المقالة

تفاحة حواء وحصار تاء التأنيث‎

لو لم تضطرم نار الأولمب في وجدان ذلك الحالم اليوناني، وتتطاول حتى رأسه لتخصب مخيلته، ما كان بروميثيوس. ولم يأت جلجامش من عرش بابل.. إذ لا تأتي العروش بالمبدعين، بل بالقياصرة والآلهة الزائفة.. ولولا تلك النبتة التي تخلقت من مخيلة حالم بابلي، وارتوت من نسغ حنيننا الدهري إلى البقاء والخلود لظل جلجامش.. شأن القياصرة جميعا.. منذورا لعبث أي طفل قد يعن له في لحظة نزق أن يتسلى بلعبة التأصيل، فيبدل.. ياءه ألفا.. ليغدو القيصر قاصرا.

ومثلما لبروميثيوس وجلجامش، اختار حالم فارسي قديم للموسيقى مصيرها الإنساني، وجعلها تنبذ السماء المجوسية، لتئول إلى شتات أثيري منبث في أرجاء الكون، عل الإنسان الذي عشقته، يعينها على أن تلم شعث كيانها، وتستعيد ذاتها.

ثلاثة أبطال أسطوريين، ما كانوا ليعرفوا لو لم يقيض لهم حالمين كبارا، محبوين بمخيلات خصبة، وبما يكفي من نزق الأطفال وحنين الإنسان الدهري إلى التجاوز والإنفلات من أسر القصور والألوهة الزائفة والمصير العبثي.

ولعله أمر قدري، أن لا بد للمبدع من منبت فيه يتكون، ومنه يجيء إلى العالم ليصوغ حلمه وأسطورته، مثلما لا بد للقياصرة والآلهة الزائفة من قصور وعروش يتبوأونها ليصنعوا عناء الآدمي، ويقيموا الأنظمة العالمية والدويلات المقدسة التي (يسأل) فيها مثلما يخبرنا نزار قباني: ـ (الشاعر عن ثوب وترفل في الحرير القحاب).

وشاعر نزار ليس ذلك الذي نلتقيه محصورا بين دفتي فكرنا التنميطي المتحجر.. فكم من الشعراء بذلك المعنى يرفلون في حرير وبلادة، تحسدهم عليهما المذكورات أعلاه، بل أن شاعر نزار هو المبدع الحقيقي الذي لا نلتقيه في.. عصر زيت الكاز.. وحده وإنما في كل العصور والأماكن والحضارات.

فمرة حكاءا كفيفا جوال، ومرة رساما أو نحاتا، في عصر فيلسوفا معتما وفي آخر حالما حاملا لوثة لا يريد أن يبرأ منها، متصوفا غامضا أو مهرجا عابثا، وقد نراه ثائرا عنيدا يزيح الأرض عن عرشها ليبويء الشمس مكانها، وهو يعاني دوما من نوع من أنواع الفاقة.

فديدن المبدع أن يتضور جوعا أو عريا أو نبذا وإقصاءا، واغترابا في كل الأحوال، وهو لا لا يكف عن بناء المدن الفاضلة في الهواء، فيما يقيم في كوخ رث على هامش مدينة غير فاضلة، أو في حوض حمام مهجور في ركن من أركانها، مثلما لا يكف عن اللعب. والمبدع يلعب دائما بكل ماهو متاح ومتداول من مفاهيم وأفكار ومواضعات وثوابت، إنه يلعب بالمعرفة، وإن تكن هذه بعضا من نار الأولمب، فالمبدع  يلعب بالنار في كل أحواله.

إن هيراقليطس وهو واحد من اللاعبين الكبار، يجعل من النار أصلا للتكوين، ويقول: ـ (إذا لم تكن هنالك شمس واعتمدنا على النجوم وحدها، فسوف نكون في ليل دائم)، هيراقليطس يدعونا إلى أن نيمم صوب الأبد وما هو أبدي كمآب ينقذنا من جحيم الكينونة وعناء الصيرورة، يدعونا إلى مبارحة نهر الجهل والحرب إلى أوقيانوس الحكمة والمحبة.

وأفلاطون وهو طفل عملاق بدوره، ابتدع أسطورة الكهف لإثبات حقيقة عالم المثل الذي حلم به، ولم ير ضيرا في أن يلجأ إلى النار الكونية ليقبس منها ما يحقق به حلمه، فلولا الشمس التي سمح لأشعتها أن تمرق بين فروج كهفه، ما كان لأحد أن يتبين ظلال تلك المثل، ويكتشف زيف الوجود في كنف تلك الجدران.

ولا يضير أفلاطون المصير السيراكوزي الذي آذاه وآذى كل الحالمين بالمدن الفاضلة من بعده، فقد كانت مثله أكمل صيغة لأحلام المبدعين الذين سبقوه، وأنضج بذرة لأحلام لاحقيه الذين استنبتوها في حناياهم ورووها بدماءهم ونسغ أرواحهم، ليحور فيها كل منهم بما يوافق رؤاه وواقعه وراهنه معا، من أجل يصوغوا أحلامهم، ويقيموا مدنهم الفاضلة.

