سيرة

امرأة خارج العزلة (الجزء الثاني)

ملامح من سيرة الرائدة الليبية خديجة عبد القادر

السيدة خديجة عبدالقادر
السيدة خديجة عبدالقادر

(الجزء الثاني)

(… هذا ما يجعلُ الذات تقوم بهذا السعي آخذةً على عاتِقها مهمة التألق، إذ كل تألُق هو موقف تجاه الحياة والتجربة، وهذا الموقف يمثلهُ في أسمى معاني المُخاطرة والمُجازفة ورُوح المُبادرة، “كُن أنت”).  نيتشه

• خديجة والرحلات:

وتسرد انه قد أتيح لها أيضاً وضمن ما كان مقرراً من منهج عملي تطبيقي في معهد تنمية المجتمع (سرس ليان – مصر) بالإضافة إلى الزيارات المكثفة داخل مصر التي شملت القرى النموذجية والمعالم العلمية، السفر بحراً إلى بلاد مختلفة فقد زارت اليونان ويوغسلافيا وإيطاليا ولامست عن قرب تنوع تلك المجتمعات جغرافياً وإثنياً، وقد سجلت مُعايشتها المقتضبة لكثير من الأحداث والمواقف المتنوعة بل والمتناقضة أحياناً!.

ومن يتتبع سيرة خديجة في حلها وترحالها تنشد المعرفة وتتطلع للحرية مترسمة خطى انطلاق جادة وحقيقية يُدرك من خلالها تنوع مجالات أنشطتها التي تبدو فيها شديدة الحيوية مُنشغلة  بترسم خطى مشروعها لتحرير المرأة وتوعيتها. مساهمة في الحركة النهضوية النسوية وهي الباحثة عن كل ما من شأنه تحديث مجتمعها الليبي – والمرأة الليبية – بخاصة فهي من آمن بالعمل والسعي الجاد،  تكتب هذه الجملة في اصدارها المراة والريف في ليبيا: (إننا في بداية النهضة ونحن في حاجة إلى تشجيع الفتاة وإرسالها للخارج للدراسة والاشتراك في النشاطات الفكرية المختلفة).

فغداة رجوعها بعد تقديم أطروحتها في المعهد عام 1957م تقدم مُنجزها الرائد: جمعية النهضة النسائية 1958م(3) في تأسيس راسخ بما لم يكن بدافع البهرجة أو الدعاية أو مخالفة المألوف بل قامت به وهي الواعية بأهمية هذا المنجز ومن سعة اطلاعها واهتمامها المنهجي بقضية المرأة الليبية من ناحية، وحضورها الفاعل في المجتمعات النسوية المحررة من ناحية ثانية، ومن ناحية ثالثة طفقت تبحث عن مخارج منطقية لعزلة المرأة الليبية، ومحدودية دورها الثقافي والعلمي والاجتماعي، وذلك ما انعكس في كثير مما أبرزته من آراء مستمدة من قناعتها بأن كل تغيير حقيقى في المجتمع رهين بتغيير وضعية المرأة فيه، فقد دعت وهي النائبة عن الهيئة التأسيسية الأوانس والسيدات للاجتماع في بيتها ثم أسندت وضع النظام الأساسي للجمعية لشقيقها المحامي علي صدقي، ووثقت لنظام جمعيتها في كتابها (المرأة والريف في ليبيا).

رحلة صاحبتنا الاغترابية إلى مصر والتي قرأنا أصدائها في كتابها (المرأة والريف في ليبيا) أفرزت شخصية قوية مُعتدة بنفسها واثقة وموضوعية ربما لشعورها بمسئوليها أمام المرأة الليبية وليس فقط مسئوليها عن نفسها، ففي شهادتها قبل أن تقدم مادة أطروحتها لقرائها نُدرك ما تتطلع به من دور وهدف إذ تسافر وتغترب وإذ تختار أيضا موضوعاً عن أحدى مشاكل المرأة الليبية:

(لأنني أحسست في أعماقي بوجود أختي الفتاة الليبية، بل سمعتها تهيب بي بحرارة طالبة مني أن أردد صوتها وأروي قصدتها وأتحدث عن قضيتها … لذلك اتخذت من رسالتي هذه صدى لصوتُها ومن حقها علي وهي أختي أن أجعل من رسالتها رسالتي وأن أعرف بها الناس لإيجاد حلول لمشاكلها).

