المقالة

الـــكــــرة

الكرة جرم مستدير والجرم المستدير اكثر الاجرام اكتمالاً لانه يحوي كل الاشكال الهندسية كما يقول ارسطو وهو يستهوينا كما لا يستهوي اي جرم اخر ربما بسبب اغواء كامن في عبقرية الاستدارة لان الجسم الكروي وحده مؤهل لان يتدحرج وهو يستدرجنا لارتكاب الخطيئة يستدرجنا لاقبال عليه لكي يخدعنا لان في اقبالنا عليه شريط ادباره عنا، انه كالموت الذي لا يجتمع معه ابداً تحت سقف واحد، اذا حضر كنا في غياب الامر كله رهين القدم، رهين ركلة القدم لان ناموس الكرة يقول ان هذه الجرم هو غنيمة رديفة للكون والفوز بها رهين بالكون اي رهين الفوز بالحقيقة.. لا نفوز بها لنحتفظ بها ولكن قدرها التحول كالكرة تماماً والى ان الفوز يستدعي دحرجتها لان الاحتفاظ بها يعني فقده، ولان الكرة في الحقيقة عدوها السكوت وقدرها الحركة.. من هنا حدث جدل الكر والفر.. اذا نلنا الكرة تخلصنا منها لان في التخلص منها يمكن نيلها كما يقضي ناموسها.. واذا تخلصنا منها اسرعنا في طلبها لان في البحث عنها «لا غنى عن نيلها» تكمن حقيقتها تستهوينا الكرة لانها اللهو المعبر عن الحياه! ألم يوصفه افلاطون بان انبل ضروب الحياة هو ان يحيا الانسان لاهياً؟!.

– 2-

ثمة سر في تخفية الكرة في «عبها» هو السر يكمن في «الاستسرار» يكمن في الاستغلاق لان مبدأ التكوين يشترط الوفاء بعهد الاحتجاب بطبيعة الاحتجاب ليس غاية في ذاته ولكنه حجب لمبدأ اخر يستوجب الاخفاء ولا شيء في الوجود يعشق ناموس الاستخفاء كالدبوبية!.

بلى لقد كان مبدأ التكور حيلة الربوبية في استكمال ملكوت العزلة الخالدة لتحريك خيوط الدمي الدنيوية من وراء سور الخفاء ولهذا صارت الكرة «الجرم المستدير» رمزاً للالهوية في كل معتقدات العالم القديم.

وقد سنت الامم تقليداً ابتنى بموجبه هياكل العبادة في كيانات مستديرة تقديساً للاستدارة وايماناً بربوبية الاجرام الكروية فابنية الاضرحة تتخد شكلاً كروياً وقباب الكنائس او المساجد ومعابد القدماء تشير ايضاً شكل الكرة تيمنا بالروح التي تسكن الجرم الكروي.

اما في ديانتي مصر القديمة وقدماء الليبيين فقد بلغ الايمان بربوبية الشكل الكروي حداً جعل هاتين الامتين ترسم اسم الرب«را Ra» رع على شكل دائرة في ابجديتها وهو حرف الراء وهو ما غيره في ابجدية اهل الصحراء الكبرى ايضاً «الطوارق» ارثاً عن ابجدية اسلافهم قدماء الليبين.

– 3 –

في صحراء تحجما الليبين هذه كان اول لقاء لي مع هذه الجرم العجيب فمنذ عقلت الدنيا وجدت عقلاء القبيلة ينامون بتلفيف الكرة من جلود الحيوانات ويحشون جوفها بالخرق البالية.. ولكن الجلود تتيبس مع الزمن فتتحجر الكرة ليستحيل ركلها بالاقدام.. ولكن ركل الكرة بالاقدام لم يكن قرينة هؤلاء المكابرين اصلاً، لانانا موس؟ الاسلاف حرم عليهم استخدام اطراف البدن في الحياة الدنيوية لا يصفقون باليد ابداً ولا ياكلون الاطعمة بغير الملاعق المدخونة من الاخشاب ولا يركلون بالاقدام لان مثل هذه الافعال عمل قبيح يليق بالرعاع لا بالاكابر.

ولهذا يعدون العصي المعقوفة خصيصاً لاستخدامها في دحرجة الكرة نحر ليل مشهود لابد ان يشهد همينة البدر كما تشهد الصحراء جمهرة النساء والاطفال والشيوخ ابتهاجاً بحلول موسم الفرح، اما الرجال فيقبلون بالبستهم التقليدية الزرقاء واقنعتهم المهيبة ليقرعوا الكرة بروح الفرسان يقبلون باستكبار من قرر ان يشرك في غزوة او حرب لا بمدح من يريد ان يشارك في لهو! كان هؤلاء الرجال الذين عرفتهم القبائل في الحروب ابطالاً يريدون ان يقولوا بمسلكهم هذا ان الذهاب الى مساحة اللعب عمل لا يختلف عن الذهاب الى ساحة الحرب فكليهما يشترط روح الجد والاطفال اكثر الخلق قدرة وتلقين درس في هذا المجال..!.