إنهم المبدعون الحقيقيون في كل العصور الذين ما كانت المدن همهم، بل الفضيلة. الفضيلة لا بمعناها الأخلاقي الذي لم ينج من الإبتذال، بل بمعنى وجودي عام وشامل، الفضيلة التي يراد لها.. تبعا للعرف الجاهلي المقيت.. أن تؤد تحت الركام الهائل من المفاهيم المغلوطة والقيم المسفلة والشعارات الجوفاء، شأنها في ذلك شأن الحياة والحقيقة والحرية والعدالة والمساواة والحكمة والمحبة والمودة والرحمة وتاء التأنيث، وكل القيم السامية التي يلتقيها الرجل في المرأة وتلتقيها المرأة في نفسها، وليس متاحا لأحدهما أن يلتقيها في معزل عن الآخر، تلك القيم هي ما يجهد المبدع نفسه ليتعلم حسن الإصغاء عله يتبين نداءها الذي لا يكاد يبين بإزاء الصخب الأجوف الصادر عن حلقوم آدم الموسوم بتفاحته المزعومة، في حمى دعواته المحمومة والخرقاء إلى الأنظمة العالمية والدويلات المقدسة.

المبدع وحده.. رجلا كان أو إمرأة.. هو من تخزه وتدمي وجدانه شوكة الحاجة إلى القيم الإنسانية المفتقدة في عالمه، وهو وحده يعرف جيدا أنه لن يحظى بمبتغاه إلا بأن يكون إبنا شرعيا لعصره، فلا بد للمبدع من أن يكون حداثيا.. وبمعزل عن موافقة حداثته أو عدم موافقتها لمقاييس راهنه.. فشرطها الأول والأهم أن تكون موافقة لمقاييس الإبداع الثاوية في حناياه والصادرة عنه، وحداثة المبدع إلى ذلك معادل موضوعي لأصالته، وهما معا.. حداثة المبدع وأصالته.. وجها عملة الإبداع الحقيقي، لا بد للمبدع ليكون أصيلا من أن يكون حداثيا، وإلا فلن يكون غير أصولي متخلف عن ركب الإبداع، وناكص إلى رحم عجفاء عقيم تأخذ بخناقه وتلزه إلى أن يجير الحاضر والمستقبل لمواتها، وتسلبه هبة الإبداع النفيسة.

وميزة المبدع ألا يجيء جهيضا ولا خديجا وألآ ينبت في رحم منتحلة أو مستعارة، يتكون المبدع في رحم ذاته الخاصة، والتي لا بد من أن يكون قبلا قد لقحها بإبداعات الذين سبقوه، ووسمها بملامحه، وبذا فليست حداثة المبدع إلا نبرته الخاصة وغير المنتحلة التي يمنحها للآخرين، لا ليعيرهم إياها، ولا ليدعوهم إلى أن ينسجوا على منواله، ولكن ليذكرهم بأهمية وضرورة أن يبحث كل منهم عن نبرته الخاصة التي تعلن فرادته وتميزه الإنسانيين، ليصدح بها في جوقة الغد الإنساني المأمول.

وفي زماننا الذي يرزح إنسانه ويئن تحت وطأة هذا الركام الهائل من.. الخردة.. الثقافية التي تنهال عليه من كل فج، والأسلاك الأيديولوجية الشائكة التي تحاصره من كل الجهات وتخنق إنسانيته، في زمن الإنسان الذي يحاربه الإرهاب وترهبه الحرب على الإرهاب، لا ينفصل سؤال الإبداع عن سؤال الكينونة، بل هما ينجدلان معا لينتصبا  مثل أحجية أي الهول في مواجهة الإنسان.

ويظل المبدع أكثر من غيره معنيا بالبحث عن الإجابة، ومدعوا إلى اللعب بالنار واقتراف خطيئة التأصيل، المبدع أكثر من غيره معني ومدعو إلى الإلتفات إلى حقيقة، أن كل ما قيل ويقال عن.. تفاحة آدم.. ليس غير لغط فارغ، وأكذوبة توراتية فاقعة، فذلك النتؤ الغضروفي في حلقوم آدم لا يزيد عن كونه خاصية تشريحية اقتضتها طبيعة تكوينه العضوي، ولا علاقة له بخطيئة وجودية ربطت بمصيرنا ووضعت ظلما على كاهل النساء، وزرعت في صدورهن كتلة من ثلج الإغتراب الأسود، ودفعت منذ بدء التكوين لتتدحرج وتئول إلى غصة دهرية تستوطن حناياهن ويؤد تحت كلكلها كل ما يزخر به الوجود الأنثوي من كنوز قيمية كفيلة بإثراء عالمنا المدقع والمعوز إنسانيا، وبإنقاذه من جهله وغروره الذكوريين.

تلك الغصة هي.. تفاحة حواء.. وهي وحدها خطيئتنا ودليل خطيئتنا، ووحدها سبب الكساح الذي تعاني منه آدميتنا، وهي العقبة التي ينبغي أن نعمل على إزالتها لنخلص من بعد من الخردة الثقافية والأسلاك الأيديولوجية الشائكة التي تزحم طريق غدنا وتعرقل سيرنا نحوه.

____________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

شاعر الفرح (نصرالدين القاضي)

يونس شعبان الفنادي

قلق حارس المرمى لحظة ركلة الجزاء

محمد قصيبات

البنيوية التوليدية وإشكالية التناول التراثي

المشرف العام

اترك تعليق