حوارات

في حوار مع المحامي عبد الله شرف الدين 2-2

سيرة المحامي عبد الله شرف الدين نقيب المحامين (الاسبق 1968)

منذ ميلاده 1924م حتى الساعة (2-2)

الجزء الأول

حاورته: فاطمة غندور

المحامي عبدالله شرف الدين والباحثة فاطمة غندور عن موقع ليبيا المستقبل
المحامي عبدالله شرف الدين والباحثة فاطمة غندور
عن موقع ليبيا المستقبل

“في حرب السويس 1956م ذهبت الى السفارة المصرية وقابلتُ الملحق العسكري السيد اسماعيل فهمي”

أتذكر تحمسي القومي والوطني ففي حرب السويس 1956م ذهبت الى السفارة المصرية وقابلت الملحق العسكري السيد اسماعيل فهمي وكنت قد تخرجت ورجعت لطرابلس وجرى تعيني بالقسم القنصلي بوزارة الخارجية، وكان لدي بعض الاصدقاء ذهبوا معي وقد عرضنا اننا نريد المساعدة قدر جهدنا في دعم تلك الحرب، وحدد معنا موعدا ليسلمنا ذخيرة واسلحة كان لدي صديق اسمه محمد نجاح يملك سيارة صغيرة أخذنا الى منطقة سيدي المصري ودخلنا مزرعة وفيها منحنا اربعة صناديق: صندوق به قنابل يدوية، وصندوق به اربع رشاشات وصندوق به ذخيرة الرشاشات، وصندوق اخر به مادة متفجرة (قرقينايت) وعلمنا كيف نعدها للتفجير والتحوطات التي يجب علينا اخذها، كان لدينا صديق يسكن في ضواحي طرابلس ويملك (براكه) طلبنا منه ان نحفر حفرة بها وردمنا محتويات تلك الصناديق بعد ان أخذنا منها ما ننفذ به مهمتنا الاولى، وتوزعنا في تنفيذ خطة عملنا الفدائي فجرنا عند نادي الضباط الانجليز بالودان نفذ تلك المهمة الحاج الهاشمي بوخلال، واعطيت قنبلة يدوية لشخص اخر ضرب بها مخازن البترول (كانت ناحية فشلوم)، ثم صغتُ منشورا أهبت فيه بالضباط والجيش بالتحرك ضد البريطانين الموجودين على ارضنا، وكان ان كشفوا عن ذلك المنشور عند شخص طلبت منه ان يذهب به الى الشيخ محمود صبحي وللسيد الزقلعي، وفيه تحريض واضح للقيام بقيادة مظاهرات ضد البريطانيين، ألقى البريطانيون القبض على ذلك الشخص وحققوا معه وقررت عندها أن أختفي واخفي البضاعة الحربية التي لدي بردمها في مكان بعيد عن انظارهم، كنت قد اختبئت عند جارنا السيد أحمد الذويبي، زملائي محمد نجاح، والصيد، تم ألقاء القبض عليهما.

“اعتقلوني وربطوا يدي ورجلي بمقابضهم الحديدية وبقيت ليومين ثم وضعوني فيما يشبه الكيس الكبير”

