المقالة

شجـون لا شواغـل

لست مطلعة على دراسات نفسية واجتماعية تتناول هذا الاختلاف بين البشر ذكوراً وإناثاً، المتمحور حول ثبات البعض في العمل في ذات المكان لسنوات طويلة، قد يتخللها فقط انتقال لمرة واحد أو اثنتين تحت حكم الظروف قبل الإحالة إلى التقاعد، في حين يقابل هذا الثبات توالي مرات تغيير العمل من مكان إلى آخر عند آخرين، بل يصل الأمر إلى درجة استغراب مقدرة الشخص النقيض على احتمال هذا الثبات.

أنا من النوع الذي لا يستهويه تغيير موقع عمله، فقط كانت سنة واحد انتدبت فيها للعمل في قطاع الإعلام بعد رفض لأكثر من مرة، ولكنني دفعت إليه بحجة أنه قد يضيف إلى تجربتي شيئاً، عدت بعدها إلى بناء جسر التواصل مع المكان الذي شهد أول عطائي للوطن بتأسيس مكتبة المدرسة. وتوالت الأعوام كانت المكتبة خلالها مقصد الطالبات وأعضاء هيئة التدريس لطلب الخدمة المعرفية، ومصدر ثناء لكل من زار المدرسة.

لم أفكر يوماً بأن أصبح ومكتبة المدرسة ثنائياً متـفرقاً، فلقد كانت المكان المستأثر بجمال لا أجده إلا فيها، ليست لأنها تفوق الأمكنة الأخرى جمالاً، بل لأنها تمدني بإحساس لايمكن أن أجده في مكان سواها.. إنها تجسد بعضاً مني.. أرى فيها نجاحي.. ومقدرتي.. عطائي الذي كنت فيه أداة تهيء المعرفة لمن قصدها، بهذا تفردت مكتبة المدرسة فلا مكان آخر يمكنه بما يحتويه أن يجعل من جماداته كائنات أكاد أسمع أصواتاً.. تستجديني البقاء أكثر قـبيل قـفلي للباب.. وعندما ترغمني ظروف ومنها ما هو متعلق بالعمل على وجودي فيها لمدة أقل مما هو معتاد.. أحس بها كأنها تشكوني إليّ معترضة على افتقادي.. ومع كل هذا، فإن هذا التواصل الجميل مع المكان، كان مصحوباً برؤيتي لكل مكامن الضعف فيها.. ولكن لم يكن له تأثير في الانتقاص من قيمتها لدي، بل يحفز في طاقة الفعل لتكون في صورتها الأمثل.. ولعل في هذه الرؤية يمكن الدافع لاستمرارية العطاء.

وجاء يوم فاجأت فيه الجميع بقرار طلب انتقالي للعمل في مدرسة أخرى.. دعتني ظروفي لإتخاذه.. وكان الباعث على المفاجأة هو كيف لهذا الثنائي أن ينفصل.. أثناء إتمامي لآخر إجراءات النقل وجهت إليّ بعد احتجاج مصحوب باستغراب من قبل عاملين في إدارة تعليمية إشرافية تعقيباً على إتخاذي هذا القرار، وإنه ما كان عليّ أن أفعل هذا، وإني تعجلت فيه ولو حدثتهم قبلة لوجدوا لي حلاً في معالجة ظروفي تمكيناً للاستمرارية في عملي السابق.. ولكنني كنت قليلة الصبر كما وصفوني.. احتجاجاتهم المتأسفة لم توقف إلى أن أتممت الإجراء وغادرت.. فكيف انتقل من مكتبة مدرسية تحَّصلتْ على الترتيب الأول في مسابقة المكتبات المدرسية على مستوى شعبية طرابلس في العام الدراسي الماضي إلى مكتبة مازالت في في الخطوة الأولى للتأسيس.. إنك ستبدأين من جديد.. ستعودين إلى نقطة الصفر.. ألا تدركين ما أقدمت عليه?، ثم إن ثمة فارقاً بين المدرستين، فمن مدرسة نموذجية إلى مدرسة دونها بدرجات.

لم أكن لأعيد حساباتي بعدما سمعته.. لأني كنت ملأى بثـقتي في رؤيتي لعطاء يتجسد في مكان ثانٍ وسأعيش ذاك التواصل الجميل مع مكتبتي الجديدة.. وستخاطبني هي الأخرى تماماً كما حدث مع الأولى.. فالمكان بأهله لا العكس.

غادرتهم ولم أجادل كثيراً في استيائهم من قراري.. فقط اختصرت ردي عليهم بقولي: يمكننا أن نصنع شيئاً جميلاً في هذا المكان الذي ترون أنه في الموقع الأقل.

فحيثما وجهت وجهك في الوطن الذي تحب تجد الاشتياق ذاته للعطاء.

مقالات ذات علاقة

جاءني يسعى!

فاطمة غندور

أين ليبيا التي عرفت؟ (25)

المشرف العام

الصورة حكاية

سالم الكبتي

اترك تعليق