المقالة

تغيروا تصحوا

لكم تبدو عبارة ارفع رأسك فوق أنت ليبي حر، مشبعة بالأنا الجميلة والأدرنالين الوطني وغير ذلك من المهيجات التي تدفع إلى الخيلاء بحمل تلك الرأس الفريدة من نوعها، غير أن الواقع ليس كذلك على الاطلاق، فالرأس الليبية مازالت تتأرجح في فراغ من المجهول ولم يستتب لها مكان من العالم بعد، ناهيك عن أن رفعها يتطلب عملاً جاداً طويل المدى من التربية والتأهيل والتعليم، والقليل القليل مما نحن فيه منذ نصف قرن، فإعادة بناء الذات، هي سلسلة عمليات متداخلة متكاملة ليس لها علاقة بالمقاولات أو الصفقات السريعة أو ندوات التنمية البشرية أو ثورة تغير نظام الحكم ولا تمتد لتغيير سواه من أنظمة المجتمع وأهمها النظام التربوي!

كانت الثورة في ليبيا مناسبة للإفصاح عن هشاشة البنية التربوية والأخلاقية للمجتمع،  بعض الخراب يمكن ترقيعه وبعضه يمكن إعادة  تدويره، لكن أكثره لا ينفع لاخفائه إلا خبط المنايا غير العشوائي، فشجرة  العنب لن تثمر مالم يجري فيها المقص مستبعداً ما لا يستحق البقاء وما يشكل عبئاً على النمو والإثمار.

سأختصر واقعنا التربوي في عدة نقاط:

– لم تكن مشكلة ليبيا الكبرى مجرد نظام سياسي أرعن، بل أيضاً نظام تربوي واجتماعي أكثر عورات من  نظامها السياسي، يحمل إرثاً من المفاهيم الخاطئة وأنماط الاعتقاد المرسخة على إنها قواعد عيش لا يجب انتقادها أو تغييرها، جراء ذلك الفراغ التربوي الذي تعانيه الشخصية الليبية أصبح المواطن الليبي مثار مشاكل في الداخل والخارج، وتندر أينما حل، يتصف بإنعدام الأخلاق والحس بالمسؤولية وعدم الانضباط  وتطغى علي تركيبته العشوائية والشوارعية، فتشتكي منه الأمم التي نزل بها لأمر ما وتلزمه قوانينها  بدفع الغرامات أو الرضوخ للعقاب وتكتب صحافتها عنه بلا رحمة، كان يمكن تحاشى كل ذلك الخزي إذا دافع المجتمع عن نفسه و كافح مايؤدي إلى تراكم نمط (عزو المرجاوي) فيه.

(المجتمع الليبي خلافاً لمجتمع واعي، وفر الحصانة الاجتماعية للسيئين في كثير من الأحوال، إما بسكوته أو كونه محامي السلوك السيء نفسه)…

– منذ زمن بعيد تعاني البيوت الليبية من طريقتها في إعداد وإنتاج أفراد خيرين  لمجتمعهم، وهي لا تمد المجتمع إلا بما يكون عبئاً عليه، ترمي على كاهله ما تنتجه من كائنات خالية من المواصفات الجيدة والفعالة، وتحمل المدرسة مسؤولية تربية أطفالها ومتابعتهم مراهقين وشباناً، ثم تكيل للدولة جميع أنواع اللوم لأنها لا توفر أسواق عمل ولا تساعد ولا تمد ولا لا وكأنها فعلاً قد قامت بدورها علي أكمل وجه وربت فرداً حقيقياً يصلح لشيء.

لا أود طرح عينات وصلت لمراكز القرار في ليبيا وهي خريجة تلك البيوت التي لا يفصلها عن الشارع سوى عتبة المنزل.

– المجتمع الليبي كأي مجتمع إنساني لديه حزمة من القيم يتراوح التزامه بها بين الإفراط والتفريط، فانتشار اللصوص الذين يسرقون وطنهم  مثلاً  بفخر، يدل علي خلل في قيم الأمانة والنزاهة التي تربوا عليها صغاراً، وانتشار قلة الأدب كنوع من حرية التعبير، يدل على خلل في قيم احترام الاخرين واحترام المجتمع الذي يعيشون فيه، كما  أن انتشار التحرش والبذءاة والإجرام علي حساب القيم اللاغية لها، يدل على أن الشخصية الليبية تموت تدريجياً في تقدير الأخرين ولن يكون لها من حضور أو ذكر، غير اتخاذها مثلاً للعبرة.