كان أخي قد ساعدني للهروب مُتخفيا خارج طرابلس مع عربات للخضار كانت ترسل الى بنغازي، اتذكر انني ارتديت (قامجو) وتنكرت مُغيرا ملامح وجهي وأخذت وجهتي الى بنغازي استقبلني هناك من ساعدوني للهروب الى درنه ومنها أستوصوا بي عند جماعة خرجت بمعيتهم الى الحدود المصرية وكان الاتفاق أن انزل قبل الحدود بحوالي خمسة كيلومترات لأجد شخصا في ما يشبه (البراكه) يتكفل بنقلي الى أقرب نقطة ادخل فيها مصر، الغريب اننا وصلنا الى البراكه ووجدناها مقفلة ولم نجد الشخص فانتباتني والسائق الذي استوصوه بي الحيرة والارتباك فأنا هارب ومطلوب للعدالة، هل انتظر يوم او يومين حتى يحضر من يقلني الى الحدود؟ وكان برفقتنا مع السائق رجل عجوز وقال لي: “لا مفر من ان تقطع  لوحدك ياولد لا تنتظر هنا والدوريات تتحرك وتمر هنا من حين لأخر وقد يتم كشفك وألقاء القبض عليك، انصحك أن تتوكل على الله وتذهب راجلا دع الشمس خلف ظهرك وعندما تغرب الشمس ستكون قد اجتزت (الشبردق)”، أخذت بنصحيته وترجلت مشيا في منطقة خالية وكانت أوضاع حرب وطواريء، ظللت امشي، فات المغرب وفات العشاء الى الفجر وانا أمشي على غير هدى غريب لوحدي ولا أنس، منتظرا البحر ليطلع علي فأعرف طريقي، مع بصيص نور الصباح وكنت متعبا من المشي لم ادري إلا وبندقية مصوبة الى ظهري شطح بي خيالي وقلت يبدو أني وصلت وهؤلاء حراس الحدود المصرية وقد وجدوني ففرحت، لكن ظني خاب واذا بها دورية ليبية ألقوا القبض على وذهبوا بي الى مكتبهم وسلموني للضابط المسؤل وبمجرد أن قدمت معلومات عني صاح الضابط اسمك موجود لدينا وأنت مطلوب القبض عليه، اعتقلوني وربطوا يدي ورجلي بمقابضهم الحديدية وبقيت ليومين ثم وضعوني فيما يشبه الكيس الكبير ونقلوني بسيارتهم الى بنغازي ووضعوني في مركزهم بها، وكان الضباط الليبين كريمين معي وقتها ينادونني يابطل أنت عظيم انت شجاع وو..، وانا معتقل لديهم فرحين بما فعلته في الانكليز بطرابلس وهي تُهمتي، ثم جرى أعادتي الى طرابلس في مركز المباحث (كان جنب الودان) وقد التقيت بزملائي في السجن (نجاح والصيد) اتذكر كان حظنا مع قاضي تمكن من اصدار حكم بالافراج عنا إلا أن السلطات البريطانية رفضت تنفيذ ذلك الحكم وتم نفينا كعقوبة الى (مزدة) بقينا بها لأكثر من سنة، مازلت اتذكر الغرفة التي كنا بها حتى انني عندما نزلت طرابلس مؤخرا طلبت من صديق نقلي الى مزدة لأرى ذات المكان غرفة في قصر تركي قديم ما يشبه القلعة المغلقة، والحقيقة ان تلك العقوبة كانت تمنح لنا فيها سبعة جنيهات في اليوم نتدبر لوازمنا بها ويحيط بنا العساكر والجنود، وكان الضابط مفتاح فكيني كريما معنا حتى انه كان يخرج للصيد ويقتسم معنا ما يصطاده غزال او طيور…، طبعا كانوا كل شهر أو شهرين يحضروننا الى المحكمة، وكان القضاة المصريون متعاطفين معنا وإن أخفوا ذلك كونها تلامس القضية المصرية، الى ان جاءنا القاضي الليبي كامل الهوني وكنت على علاقة ومعرفة به، هو من أصدر قرارا بالافراج عنا كمتهمين حيث لا لزوم للدعوة، القصة كانت طويلة بين شد وجذب ولكن أتمنى أبناءنا شباب اليوم أن يكونوا على معرفة واطلاع واستفادة ايضا من ذلك كنا كجيل لم نضع نصب اعيننا مناصب أو استرزاق أو الحصول على المال ذلك كله لا شيء امام دورنا في صنع وطننا والعمل عليه ومن اجله من اجل ذلك دونت سيرتي ليرى الشباب اليوم كفاحنا وصبرنا وعزائمنا لا أبحث اليوم عن شهرة لي او لزملائي ولكن لنقول ان الحياة لتنجح فيها عليك ان تصبر وتتعب وتناضل وأن تعمل لأجل ذلك.

