من أعمال التشكيلي بشير حمودة
قراءات

سيرة المدن

من أعمال التشكيلي بشير حمودة
من أعمال التشكيلي بشير حمودة

لكل مدينة طابعها الخاص وإيقاعها المتفرد ونماذجها الإنسانية التي تتميز بها عن غيرها، ولا تتشابه مدينة ومدينة في أي من هاتِهِ الخصائص حتى وإن بدا للملاحظ أنَ هنالك تشابُهاً وتِكراراً في بعض الخصائص، وقد تأتي الكِتابة عن نفس المدينة من عدة كُتَّاب مختلفة أيضاً، ذلك أنَ لِكُل كاتب وُجهة نظره وزاوية تناوله، هذا عِلاوةً على الأسلوب الذي يختلف من كاتب إلى آخر، ولا تكتمل سيرة مدينة في تقديري ما لم يتم تناولها من عدة زوايا وبِعِدة أقلام، ولا علاقة للسيرة التي نتحدث عنها بتاريخ المدينة، لا سيما السياسي مِنهُ وما تعاقب عليها من أقوام فتِلكَ حكاية أخرى، وفيما يمكن أن تشمل السيرة التاريخ السياسي للمدينة كشاهد أو كخلفية لحكايتها التي لا تتكرر، لا يهتم التاريخ إلا بما هو سياسي أو ما يحمل طابع الصراع على السلطة وفرض الهيمنة وللتاريخي قُراءه وللسيرَويّ قُراءه، سِوىَ أنَ الكِتابة الأدبية التي تتباين مع الكتابة التاريخية تُلامس روح وعصب المدينة وتغوص في تفاصيلها الدقيقة، بل تفاصيل التفاصيل لِتستجلي مخبوءاتها وتكتشف جمالياتها المختلفة وتوظف المجاز بِعكس الكِتابة التاريخية التي تتسم بالصرامة وتهتم بالعموميات ولا تستوقفها الجزئيات ولا تأتي شُخوص المدينة من خلالها إلا في إطار السياسي ولا تعترف بالمجاز إلا في حدوده الدُنيا وتميل إلى استخدام لُغة تقريرية كتلك التي تُستعمل عند الحديث عن الحقائق العلمية، وهيَ كِتابة – أي الكتابة التاريخية – مهمة بيد أنها قد لا تهُم إلا المتخصصين في التاريخ بِخِلاف الكتابة الأدبية التي بِمكنة الجميع قِراءتها والتفاعل معها، ويستوي في ذلك أهل المدينة أنفُسهم والزائرين لها ومن تستهويهم السياحة واستكشاف جغرافيات جديدة، إن لم يكُن ذلك في الواقع فلا بأس من أن يكون على الورق، وللخيال نصيب كبير في هَذِهِ القِراءة الاستكشافية، كون المكان المُستكشف والمقروء عنهُ غير حاضر في الواقع في الأغلب ولا يمكن النفاذ إليهِ إلا من خِلال كوة الخيال وكون الكتابة عن الماضي، وهُنا يتحتم على الكتابة أن تجتهد في تقديم الفائِدة والمتعة، المعلومة ولذة القِراءة.

لا يكتُب المُدن حق كتابتها مثل أبناءها، ولا أعرِف كاتباً كتب مدينته كما ينبغي كما فعل بعض الكُتاب المغارِبة حين كتبوا سيرتهم أو رواياتهم، فها هو ذا الروائي والسارد الكبير محمد زفزاف يكتب مدينة الصويرة وهي مدينة مغربية، كما لم يكتبها أحداً غيره في روايته “الثعلب الذي يظهر ويختفي”.

وكتب الشاعر المغربي محمد بنيس من جِهته مدينة فاس بِحُب وشغف كبيرين فجاءت الكتابة باذخة ومفعمة بالحنين وجميلة حين أسبغ عليها من شاعريته، وذلك ليس بغريب، فإن تُحِب مكان وتتناولهُ في إبداعاتك الأدبية يعني أن تُضفي عليه من جمال لُغتك وعُذوبة بلاغتك، بخِلاف الكتابة عن مكان لا يشُد الكاتب إليهِ بأية أواصر حقيقية، وتأتي مختلفة تماماً كتابة يضعها أديب عن مكانه الأول مكان الطفولة وتشكّل الوعي، حين تغدو هندسة المكان وبناءاته وأزِقته ونوافذ وأبواب بيوته وطِلاء جدران مِعماره وساحاته وحدائِقه ومقاهيه وحماماته العمومية وجوامعه ونماذجه الإنسانية المختلفة من باعة ودراويش ومجانين ومشائخ وحتى عاطِلين عن العمل وتعاقب الفصول عليه وعلى رأس كل هذا المزيج نِسائه وصباياه، تغدو هَذِهِ المكونات مادة خِصبة للكتابة ونبع إلهام لا ينضب لِمن أرادَ التصدي لِتسجيل سيرة مدينته أدبياً وتخليدها في نص أدبي يظل يقاوم الزمن ويمتد إلى ما شاء الله له.