حديثاً اعادت اليابان حساباتها مع دروس الاخلاق في المدارس لتكون منذ العام 2018 ملزمة بتدريس تعاليم أيدو التربوية التي تعود للقرون الوسطى، انهم لا يخفون مشكلة تراجع أخلاق النشئ  أو يتستروا عليها أو يعير بعضهم بعضاً بها، اتخذوا تدابيراً لمواجهتها ولن يعتمدوا على ماتمدهم البيوت به من مخزون يفترض أن تعطيه أو من الطبيعي أن تعطيه، فالسياسة التربوية للبلاد ترى بأن مواطنها في خطر وعليها ألا تتنصل منه اليوم وهو صغير حتى لا تتأزم أوضاعها بسببه وهو كبير أي (تحصل فيه)  عندما يكبر ويكون هناك ستة ملايين نسخة منه قابلة للتكاثر، أنذاك (يحصل) العالم أيضا فينا عزيزي عزو!

عادت اليابان إلى تعاليم أخلاقية عمرها أكثر من ثلاث قرون، ولم يقل أحداً أن ذلك تخلف وعودة للوراء، فالماضي لا يمكن اختصاره فقط في يوم الزي الوطني وحفنة من الصور والكرنفالات، ولا يمكن إماتته بالتقادم، بل أن الموضات القديمة تعود وتجد احتفاءً بها عندما تكون لها وظيفة وحاجة. الماضي ليس كله خير وليس كله شر، وعلينا الانتقاء.

هكذا تفتش الأمم الحية صناديقها القديمة عندما يضيق بها الحال، أما نحن فمازلنا خير أمة  تضيع الصناديق وتحتفظ بالمفاتيح وتخرج لسانها للعالمين.

– إحدى جوانب الفلسفة التربوية الليبية  تستند إلى مالدى الأهل من مخزون قائلة (الهبل يكتفوه هله) وهي إذ تعترف بوجود الخبل  تنزه  الأهل عن أن يكونوا هم منبعه الأول أو رعاته، إنها تفترض فيهم حسن الأدب والقدرة على التدخل الايجابي، غير أن ليبيا اليوم تخوض نتائج خبل الأهل وابنهم على السواء، فإذا كان الأهل هم من يمدون الابن بفنون الهبال ويرعونها حتى تكبر ويعتزون بها ويضحكون بسرور لها ويدافعون عنها، من سوف يقيد الأهل وابنهم؟ من سيوقف تكاثر الهبل ويمنع استفحال مخرجاتهم من أن تتحول إلى مجتمع؟!

المجتمع ذي الحس السليم يصدر قوانيناً شعبية تحميه من تكاثر العبث.

– الرداءة  نمط حياة وليست طفرة، يتسرب الغث الرديء إلى كافة نواحي حياتنا، أشخاص يملكون ناصية أمرنا وهم مخرجات ذلك النمط الممتد والمتجذر، وفي النهاية شئنا أم أبينا يرسمون صورة الشخصية الليبية بقوة الواقع الذي يملكون التأثير فيه، كما يؤثر الزلزال أو العاصفة.

– ليبيا التي لا يتردد العالم في إعلانها دولة فاشلة،  متورطة في مواطنين يحملون الصفة نفسها ويدافعون عن فشلهم المتنوع بالمضي قدماً فيه، وفرضه نمط عيش على الأخرين،  ومالم تتغير أساليب التربية، ستستمر ليبيا بلاداً تنير العالم ببترولها وتغرق هي في ظلامها الخاص، مالم يمتلك الليبيون وعياً يواجهون به سيئاتهم بإرادة تغييرها، لن تكون ليبيا بلاداً جديرة بالإحترام، بل ربما إن تفاقم الأمر سيجتمع العالم ويقرر إلغائها وتوزيع مواطنيها على مصحات إعادة التربية والتأهيل.

بكلمات أخرى إن حملات إزلة الأوساخ من مجالنا الحيوي يجب أن يتبعها حملات لإزالة الأوساخ من سلوكنا، حملات لا تتوقف ضد السيء والرديء والقبيح  والزقاقي من الأقوال والأفعال، فإن لك جودة أيها الليبي يجب أن تبحث عنها بنضال ترفع رأسك إثره، دون أن يكون الأمر رهناً بتغيير طاريء.

______________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

الهوية الوطنية في ليبيا وأهميتها في إعادة بناء الدولة

المشرف العام

الموضوعية: العلم، العمل والأخلاق

عمر أبوالقاسم الككلي

شهوة التميز

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق