المقالة

الكفر الذي يناب عليه

بالأمس تذكرتُ قول الشاعر العربي القديم :

عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوىَ وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

هذا الشاعر الذي استأنس بعواء الذئب وضاق ذرعا بصوت الإنسان ، دفعني إلى تتبع مفردة ( الإنسان ) في القرآن الكريم ، لذلك أخذتُ أحصيها في ( المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ) ، فوجدتُها قد ترددتْ في خمسة وستين موضعا من آي القرآن الكريم ، وقد تكرر ذكرها أكثر من مرة في سورتيْ الإسراء والقيامة ، ففي الأولى ذُكرت سبع مرات وفي الثانية ذُكرت ست مرات .

وفي معظم هذه المواضع وُصِف ( الإنسان) بأوصاف سلبية كثيرة هي : الكفر والظلم والجهل والطغيان والنسيان والبخل والجحود والتملق والضعف والفجور واللجاجة والعجلة .

وإذا كان من غير الممكن التوقف عند كل هذه الأوصاف ، فمن الممكن أن نقف عند واحدة منها ، وهي صفة (الكفر) التي وردت في ست آيات ، بينت أن الإنسان بطبيعته كافر ، وهي :

1 ـ ( وآتاكم من كل ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، إن الإنسان لظلوم كفار ) . إبراهيم ، 34 .

2 ـ (وإذا مسكم الضر في البحر ضلَّ من تدعون إلاَّ إياه ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم، وكان الإنسان كفورا ) . الإسراء ، 67 .

3 ـ (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ، إن الإنسان لكفور ) . الحج ، 66 .

4 ـ (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها ، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور) . الشورى ، 48 .

5 ـ ( وجعلوا له من عباده جزءا ، إن الإنسان لكفور مبين ) . الزخرف ، 15 .

6 ـ ( قُتل الإنسان ما أكفره ) . عبس ، 17 .

نلاحظ أن الآيات الخمسة الأولى انتهت كل منها بجملة مفادها : ( الإنسان كفور وكفار) أي كثير الكفر، وجاءت كل جملة تقريرا وتأكيدا لما تقدمها من كلام ، ففي الآية الأولى إفادة بأن نعم الله كثيرة ، لكن الإنسان بطبعه كافر بها وجاحد لها ، وفي الآية الثانية تأكيد بأن الإنسان لا يؤمن بالبعث والحياة الأخرى ، وفي الآية الثالثة تأكيد بأن الإنسان إذا مسته الضراء يجحد نعم الله عليه ، وفي الآية الرابعة بيان بأن الإنسان عادة ما يجعل لله شركاء .

ولأجل التأكيد بأن الكفر طبيعة إنسانية عبَّرت الآيات الخمسة الأولى بصيغة المبالغة (فعول ـ فعَّال) ، وهي من الفعل الثلاثي (كَفَر) ، وذلك للإيحاء بأن خُلُق (الكُفْر) متأصل في الإنسان ، وفي الآية الأخيرة وردت صيغة التعجب (ما أفعلَ) مسبوقة بفعل مبني للمجهول ( قُتِل) ، وهو يفيد معنى ( لُعِن) ، فالله سبحانه وتعالى يلعن الإنسان بسبب إمعانه في الكفر، وإصراره على جحود نعمة وفضل خالقه عليه .

والمعروف أن اسم (الكفر) مشتق من مادة ( ك . ف. ر) ، والمعاجم تذكر لهذه المادة معاني كثيرة منها ، أبرزها الجحود والحجب والستر والتغطية ، فمن لا يؤمن بإله ولا رسل ولا بعث هو كافر ، بمعنى جاحد لأمر معروف بدهي تفرضه الشواهد والدلائل ، لأن كل إنسان عاقل يسأل من الذي خلقني وخلق غيري والكون كله ، فيُجاب بداهة ودون تفكير: الله هو من خلقك وخلق الكون كله ، ومن ينكر هذا ولا يصرح به ، إنما يجحد شيئا معروفا ويحجب عن عقله حقيقة ثابتة .

وقد عجبتُ لمن يعلن جحوده لوجود الله على الملأ جهارا نهارا ، وينكر على المؤمنين إيمانهم ، يثور غاضبا إذا قيل له كافر، ولست أدري ما الذي يغضب المجاهر بالكفر إذا نُعت بكافر؟ وما عساه يُسمى أو يُوصف بغير صفة (الكفر) ؟، إنه لو فكَّر مليا لأيقن أن صفة (الكفر) ملائمة لحاله .

لقد اعتاد الناس على حصر استخدام لفظ (الكفر) في المجال الديني ، فيقولون : هذا كُفْر، بمعنى شيء خارج عن حدود الدين ، ويقولون هذا كافر ، بمعنى لا يؤمن بالله والرسل والبعث ، مع أن اللغة تجيز تسمية المزارع بالكافر ، لأنه حين يزرع البذور ويبذرها يغطيها بالتراب ، وقد ورد هذا المعنى في الآية ( 20 ) من سورة الحديد :

( اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة، وتفاخر بينكم ، وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرا، ثم يكون حطاما). وقياسا على هذا فمن الممكن تعميم الدلالة الرئيسة لمفردة (الكفر) ، وهي الجحود والإنكار ، بحيث تتجاوز المجال الديني لتشمل كافة المجالات ، ومن ثَم تكون للجحود والإنكار دلالة إيجابية إلى جانب الدلالة السلبية التي ذكرت في النص القرآني .

إن واقع حال الإنسان يؤكد أن كفره أي جحوده ونكرانه لا حدود له ، فهو لا يكتفي بإنكار وجود خالقه وإنكار حقوق خلقه ، بل قد ينكر ما فسد من أخلاقهم ، ويستر عوراتهم ، وهذا يعني أن صفة (الكفر) ليست على الدوام سلبية ومستهجنة ، فمن الكفر ما هو إيجابي يُثاب عليه ، وهنا لا بأس أن نذكِّر بقول الشاعر الليبي الأستاذ الدكتور شعبان عوض العبيدي :

كفرتُ بيعربٍ من ذا يلومُ لعل الكفرَ يكسبني الثوابا

لذا يمكن القول إن ستر خطايا الذات وستر عيوب الآخرين ، وكذا ستر الطبيب والقاضي والمحامي ورجل الأمن لأسرار الناس هو لا شك كفر إيجابي يثاب عليه فاعله ، لكن في المقابل من يجحد وينكر حق غيره في ماله وحرمة بيته وكرامته وفي التعبير عن أفكاره ومشاعره ، وفي حق الاختلاف في الرأي مع غيره هو في واقع الحال كافر .

والمؤمن الذي ينكر حق الملحد في التعبير عن إلحاده هو كافر، وكذا الملحد الذي ينكر حق المؤمن في التعبير عن إيمانه هو أيضا كافر كفرا سلبيا يعاقب عليه لا محالة ، وهذا النمط من الكفر لا يليق بإنسان عاقل أن يقترفه ويتورط فيه ، لأنه أصل البلاء ومنبع الشر، وعنه يصدر الظلم والجور والطغيان والفساد .

مقالات ذات علاقة

عن جائزة الروائي الراحل الكبير أحمد إبراهيم الفقيه

عبدالله الغزال

موطن ليبي بسيط هكي حاله ……..

المشرف العام

أدونيس … الشعرية العربية

المشرف العام

اترك تعليق