والقاري المُطلع للمقالات الصحفية التي سطرتها خديجة يُدرك أنها لا تتقاطع مع رسالتها الناهضة بالمرأة الليبية فحين تتهيأ خديجة للسفر من جديد والعودة إلى مصر لتمثل بلدها في الحلقة الدراسية التي عقدتها منظمة اليونسكو بالتعاون مع مركز تنمية المجتمع في الفترة من 27/9/59م الى 17/10/59م لتكون بذلك أول مُوفدة متخصصة في مجالها تمثل المرأة  الليبية في الخارج في ملتقى هو الأول من نوعه على الصعيد العربى ولعلاقته بخصوصية موضوع أطروحتها عن التنمية الريفية فلم توجد آنذاك أية دراسة منهجية دقيقة عن المرأة عموماً والريفية تحديداً وما تواجه من مشكلات كونها من الشرائح المضطهدة اجتماعيا والمستغلة اقتصاديا، وخديجة من طرحت دعوتها الملحة بمنح الأولوية لتحسين وضع المرأة الريفية:

(هذا لن يكون بشن الثورات الارتجالية بجرة قلم على الأوضاع الراهنة بل بتحسين الأوضاع القائمة فعلا في البلاد في البلاد العربية) ونقرأ أيضا مُتابعتها ” ذكرياتى في مؤتمر المرأة الدولى نوفمبر 59م” في سلسلة من الحلقات لصحفية طرابلس الغرب كمُراسلة لفعاليات ذلك المؤتمر، وما جرى على هامشه من لقاءات مع نخبة من رائدات الحركة النسائية في البلاد العربية وما تم فيه من تبادل للخبرات بينهن بل وتحظى قارئاتها – وقرائها عموماً – بملخص مشاركتها ومقترحاتها لأشراك المرأة في برامج تنمية المجتمع، ومما لاشك فيه أنها بحضورها وتفاعلها في ذلك المحفل أفرزت عن ليبية فاعلة ناشطة جادة في مشروعها وهى في محك الممارسة الإيجابية منطلقة من نظرتها الواقعية الواعية لقضايا المرأة في بلدها.

خديجة أيضاً من بعثت المكتبة النسائية الأولى بطرابلس ولم تتوقف حد التأسيس وظلت متابعة لمشروعها كأول أمينة لمكتبة دار المعلمات منشغلة بتوعية النساء طالبات وربات بيوت حرمن من مواصلة تعليمهن حيث حرصت على تنامي أعداد رائداتها ففي مقالتها بصحيفة طرابلس الغرب (المكتبة ودورها في تثقيف المرأة الليبية) بتاريخ 4/5/1959م ما يشى بأنها جعلت من تعليم وتوعية المرأة شغلها الشاغل، كتبت: “فلا سبيل لتحرر المرأة إلا بالمعرفة: المعرفة أولا والمعرفة أخيرا”.

ونجحت في ذلك بعد النتائج التي ظهرت في إحصاء عدد الرائدات في سجل الحضور الذي وصل إلى 180 رائدة خلال أسبوع واحد، مما يمنحها سبقاً ذو منحيين: تأسيسها لمكتبة ذات طابع نسوي، وفي شعبية وانتشار ثقافة القراءة المكتبية – ولو نسبياً في ذلك الوقت – مما يدعم رأيها وتحمسها في الإيمان بدور المكتبة في نشر المعرفة المتاحة للمرأة.

• ليبية في بلاد الإنجليز، إنطباعاتى عن بلاد الثلج والضباب والتقاليد: (إليس في بلاد العجائب!)

كانت هذه الكلمات مفتتحاً مدهشاً ومشوقاً يشي بجمال وطرافة وغرابة محتوى مذكراتها الصحفية التي نشرتها في صحيفة طرابلس الغرب، والطريف أن القارئ المتتبع لتلك السلسلة الرحلية يظن أن سفرها بغرض الاكتشاف والسياحة فقط، وأن دراسة علم المكتبات  تبدو وكأنها مجرد عمل جزئي روتيني في يومها.