“كنت عضوا في المجلس التشريعي في الفترة من اواخر 1957 الى اواخر 1961”

جرى الالحاح من شباب شارعي بزاوية الدهماني بالدخول في الانتخابات مع موعد انتخابات المجلس التشريعي اواخر 1957 كانوا متحمسين لنشاطي السياسي وتعاطفوا مع اعتقالي لأكثر من مرة، وكان من حظي ايضا ان الاستاذ الطاهر باكير كان واليا لطرابلس وقد قدرني كشاب مترشح متخرج من جامعة وله سمعة وطنية جيدة وكذلك فعل الاستاذ نجم الدين فرحات الذي بعث لي برسالة شفوية مع الاستاذ علي الديب تطمينا ودعما، كان صندوق الانتخابات خاصتي لونه أصفر وكان الناس يصيحون في منطقتنا الاصفر الاصفر.. كنت قد انتخبت من الناس واتذكر انه كان بيني وبين من جاء تاليا لي حوالي الف صوت، حظيت باحترام وتقدير وتشجيع من الناس، كنت اخطب عن أوضاعنا تحت الانكليز في الجوامع في منطقتي بزاوية الدهماني وفشلوم والظهره. وبمجرد ظهور النتائج خرجت الناس تصيح فرحة والتئموا مع شباب المناطق القريبة فرحين بفوز مرشحيهم زاوية الدهماني مع باب بحر، واتذكر ان الاستاذ علي الديب فاز عن الزاوية، كنت عضوا في المجلس التشريعي في الفترة من اواخر 1957 الى اواخر 1961، واتذكر واحدة من أهم القضايا تم فيها محاولة استجواب الحكومة من المجلس التشريعي تعلقت بدخول عناصر مشبوهة الى قاعدة هويلس ( مطار الملاحة ) وقد طالبنا بوجود بوابة ليبية تسبق البوابة الامريكية وجرى حوار مطول في ذلك بيني وبين رئيس المجلس التنفيذي الاستاذ نجم الدين فرحات رئيس المجلس التنفيذي.

شق الطريق الى المحاماة… مُنتخبا بجدارة كنقيب للمحامين

قررت الاتجاه للعمل بالمحاماة وقد جرى قبول استقالتي من وظيفتي، وقد علقوا اني غارق في نشاطي السياسي وأن الوظائف في الخارجية شديدة الحساسية، والحقيقة ان استاذي فؤاد الكعبازي عرض علي العمل في ادارة الاعلام وكان مديرها وبمرتب أفضل من مرتبي بالخارجية ولكني اعتذرت وشكرته واتجهت الى نظارة العدل طلبا لرخصة العمل، يومها كنت الخريج الوحيد لكلية الحقوق من طلب العمل في مكتب للمحاماة، وقد ساعدني السيد عمران العزابي زميل الثانوية في العمل بالقسم القانوني بشركة أسو، واستلمت قضايا الشركة ووفقني الله فيها، ومنها جرى تخصيص مكتب مستقل لي اتواصل من خلاله مع رئيس القسم، وكنت قد عرضت في احدى الاجتماعات مع موظفي شركات بترولية بتكوين نقابة البترول وقد صغت مشروع القانون لتلك النقابة، أما عن مكتبي الخاص للمحاماة فقد استأجرت عام 1957 بشارع عمر المختار مكتب من حجرة قسمت بحاجز خشبي الى حجرتين، واتذكر العون والتوجيه الذي تلقيته من الاستاذ الايطالي فاوستو فرارا ومن الاستاذ علي الديب وشريكه المحامي المصري احمد عثمان، الاستاذ علي الديب من طلب مني مرافقته لحضور اجتماع المكتب الدائم لاتحاد المحامين بدمشق ومن ذلك التقيت بعمالقة المحاماة في الوطن العربي.

بالنسبة لنقابة المحامين دخلتها كعضو محامي، وقتها عُرفت كمحامي لي تاريخي من سجن واعتقال وايقاف جريدة وو، فألحوا علي بأن اتقدم كمترشح لنقابة المحامين فتقدمت وانتخبوني والحقيقة نجحت نجاحا ساحقا، كان معنا وكيل وزراة العدل الاستاذ رمضان تربح واعلمناه ببحثنا عن مقر للنقابة فمنحنا مقرا خاصا دور كامل، شقة بالدور الثالث عمارة محمد ساسي امام فندق البحر المتوسط (بلا دفع ايجار) بل وقام بتاثيت الشقة كاملة (مازالت ابنته الكريمة تتصل وتسأل عني)، كان الاستاذ عبدالله الجنزوري سكرتيرا للنقابة، وكان من اهم انجازات النقابة مجلة المحامي التي كانت تصدر كل ثلاثة أشهر (اول عدد يناير 1976). واجهنا ظروف وملابسات تسبب فيها نظام القذافي ومنها عندما أعلن جلود إلغاء نقابة المحامين ! وكنا وقفنا ضد ذلك القرار حتى اننا بعثنا رسائل الى منظمات دولية نشجب ذلك القرار وبالفعل تمت الاستجابة الى تلك الضغوط اواخر عام 1971م (جرى اعادتها بعد سنتين من حل النقابة) وقد ساد تصميم من المحامين بأعادة انتخاب نفس المجموعة التي تم حلها فجأة، بما فيهم النقيب رغم انه جرى الضغط من القيادة لانتخاب نقيب جديد وقد جرى الدفع به من قبل الاستاذ المحامي كامل المقهور لكن المحامي المقترح (عثمان البزنطي) ابدى اعتذراه الشديد عن تولي المنصب كما رفض الكثير من المحامين هذا التدخل ولو اغضب ذلك السلطة القائمة، والحقيقة ان السيد كامل المقهور عرفته جيدا و نحن زملاء مهنة واحدة وكنت معجبا باداءه كمحامي كان عامر الدغيس يضع صورته في مكتبه، كان كامل مُعتدا بنفسه (عنده حالة غيرة من نفسه من الجميع) انتقل الى الوزارة، لكن مع الاسف الشديد كان كامل موظف كبير في وزارة  العدل ولم يقف مع رأينا بل جاء للمحامين ليقنعهم بغير ذلك، وقد أخذه العمل السياسي.

“استقر في ذهني ضرورة الانتماء الى احدى الحركات القومية”…

كنت قومي الاتجاه وكقاريء مُطلع كنت قد راجعت ادبيات حزب البعث: دستوره، مبادئه اسلوبه الديمقراطي، وكذلك دراسات صلاح بيطار وميشيل عفلق، كان الاستاذ منصور الكيخيا يردد باستمرار اللهم انصر هذا الاتجاه بأحد هذين الرجلين أو كليهما عبدالله شرف الدين ومحمد حمي، وقد استقر في ذهني ضرورة الانتماء الى احدى الحركات القومية، وقابلت السيد عامر الدغيس واقسمت اليمين المقرر، يومها كان الحزب مازال في دائرة التأسيس ومحدود النشاط .فيما بعد نشطتُ في حزب البعث وكانت لدينا كحزب نشاطات ومواقف، عقدنا اجتماعات بعضها كان في بيتي بالمزرعة كنا حوالي سبعين عضو من كل البلاد برقة فزان طرابلس، ولكن السلطات وقتها كانت تمنع تكوين الاحزاب وتعاقب اي نشاط حزبي، وكنا وقتها نوزع مناشير تحرض على طرد القواعد الاجنبية وقد جرى رصد تلك المناشير والبحث عن اصحابها وتم اعتقال معظم افراد الحزب وصادف ان كنت استقبل اول مولود لي وزوجتي بالقاهرة 1961م، ووصلتني تلك الاخبار المزعجة وكوني مطلوب للعدالة أيضا، فقررت الرجوع الى الوطن لمشاركة زملائي محنتهم بعد نصيحة من زملاء بالعودة، كان لدينا مجموعة اصدقاء من دول عربية محامين فكنت سألتهم عن وضعي وانا من اعتقل اصدقاء لي بما كنت اشاركهم فيه فقالوا لي لو صدرت احكام ضدهم اقل من الاعدام ننصحك بالعودة وتسليم نفسك وحاول الحصول على التحقيقات ورد النيابة عنها، وبالفعل طلبت من اصدقاء لي بطرابلس قريبين من القضية بارسال نسخة من تلك التحقيقات وردود النيابة ووصلتني فقمت بمنحها لمحامي صديق له خبرة وباع طويل للرد عليها كان اسمه (الكزبري من رجال القانون المشهورين في العالم العربي) كتب حوالي ثلاثين صفحة دفاعا عن مجموعتنا، ارسلت تلك المذكرة الى ليبيا، وكانت قد صدرت احكام بين سبع سنوات وثلاث واثنين، وقررت العودة رفقة زوجتي وابني وجرى اعتقالي فور نزولي بالمطار.