تبدأ مواسم اللعب بتوليه احد الشيوخ حكماً بتوزيع المضارب الخشبية وتحديد المرمي لجانبين وغالباً ما يكون المرمى وادياً يبعد عن الوادي الاخر مسافة خرافيه ثم يبدأ اللعب ابتداء الحرب! لان اللعب في عرف القوم ماهو الا استعارة الحرب كما ان الحرب ليست سوى استعارة اللعب.. وقد استوطن هذه اليقين اعماقنا نحن الصغار الذين توقف دورنا عند الفرجة على اللعب لا المشاركة في اللعب فروح الجد الذي يمارس بها ابطال القبيلة هذه اللعبة انها تبرهن على ان الاكابر سواء حقيقة اللعب نهائياً فاستبسلوا كانهم يخوضون حرباً ولن يحدث مرة ان انتهت اللعبة التي تستمر عادة حتى مطلع الفجر دون نتائج دموية يصاب فيها الكثيرون باخطر الجراح.

– 4 –

ثم جاء دورنا لدحرجة الكرة كنا نلفق هذه الاعجوبة من خرق القماش لتخطيها لنا الامهات في جرم كروي نتسابق وراءه الليالي المقمرة بطريقتين.. ولكن الكرة الملفقة من خرق القماش كثيراً ما كانت تخدعنا لان بعض الصغار الدهاة كانوا يلجأون الى الغش في اللعب.. فيثقبون بابهام اقدامهم جرم الكرة ليثبتوا بها ثم يفرون بها كالريح ليستودعوها مرمى الخصم بيسر شديد.

ولن تفلح في قطع دابر هذا الغش الا عندما عبثت الصحراء في وجه القبائل فحكمت على امة الحرية الذهاب للاستقرار وراء اسوار الواحات هنالك كانت كرة اخرى في انتظارنا كرة المطاط.

كرة المطاط احكم استدارة واقوى جرماً وايسر دحرجة فممكن نستسلم لاغرائها الى ان قادتنا الاقدار الى بداية المعرفة ذهبنا الى المدارس فعرفنا الى جانب الخطيئة كرة من جنس اعجب الكرة الملفقة من الجلد.

صارت كرة الجلد بحجمها المهيب وملمسها مرحلة اخيرة دشنت علاقتي بهذا الجرم ووضعت لها النهاية ذلك لان اساتذة المدرسة لم يقتنعوا بدحرجتنا لكرة القدم في حصة الرياضة البدنية وهي كرة السلة.

لا اعرف لماذا شعرت بعداوة خفية نحو هذه اللعبة منذ اول يوم ربما لان اليقين الذي ورثته عن اسلافي في الصحراء هو السبب ولكنها خلقت لتركل بالارجل وناموس الاسلاف الذي حرم على اجدادي استخدام اليد في المعاملات الدنيوية شكل عائقاً نفسياً في علاقتي مع هذه البدعة فاحجمت عن المشاركة فيها فكانوا يلحون ويجاهدون في استدراجي لمشاركتهم اللعب قاومت ولكني استسلمت اخيراً.

فقد وقفت خلف السلة في قلب الساحة منتظراً قدوم الكرة اعترف انني لم اتلقاها طوال الزمن انتظرت المعشوقة خلف السلة التي عبثوا بناموسها انتظرتها وفي حلقي غصة وفي رأسي دوار فجأة ابصرتها تحلق في الفضاء رأيتها في طيرانها كياناً مهجوراً كأنها تستنجد بي فقدرت ان اجدها واعيدها في وطنها الى القدم التي عرفتها بدأت تهوى فوق رأسي فاصيبت يداي بالشلل ولكن قدمي هي التي هرعت لاستقبالها ثم قررت ان تنالها بفقدها لان الكرة لم تخلق لتطير فتهوي لتتحطم ولكنها خلقت لتتدحرج والجرم الذي يتدحرج هو الجرم الوحيد الذي لا ينسكر..

– 5 –

كان ذلك اخر عهدي بالكرة لان عليّ في ذلك اليوم اثار استنكار الزملاء اما الاساتذة فطرودني من اللعب لانني خالفت ناموس اللعب.

ولكن هل كان ذلك قطيعة نهائية مع الكرة ام صفقة تنازلت عنها مقابل تحويل العالم الى كرة اذن ماهي الشهوة لخلق علاقة مع الكرة لنيل العالم حتى اذا نلناه اكتشفنا ان حقيقة العالم ليست في الفوز بالعالم ولكن في التخلي عن العالم مثله مثل الكرة تماماً؟!.

05.08.2010

مقالات ذات علاقة

حتّى لا ينفرط عقد العهد

إبراهيم الكوني

الوقت…

ناجي الحربي

العقيد الجهمي

منصور أبوشناف

اترك تعليق