة” قالت مبتسمة. “إن شاء الله حتنجحي وتفتكي” أجبتها. تحدثنا عن أخويها وصعوبة تصريف الأفعال الفرنسية مقارنة بتلك الإسبانية التي عَلِمتها. راقبنا الجالسين والواقفين في الحافلة وتحدثنا عن إختلاف الناس في أوروبا. “المفروض تجيني يوم في الحوش. حنوريك الصور” قالت متحدثة عن الصور التي أرتني لاحقا بروكسل خلفها تتوالى مبانيها، أشجارها وأعمدة أنوارها من النافذة.
لم يكن النهار قد انتصف بعد عندما مسحنا بأيدينا على تمثال حامي المدينة الذهبي علّ الأسطورة تتحقق ونعود إليها بعد الرحيل. لم تكن النسمات قد دفئت بشمس ذلك اليوم محاربة الغيوم لما زاحمنا الحشود لرؤية مانكين بيس نافورة الولد الصغير الذي وقف يتبول. “حسب الأسطورة هذا تمثال لتخليد ذكرى الولد اللي أنقذ بروكسل من الدمار” أخبرتها. “كان وقت حرب، وهو تبول على فتيل متفجرات حطها العدو فانطفت”. لم يكن النهار قد انتصف عندما أَخذتُها عبر الأزقة الضيقة شبه الخالية إلى النسخة المؤنثة؛ النسخة التي لا يعرفها كثيرون. جلست الفتاة في نهاية الزقاق خلف قضبان وضعت لحمايتها معسرة تأملها. زقاق مسدود يعبق برائحة الجعة البلجيكية التي تقدم في الحانة الصغيرة الوحيدة به. جلست جانيكيه بيس القرفصاء قرب آخره مياه النافورة من بين فخذيها تنساب، رأسها نحو السماء وكأن القروش القليلة التي رماها المتفرجون في الحوض تحت قدميها طلبا للحظ لا تعنيها. “عجبتني ابتسامتها وراسها المرفوع” قالت. “الولد ميضحكش، مش رافع راسه”.
* * *
دخل الشتاء واعتدنا التجوال في وسط المدينة سوية. كنا نمضي ساعات نمشي في أزقة لم أعرفها من قبل وأسواق صغيرة اختبأت في الطوابق السفلية للعمارات. دكاكين صغيرة تبيع ملابسا تشبه تلك التي كانت ترتديها هي دائما. أحذية ثقيلة، معاطف جلدية مزينة بمسامير، فساتينا وقمصانا سوداء برسوم بدت لي غريبة ومخيفة. “مسميينّي الساحرة الشريرة في الجامعة” أخبرتني مرة. “بسبب لبسي وكيف ندير فشعري”. أخرجت قميصا من بين القطع المعلقة. “أليس جميلا؟” سألتني وعرفت من نظرتها أنها لا تحتاج حقا إلى رأيي فاكتفيت بالابتسام. ممسكة بالقميص إنحسر قليلا كم معطفها عن رسغها الأيسر وبدا لي أثر جرح قديم. لما لاحظت إنكشافه أرجعت القميص، جذبت الكم إلى الأسفل وقررت أن نترك الدكان.
* * *
كان يوم ربيعيا بنسمات باردة عندما وَقَفَت خلف المغسل في مطبخهم الصغير غاسلة فنجانيّ الشاي اللذين شربناهما للتو وبعض الصحون. وحدنا من جديد. بدأت السماء في إرتداء ثوبها السرمدي القاتم، القمر هلال صغير باهت. “ممكن يصيرلي أو يصيرلك” أكملت حديثها. “اللي يخوف في الموضوع أنه من الصعب نعرف لغاية ليلة عرسي. شن ممكن يصير وقتها؟”. شاهدت حلقة من برنامج حواري الليلة السابقة أعادت إيقاظ مخاوفها، مخاوفنا. لم يقص لي أحد من قبل قصص كهذه. وقفتُ خلفها متكئة على الطاولة الصغيرة البيضاء. صوت الماء يجري من الصنبور، حركة يديها تغطي الرغوة إحداهما، وحاسوبها في الغرفة المجاورة يصدح صوته بالموسيقا.
All of that is ending now for I have arisen