ومن الجدير الإشارة هنا الى أن شقيقها شاعر الشباب الراحل على صدقي عبد القادرمن أعلمني (حين بدأت أعكف على نقل مذكراتها من جريدة طرابلس الغرب) بحصولها على منحة دراسية في مجال علم المكتبات من المجلس الثقافي البريطاني (بطرابلس) حين سألته عن السبب الذى لا توضحه خديجة طوال تلاحق تلك اليوميات التي سطرتها عن وجودها في بريطانيا بعكس ما حدث حين أبانت عن أسباب وإرهاصات السيرة التعليمية الأولى لها في مصر.

ويبدو أن انفرادها الثانى في الرحلة وبقائها مدة كافية – عاماً كاملاً – وهي الشغوفة بمعرفة ثقافة الآخر قد جعلها تفرد متسعاً وبإفاضة للكتابة عن رحلتها في لندن حتى لا يبدو أنها قد خرجت خصيصاً للسياحة وبشكل شبه يومي من أجل إطلاعنا على أهم المعالم والآثار السياحية وعرض صور ومشاهدات مستفيضة لنظام المجتمع البريطاني جامعة بين التوثيق الإثنوغرافى العلمي وبين نقلها لصور جمالية متنوعة التفاصيل والجزئيات: بدء من الشوارع والميادين المحتفية بأعياد الميلاد، وجغرافيا المكان والأحوال المناخية ولم يغب عن رصد خديجة المعمار وهندسيته بل وبمقارنته بمعمار بلدها، ولا الحدائق، ولا ما يشهده اقتصاد لندن من ارتفاع في مستوى المعيشة الى قيمة العملة الى ازدحام وضجيج سوق الأحد، الى انثربولوجيا لندن واصفة لبعض من عادات وتقاليد وأعراف إنسانها، عارضة لنماذج من ثقافته الشعبية أمثالا ونوادر.

وخديجة إذ تسافر إلى لندن تطور من ذاتها وهي تكتشف مجتمع آخر مغاير، ” فأن أقرأ الأخر معناه أن أعيد تحديد ذاتى (بودلير) وهى كوسيط معرفى – رحالة – تنقل لنا صورا للحياة اليومية التي عايشتها في مجتمع متحضر متقدم. فعدا عن كون المحكى الرحلى فيه من المغامرة والجسارة والأكتشاف الشخصى وعيش وفهم للعالم الاخر، فإنه في كثير منه يرمز ويحمل دلالات على وضعية أو مرحلة تاريخية وثقافية واجتماعية يتم رصدها، وقد استطاعت خديجة وخلال سنة واحدة رغم انشغالها بالدراسة أن تغطي ما تسنى لها من فعاليات ثقافية متنوعة من المسرح إلى الأوبرا إلى الموسيقى بل وتهتم بحضور الحفلات العربية هناك فتذكر أنها استمتعت بالفلكلور اللبناني وانتابها وهي في غربتها إحساس بالفخر للحضور الفني للتراث العربي، وبلغ بها الاهتمام بالثقافة والفن ومواكبتهما درجة تخطيطها المسبق لدعوة شقيقها علي ليشاركها متعة المشاهدة والاستمتاع قبل ثلاثة اشهر من إقامة عرض لموسيقى بتهوفن وكذلك لحضور عرض مسرحي لنص شكسبيرى وكانت تتطلع بحلمها أن تكون هناك أوبرا ليبية تخلف الأوبرا الإيطالية الميرامار!

_______________________________________

(*) مقدمة كتابي (ليبية في بلاد الانجليز – خديجة عبد القادر) –  صدر 2009.

– طالع (الجزء الاول)

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

امرأة خارج العزلة (الجزء الاول)

فاطمة غندور

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (47)

حواء القمودي

من قامات ليبيا الابداعية : محمد حقيق عاشق التراث

رامز رمضان النويصري

اترك تعليق