كأعضاء حزب اتذكر لقاءنا مع رئيس العراق صدام حسين في بيت عامر الدغيس وكان حديثه صريحا معنا ودعانا الى الانتباه الى انفسنا بل دعانا الى ان نتسلح حفاظا ودفاعا عن حياتنا وبث لنا ان معمر القذافي سيتقصدكم وقد قرر أيقافكم وتهديدكم وبالفعل كان القذافي قد خطط وفعل ذلك باغتيالات متلاحقة .وقد عرفت صدام حسين قبل ان يكون رئيسا للعراق وكنت من القلة القليلة إن لم اكن اول ليبي قابله كان يعتبرني صديقاً له عندما كان رجل القانون وليس العسكري!، واتصور ان صدام حسين جرى توريطه في الحرب واعتقد ان عمل اعلامي جرى ترويجه ضده منذ قولته بشن حرب وتفجير اسرائيل، صدام عمل في العراق وانجز الكثير يكفي انه وحد اراضيها، حتى علاقته بالاكراد هو من جمعهم بأكراد ايران  بعد حصول خلافات بينهم زمن حكم الشاه في لقاء ساعدت فيه حكومة الجزائر ايام هواري بومدين، ولكنهم تأمروا عليه فيما بعد، صدام من دعا في احدى اجتماعات الدول العربية دول النفط الاغنياء لمساعدة الدول الفقيرة النامية، كانت غلطته الكبيرة في الكويت.

اتذكر صديقي واخويا محمد حمي كنا من القيادات عامر الدغيس ومحمد حمي ومحمد هلال وانا، كان سعدون حمادي رئيس الحكومة العراقية عضوا معنا حيث كان يعمل في طرابلس وقتها، وهو من أقترح ذات مرة – وقد اجتمع بست او سبع من اعضاء الحزب وكنت منهم – ان اترأس التنظيم عوضا عن صديقي عامر والى الان انا لا اعرف سبب اقتراحه ذاك، ولم أجاري ذلك الاقتراح فلم يكن وقته، واتذكر جملته طالبا من الدغيس ان يأخذ خطوة الى الوراء ويترك عبدالله يتقدم الحزب!

“قال لي عبد الحميد البكوش لماذا لا تُصدر جريدة؟”

كنت ازاول عملي بالمحاماة وكان عبد الحميد البكوش صاحب اقتراح جريدة الايام، والحقيقة هو من فكر واقترح علي إصدار الجريدة وكان يناديني (يا عُبد) عبد الحميد البكوش صديقي المقرب جدا حتى وفاته كنا على اتصال شبه يومي صداقتنا عميقة هو من احضر لي رخصة جريدة الايام (كان وزيرا للعدل ثم اصبح رئيسا للوزراء لسنة ونصف) تمنيت انه استمر في الحكومة كان حاملا لخطط دولة مؤسسات وتغيير لكثير من الاوضاع الليبية العالقة، اتذكر انه حكى لي ذات مرة عن فكرة بباله يتمنى تنفيذها بأن يستجلب عشرة ألاف فتاة من اروبا يتزوجهن الليبيون لنبث روح جديدة في النسل الليبي نحن بحاجة إليها.

وعود الى قصة الايام، وقتها كنت اكتب في جريدة الميدان جريدة اليساريين للسيد فاضل المسعودي، جائني البكوش وقد كان وزير للعدل وقال لي لماذا لا تصدر جريدة؟ قلت له من سيسمح لي بذلك وتاريخي فيه سجن وصوت اطلق به أرائي عاليا!، فرد علي لا علاقة لك بالأجراءات فقط قدم طلبا بذلك، وفعلا قدمت الطلب لأدارة المطبوعات ووافقت على منحي الترخيص، طبعا صودرت الجريدة بعد صدورها واوقفت لثلاث مرات وتم استدعائي الى المحكمة وبعد أخذ ورد وتقديم دفاعي يصدرون حكما لصالحنا باستمرار صدور الجريدة (على عكس مع حصل فيما بعد مع حكم العساكر وانقلابهم في ليبيا)، أتذكر ان زملائي كانوا يرفضون الملك حتى انهم لا يضعون صورته ولا يكتبون عنه ! كان فيها نوع من التجاهل له، طبعا كنا ننتقد ما يجري ونُثني على ما يتم انجازه لصالح الشعب اتذكر عندما سجل رئيس الوزراء المنتصر مواقف جيدة أشدنا بها وكتبنا عن ادائه الرائع في حينه، في احدى المرات وكان السيد المنتصر في مدينة البيضاء فطلبني للحضور ومقابلته حجزوا لي رحلة وركبت الطائرة وجلست معه فقال لي: شنو ياولدي جريدتكم! زودتوها واحنا نحاموا عليكم في الديوان الملكي في كل مرة ؟ خففوا شوية وكلم الصحفيين متاعكم، قلت له سعادة رئيس الحكومة انا معك ولكن حياتنا التي يعيشها المواطن فيه الايجابي وفيها السلبي ودور الصحافة أن تكتب عن الشيئين نقول ما لكم وما عليكم . بالنسبة لتمويلها طبعا كنت وقتها محاميا ووضعي جيد فدعمتها بمالي الخاص، اتذكر في احدى المرات اوقفوا طبعها ولم تكن يومها ألا المطبعة الحكومية، فوجدت ان هناك مطابع خاصة ففكرت ان اطبع بها رغم امكانياتها البسيطة لكنهم رفضوا ايضا وبدا لي وكأنه موقف من جريدتي فكتبت اعلان في جريدة الميدان من اننا ممنعون من الطباعة لذلك سنطبع على الستنسل وكان فحوى الاعلان به بعض التهديد والمعارضة لفعلهم تجاه جريدة الايام واتصور منها توقفت بعد ان تم استدعائي حول ما كتبت ..مازالت أعداد منها لدي بطرابلس وقد احتفظ المرحوم عامر الدغيس بأعداد منها ايضا، وكنت قد طلبت من شقيقه فؤاد ان ينسخ لي بعض تلك النسخ وقد قام بذلك وأرسلها لي. أتذكر من ذكريات و(قصة الايام) صحفي معانا كان اسمه يوسف هامان وقد أكون وقتها مثله فيما يفعل!، كان يعتبر نفسه اكبر كاتب في الدنيا ويشترط وضع مقالته في الصفحة الأولى، كنا مجموعة من ستة صحفيين كتاب نسايره ونعده بذلك لكننا لا نفعل يومها كنت أقول ربما انا نفسي عامل مثل يوسف هامان معتدين بأنفسنا زيادة (يضحك).

تاسيس المنظمة الدولية لمناهضة العنصرية وقد كنتُ رئيسا لها

قابلت القذافي عدة مرات وحاول معي كثيرا منذ السبعينيات لأتولى وزارة أو إدارة الاعلام، في بداياته كان استقطابيا لبعض من الرموز الوطنية، هو من سمح لنا بتاسيس المنظمة الدولية لمناهضة العنصرية وكنت رئيسا لها 1976م، اتذكر انه جاءنا في اجتماعنا بنقابة المحامين وقلنا اراءنا اتذكر تكلمت وتكلم مصطفى الشيباني من اليسار، وابراهيم الغويل من التيار الاسلامي وبعضهم هاجم معمر بشكل مباشر اتذكر شجاعة السيد عبد الله بانون قال له لسنا بأقل من تلك المرأة التي واجهت عمر بن الخطاب وانت لست أعظم من بن الخطاب، وأخرين صرحوا بأرائهم في مواجهته وما يفعل، استمر اللقاء ساعتين تقريبا، ثم تكلم ختاما القذافي قائلا :انا دخلت المكان حاملا وجهة نظر وها انا اخرج منه بوجهة نظر أخرى، واتذكر اننا وثقنا وسجلنا ذلك اللقاء بكامله فطلبه احد ضباطه للاحتفاظ بنسخة منه، وقد طالبنا بإرجاعه، لم يتم إرجاع ذلك التسجيل الوحيد !،كنت قبلها قد اقترحت على صديقنا محمد الجدي وكان وزيرا للعدل أن ينقل للقذافي رغبتنا عندما يحضر للنقابة أن لا يُحضر الصحافة والاعلام رغبت في ان يكون اللقاء حرا ولا يتم وضع ضوابط لنا معه، بالنسبة للمنظمة الدولية لمناهضة العنصرية والتي مختصرها اسما (ايفورد) والتي انطلقت من طرابلس ثم توالت اجتماعاتها في ليبيا وامريكا وكندا وسويسرا والعراق وكانت لها فروع فيها وايضا في بريطانيا وسيريلانكا ونيجيريا وقد اعطيت الصفة الاستشارية بالامم المتحدة كما اعطيت شهادة تقدير بتوقيع أمين عام الامم المتحدة باعتبارها رسول سلام وقد نشرنا حتى نهاية 2003  (51) كتاب وكتيب،ونشرات اخبارية.

“غادرت البلاد في غربة امتدت 28 عاما اتنقل فيها من بلد الى اخر”

في اوائل سنة 1980 زرتُ الاستاذ عامر الدغيس في مزرعته بطريق السواني وقد صارحني  بطلب (خليفة حنيش) منه ان يكون جاسوسا للنظام على العراق، وكان رده الشجاع ان ذلك ليس من شيمه واخلاقه فما كان مني الا ان نصحته بمغادرة البلاد وقد ثبت ان الفوضى والتردي وشراء الذمم هو شعار هذا النظام الفاسد وكان رد السيد عامر بعدم ترك الوطن للغوغاء ليعيثوا فيه فسادا وعندما ضغطت واكدت ان لا حل مع هؤلاء وان الامور ستتعقد جراء رفضه، وعدني بأنه حال انتهاء السنة الدراسية للأولاد فأنه سيغادر، وقد تم الاتفاق على ذلك، وكان ان تم اعتقاله وارسلوا رجلي امن يطلبان من زوجته بعض الملابس واعتقدنا ان لا خطورة في الموضوع، لكننا كنا قد اجتمعنا الاساتذة: علي ابو زقية  وابراهيم الغويل ومصطفى العالم من اجل البحث عن حل ومحاولات اجراء الاتصالات في كل الاتجاهات، وفي صبيحة الايام التالية اتصل بي الاستاذ عبد الرحمن الجنزوري وبرجاء ان انتظره ليبلغني امرا هاما اتذكر انه قابلني (امام مكتب بشارع القاهرة) وقد صاح في الشارع: قتلوه قتلوه، عقبها طالني التهديد بالقتل من نظام القذافي، و كنت ثاني يوم من مقتل عامر الدغيس (فبراير 1980) قد هربت بنصيحة مخلصة من الاستاذ عبد الرحمن الجنزوري وغادرت البلاد في غربة امتدت 28 عاما اتنقل فيها من بلد الى اخر، ساعة مغادرتي عام 1980 كانت بمساعدة ضابط كبير بعد نصيحة من كثير من الاصدقاء بضرورة المغادرة، وقد اغتالوا بعد أقل من اسبوع واحد محمد حمي صديقي، علما بأنه تم ايقافي بالمطار فقام الضابط (الغزالي) بإنقاذي من تلك اللحظة التي قرر فيها الامن ابقائي في البلاد، كان انتشر خبر قتل عامر الدغيس والتخلص منه وسط ردود افعال مستهجنة وغاضبة تم التعبير عنها في جنازته المشهودة، كانت الحجة ان هناك رسالة تأمر بتوقيفي ومنعي من السفر منذ فترة لكن الضابط (الغزالي) الذي ساعدني سأل الامن عن مدى استمرار صلاحية ذلك المنع خاصة وأن جواز سفري كانت فيه اختام مغادرة وسفر لي سابقا، فقال لهم اذن هذا المنع لم يعد ساريا دعوه يسافر، وفعلا جملته وتبريره ما فك اسري منهم وسافرت مباشرة وكنت وقتها محامي شركة (بريتش كالدونيا) وكانت سيدة هي مضيفة ارضية فيها تحترمني وتقدرني وقد ساعدتني بكرم كبير حين فاتتني رحلتي المقصودة، قامت بالاسراع بأخذ اجراء يمكني من صعود طائرة ألمانية ونزلت في المانيا وهناك وجدت حجزي الى بريطانيا، ومنها رغبت في الذهاب الى امريكا لكن تأشيرتي تنتهي صلاحيتها بعد اربعة ايام !.

“رجعت ابنتي بعد مشاهدة بيتنا وهي تبكي، كان بيتا جميلا وضعت به كل ما أُحب”

نزلت لليبيا في 2009 أول مرة، وقد اتصل بي اصدقاء وقالوا لي ارجع ليس هناك اي شيء ضدك فترتها كان هناك ترويج لعفو من اجل التوريث لابن القذافي وصل الامر حتى كتابة تقرير السماح برجوعي في شكل مذكرات قدموها هم بمكتب سيف من اني كنت مناضلا ولي مواقفي وكلمتي، بل وعملوا تكليف بترجيع املاكي وعائلتي ولم يحصل شيء من ذلك والتي جزء كبير منها تقاسمها ضباط بعد سنة من مغادرتي المبكرة، واستولوا علي هكتارات كثيرة لي إحداها بيتي الخاص وصل الامر بي اني قلت لبعضهم لكم 10% ان ارجعتم لي حقي واملاكي واتذكر اني أخذت ابنتي الدكتورة حنان لزيارة بيتنا وقد صار ملكا لاحدهم واستاذنت الحارس في ذلك رجعت ابنتي بعد مشاهدة بيتنا وهي تبكي كان بيتا جميلا وضعت به كل ما أُحب، وكانوا فكروا في فتح صفحة جديدة مع المعارضين ومن نفوا خارج البلاد ولكنهم لم ينجزوا كثيرا من وعودهم التي فيها حقوقنا كمواطنين ليبين قبل ان نكون معارضين، وقد عشت ما يقارب الثلاثين سنة خارج البلاد، كان هناك من يسلم علي بحرارة ويحتضنني وهو على معرفة كبيرة بي ولكنني للاسف نسيت وضاعت من ذاكرتي اشياء كثيرة نتيجة الاغتراب الطويل بريطانيا امريكا العراق مصر.

“رسالتي لليبين في هذا الوقت ما كتبته هذه السنة، مُقترحاتي لبناء سياسي دستوري لليبيا”

حقيقة الامور انفلتت لم نجد لنا مكان، تم محو الناس الذين يمتلكون حضورهم الوطني العقلاء القياديين من لهم ارائهم في تنظيم الناس، سأدعو بأن ينير الله طريق هذه الامة، بعيدا عن السلطة المطلقة فهي مفسدة مطلقة ما كتبته في اصداري الاخير، بعد الخروج من الحكم العثماني كانت هناك محاولات للنهوض في مصر في ليبيا وغيرها، هناك عيوب ولكن كانت هناك أمال، علينا ان نهتم بالتعليم ولنجعل اساسنا الاول: الصدق هو النجاة حينها لن يعمر الفساد، انبهرت بقيم شعوب عشت بينها، ففي امريكا مثلا عشت خمس سنوات يغفرون لك كل شيء الا لو كذبت فيعني انك خنت نفسك وأُمتك.

المنطقة كلها ضُربت، الانظمة الديكتاتورية دمرت الاساس الانساني، الاخلاق، القيم، التعليم…، نحتاج وقت لننهض من جديد لبناء جيل يحمل قيم المواطن الصالح في حكم رشيد، بالنسبة للدستور ارى أن اول نقطة تكتب فيه ان لا يستمر الحُكم اكثر من ثمان سنوات (لدورتين اربع ثم اربع) ومن يخالفها يعتبر خائنا ويحكم عليه بالقتل، الاحزاب ثلاث: حزب قومي عربي، حزب داخلي وطني، حزب اسلامي ليس بالايدولوجيا المتطرفة بقدر ما هم محافظون متدنيون يدعون الى الصلاة والصيام واقامة شعائر دينية دون تطرف، كل حزب رئيسه يُنتخب امام القضاء ولا يبقى لاكثر من اربع سنوات، احزاب مجملها ديمقراطية الان لدينا شباب متنور، الاسلام لا اله الا الله محمد رسول الله رد على المسيحية التي ألهت المسيح اما الاسلام جاء بحامل رسالة وهو عبده ورسوله، لا نؤله محمد الذي يتزوج ويأكل ويشرب ويتسوق اسمع احاديث تنسب له ليست صحيحة يضعونه بمنزلة الله وهو من قال أنا ابن امرأة تأكل القديد هل هناك تواضع اكثر من هذا.

_____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

انتصار بوراوي: الأعمال الأدبية الجديدة تعاني الإهمال وغياب النقد

سميرة البوزيدي

الشاعر “عبدالحفيظ العدل”: المزاج العام للقارئ ودور النشر، يدفع إلى كتابة الرواية

رامز رمضان النويصري

بـوشوشات دافئة: الشاعرة عفاف عبدالمحسن تقود مظاهرتها الأنثوية في حب

المشرف العام

اترك تعليق