Survived myself somehow, dead and imprisoned
I’m fighting to live if I am to see the day
I swear I’ll never sleep again
I am no man’s slave.
واضعة آخر صحن على رف تجفيف الصحون تابعت “مفهمتش يومها علاش انخلعت أمي!”. جففت كفيها والأظافر القصيرة السوداء. “علاش خافت من كم قطرة دم؟” أنزلت أكمامها، اختفى الجرح تحتها. لم تعد تحاول إخفائه أمامي. “مكنتش فاهمة وقتها. مفهمتش إلا بعدين”. استمرت جاذبة كرسيا نحوها، جلست عليه محدقة في الفراغ وبدأت تغني مع ما ظننته صراخا قادما من غرفة الجلوس.
There’s no salvation, it dwells in your bones
There’s no remission, this sickness it owns
Make love to deny my sober embrace
Nails they’ve embedded are never meant to release
“كان عمري حداش السنة. نادتني للحمام، كانت تصوبن، وبدت تسأل فيا أسئلة مفهمتش معناها وقتها. “طحتي؟ انجرحتي؟ شن اللي صار؟ منين جي الدم؟” كانت خايفة ومخلوعة.” صبت كأس ماء وارتشفت منه رشفة قبل أن تتابع، “ومازال مش فاهمة شن اللي صار يومها بالضبط”. رفعت الكأس إلى فمها ولم تعد لقصتها حتى أفرغته. “بعدها بشهرين يمكن، كان اليوم اللي حسبت روحي حنموت فيه وإني حننزف لين نموت. ولكن المرة هادي أمي منخلعتش زي المرة اللي قبله. بس قالتلي: “أنت توا وليتي مرا””.
* * *
كانت تمطر مع بدايات الصيف. وجدتها في حجرتها، حقيبة مفتوحة على السرير عند ركن الغرفة تحت النافذة. على الأرض صندوقان من الكرتون وأغراض أخرجت من الخزانة الصغيرة تنتظر الترتيب إستعدادا للرحيل. كعادتها ارتدت الأسود؛ قميص أسود قصير الأكمام. الندبة على رسغها الأيسر، والموسيقا تملأ الفراغ.
I grab my things and make my run
On the way out, another one
Would like to know before I stop
Did I make it or did I flop
Don’t want to find out
Just want to get out
“غضوة؟” سألت. “غضوة” أجابت وهي تطوي سروالا لتضعه في الحقيبة. تناولتُ زوج أحذية “نحطه في كيس؟” سألتها. “آه؟ ايه. ياريت كلهم” أشارت بذقنها إلى الأزواج الأخرى على الأرض. انشغلنا بالتوضيب وتشاركنا آخر فنجان شاي.
Icy roads beneath my feet,
Lead me through wastelands of deceit,
Rest your head now, don’t you cry,
Don’t ever ask the reason why
تلك الليلة رأيتها مجددا. كانت تجري هاربة من شيء ما. من أحد ما. جرحها القديم عاد إلى النزيف، وعلى ساقيها تجري دماء إلى الرصيف. مبتسمة، هاربة من رجل خالط الشيب سواد رأسه وخمس من الشباب. توقفت، توقفوا حاجز فصلها عنهم، ظهر من العدم. فتحت ذراعيها، ضحكت وبدأت في الرقص جرحها ينزف فتطير الدماء وتسيل أخرى عن الساقين النحيلتين إلى الأرض، تشربها. رقصت، دارت وضحكت. هم يراقبونها مشدوهين. عندما استيقظت كانت قد طارت بعيدا. وتمنيت أن يكون مارأيت في منامي حقيقة. تمنيت أن تكون قد استطاعت الرقص أخيرا.

مقالات ذات علاقة

مكانٌ لا تجوبه الكلاب.

محمد النعاس

مشاهد أخرى لمقتل جندي

المشرف العام

نزيهةُ البحر

محمد دربي

اترك تعليق