وكتب محمد شكري سيرة مدينته طنجة بحب ووله، وتطرف في كتابتها من بين جميع من تناولها فلم يترك مظهراً من مظاهرها سواء كان حسناً أو بشِعاً جميلاً أو قبيحاً إلا وكتبه وصاغهُ كما هو بلغته البسيطة والعالية الحساسية فجاءت الكتابة مختلفة واستثنائية وهو في عمليهِ “الخبز الحافي” “والشُطّار” اللذين هما عبارة عن سيرة ذاتية روائية موسعة ركَّزَ على النماذج الإنسانية التي تجوس أزِقة وحواري مدينة طنجة الساحِلية، فقدم لنا صورة مختصرة لبعض الشخصيات بالإضافة إلى شخصيته بطبيعة الحال وبخلاف الكُتاب الآخرين الذين تميل أقلامهم إلى كتابة الوجه المُضيء للمدن، كتب شكري بالإضافة إلى ذلك الوجه المُظلم لمدينته وتناول ما لم يجرؤ على تناوله غيره من الكتاب، تناول العالم السُفلي للمدينة وما يختفي وراء الواجهات المصقولة في الأزقة المعتمة والبيوت الضيقة بأسقُفها الواطِئة، كتب المسكوت عنهُ كتب الجوع والحاجة المُذلة كتب كل شيء بما في ذلك الأمل الذي تمثل في إصراره على التعلم وهو في عمر لا يؤهلهُ لذلك إذ تعلم شكري الذي بدأ الكتابة في سن متأخِرة، تعلم القِراءة والكتابة ومحى أُميته في سن العشرين حين امتلك إرادة وإصرار كانا كافيين لينتقلا بِهِ من طبقة الأميين إلى طبقة المتعلمين الذي تفوَّقَ عليهم فيما بعد بقدرته على إبداع نصوص أدبية جعلت منه أديباً مرموقاً ليس عل مستوي مدينته أو بلده فحسب بل على مستوى العالم أجمع، والمحزن في الأمر أن الأجيال الطالعة في مدينة طنجة لا تعرف شكري الذي أفنى حياته للتعريف بها وتصديرها للوجدان العالمي وتقديمها كمدينة تعايشت فيها كل الأديان والقوميات بسلام، إذ هذا ما كشفَ عنهُ تحقيق مُصور بثتهُ إحدى القنوات المغربية مؤخراَ.

وعلى كثرة الكُتاب المصريين الذين عاشوا في القاهرة وكتبوا فيها وعنها لم يكتبها كاتب كما كتبها نجيب محفوظ وخلَّدَ حواريها وأزِقتها وساحاتها وأحياءها وأُناسها في رواياته العديدة، حتى أنَها اقترنت بأدب محفوظ ويستطيع القارئ لرواياته اليوم أن يعرف الكثير عن القاهرة وعالمها الداخلي فقط من روايات محفوظ، وهو الشيء الذي لا تُقدمه كتب التاريخ، وهذا تماماَ ما فعله جمال الغيطاني الروائي الراحل مؤخراَ أو العاشق للقاهرة تاريخاً ومعماراً وبشراً في رواياته العديدة التي كانت فيها القاهرة حاضِرة بقوة كمكان وكأسلوب حياة.

واهتم الأدباء الليبيون لا سيما من عاشوا بإحدى المدن الكبرى مثل طرابلس وبنغازي أهتموا بكتابة سير مدنهم كلٌ حسب رؤيته لها سواء بشكل مباشر أو عن طريق استحضارها في أعماله الأدبية من شعر وقصة ورواية والأحتفاء بها كمكان أثير.

وسنحصل على سيرة ذاتية مختلفة لمدينة طرابلس لو قرأنا على سبيل المثال لا الحصر بعض أعمال الراحلون خليفة حسين مصطفى الروائي الكبير وكذلك أعمال كامل المقهور القصصية وبعض أشعار على صدقي عبد القادر وأخيراً وليس آخِراً بعض مؤلفات الروائي والباحث والكاتب الصادق النيهوم فيما يخص مدينة بنغازي الذي ولد بها وترعرع فيها قبل أن تأخذه منها مدناً أُخرى في الشرق والغرب ليعود إليها في نهاية الأمر ويرقد رقدته الأخيرة في ترابها.

_____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

قراءة في مذكرات “عدوس السرى” للاديب إبراهيم الكوني

المشرف العام

في ليبيا… الشعر يواجه الحرب

سالم أبوظهير

غربة الشاعر

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق