المقالة

مراجعة في المنجز الغنائي للفنان أحمد فكّرون

 

بدأ الفنّان ” أحمد فكّرون ” مشواره الفنّي الفعلي في سنة 1975 – بإصداره لشريطه الأول، الذي تعنوَّن باسم أولى أغنياته ( أوعدني ) في إحدى العواصم الأوربية، ومنذ ذلك الحين وإلى حيننا الراهن، وبإجراء عملية حسابية يسيرة، سنتبيّن أنّ عمره الفنّي، قد وصل إلى عامه الرابع والثلاثين، داعياً المولى له ولكم بالعمر المديد والسعيد، وبالتحري عن عدد الأشرطة، التي أصدرها خلال هذه المدة، سنكتشف أنها بلغت ستة أشرطة وكفى، فبعد إصداره لشريطه المذكور، اتـّبعه بشريطه الثاني ( شوارع المدينة ) في سنة 1982 – ثم شريط ( كلمات حب ) في عام 1986 – وبعد انتظار لمدة أربعة أعوام، ألحقه بشريط ( انتظار ) ثم اعتكف دهراً، حتى أنتج شريط ( سندباد ) في عام 1996 – وأخيراً وليس أخراً، ومنذ ما يناهز الخمس سنوات، اتـّحفنا وشنّف أسماعنا بشريط ( عيون سالمة ) الذي حمل اسم إحدى أغانيه، التي كتبها شاعر المحكية ” الصيد الرقيعي ” التي يقول في بعض مقاطعها :

فـ الليل.. في نجوى الغريب وشوقه

فـ الحزن.. في ارعود الشتا وابروقه

تخطر عليا سالمة

و نشتاق لصمت عيونها

* * *

فـ الحب.. فـ أنفاسه.. فـ نبض عروقه

فـ الياس.. وأوصال الأمل محروقة

تصعب عليا سالمة

و تصعب دموع عيونها

* * *

عيون سالمة تذكار

على جبين غيمة عاشقة

عيون سالمة أشعار

في خيال ليلة بارقة

عيون سالمة أسرار

فـ أحضان نجمة امفارقة

عيون سالمة أقدار

فـ أحزان مركب غارقة

* * *

عيون سالمة تذكار

فكرة وشمعة ساهرة محتارة

عيون سالمة أشعار

و أحلام نخلة شامخة جبارة

عيون سالمة أسرار

شباك معبد شاحبات أنواره

عيون سالمة أقدار

عنقود موجة عاتية مغيارة

* * *

سحر الوجود ومصدره ومصيره.. عيون سالمة تحكيه

و بعد الفضا وحيرته وتحييره.. عيون سالمة تخفيه

حلم النسيم وصحوته وتكديره.. عيون سالمة تواريه

و إجلال البحر ورهبته وهديره.. عيون سالمة تجاريه

* * *

فـ عيون سالمة يبني العز أسوار

عليها أبراج امحصنة وعنيدة

فـ عيون سالمة يرسم الظل أشجار

و تطلع سنابل واعدة وجديدة

فـ عيون سالمة تهاجر اطيور وأنهار

و تقصد اشطوط املونة وبعيدة

و ممّا يُلاحظ على كلمات هذه الأغنية، كما قرأتم بأعينكم، أنها نُظـِمت على أوزان الشعر المحكي لا الغنائي، وقد أبدع الفنان ” أحمد فكّرون ” في تلحينها وأدائها، لصعوبة تلحين هذا النمط الشعري، حتى جعلها تظهر بطابع يتباين عمّا هو مسموع من غناء في حينه، ولم تألفه الآذان، فيما تسمع وسمعت من غناء سابق، وأتوقع أنْ يحمل مقبل الأيام أنباءً – سارة بالطبع – عن إصداره لشريطه الجديد، الذي طال انتظارنا له، لمضي فترة لا بأس بها عن أخر منجز غنائي قدمه لمحبيه.

وقد احتوت هذه الأشرطة الستة – فضلاً عن بعض المقطوعات الموسيقية – من الأغنيات، ما مجموعه ( 56 ) أغنية، بحسب ما أحسبُ، لأنّ ثمة أغنيات أخريات، لم يُعِد الفنان ” أحمد فكّرون ” طرحها، بعد نفادها من السوق، ولست أذكرها ؛ وهنا أدعوك عزيزي القارئ، مرةً أخرى، لإجراء عملية حسابية، هي في مقدور الجميع، لتتعرف من خلالها على معدل إنتاج الأشرطة، وكذلك معدل الأغاني بالنسبة للفنان ” أحمد فكّرون ” فإذا قسّمت عمره الفنّي على عدد أشرطته بهذه الكيفية : ( 34 / 6 ) ستحصل على الرقم ( 5.6 ) ووحدته ( السنة ) أي بتوضيح أكثر، أنه يصدر شريطاً كل خمس سنوات، على وجه التقريب، من دون أنْ نرفع الكسر، فيصبح معدل الإنتاج لكل ست سنوات، بدلاً من خمس سنين، كي لا نبخسه حقه، أما معدل الأغاني، فسنقوم بما قمنا به منذ قليل، مع جعل بسط العملية الفائتة الإجراء، مقاماً لعمليتنا هذه، فتصبح على هذا النحو : ( 56 / 34 = 1.6 ) أغنية، أي بقصد أكثر دقة، أنه يصدر ما يقارب الأغنيتين في كل عام، ومن هذه النتائج الحسابية، تصل عزيزي القارئ، إلى قناعة ٍ لا ريب في أنني أوافقك عليها، مفادها أنّ معدل إنتاج الفنان ” أحمد فكّرون ” ضئيل جداً، لجهة الأشرطة، ومن ثم، من حيث الأغنيات، لأنّ بزيادة إحداها تزداد الأخرى، تبعاً لذلك، وهذا أمر معروف.

هذا إذا ما أجرينا مقارنة ً بينه وبين غيره من فناني اليوم والأمس القريب، أي الذين بدؤوا الغناء في الثلاثين سنة المنفرطة، فأقل هؤلاء إنتاجاً، نراه يصدر سنوياً، شريطاً واحداً، وقد لا يكتفي به، حيث يقدّم حفلات ساهرة على مدار السنة في الداخل والخارج، وأغنيات أخرى متفرقة، مع غيره من مغنين ومغنيات، في شكل ( دويتو ) أو ( ديالوغ ).

و في مسألة العمر الفنّي ومعدل الإنتاج، يكمن معيارٌ تقليدي، لكنه مهم جداً، لتقييم أداء أي فنان، إما بالإيجاب أو بالسلب، فعربياً، عادة ً ما كان يُنظرُ إلى الفنان المُقـِّل في إصداراته الفنية، إلى أنه فنان، ليس في سويّة فنية طيبة، كي تضعه على صدارة التمايز الفنّي، بل إنه – والحال كذلك – لا يستطيع حتى أنْ يدخل في مضمار التنافس مع زملائه الفنانين، وهذا أمر بديهي، لأنّ عليه أنْ يكون حاضراً على الدوام بأعماله الجديدة، لئلا يُستثنى من أي تنافس شريف، من شأنه أنْ يوصله إلى رضى المستمعين عنه، الذين يُقبـِلون بالدرجة الأولى على كل ما هو جديد وجيد، والمقـِّل من الفنانين، إذ يصبح جليس الظل راكناً إلى الراحة، وبعيداً عن جمهوره، غالباً ما تنصرف عنه الأسماع، ولا تعود تتـّذكره ولا تذكره إلا في حديث الذكريات، وإنْ كان يحوز ملكات ومقومات المغني المتمكن، ففي تاريخ الأغنية العربية المعاصرة، عُرف عن بعض المغنين، امتلاكه لملكات الغناء، مثل الفنّان المصري ” عادل مأمون ” غير أنه كان مُقلاً في إنتاجه، ما جعل الجماهير تستبعده من محيط دائرة التنافس – مع أنّ لديه أكثر من مئتي أغنية – مع الفنانين الذين كانوا يتمتعون بغزارة في الإنتاج مثل ” فريد الأطرش ” و” عبد الحليم حافظ ” وغيرهما من منافسين، وصل الرصيد الغنائي للواحد منهم إلى ما يفوق خمسمئة أغنية، وهذا ما جعلني أصل إلى رأي مهم، لا يصل إلى التأصيل والتنظير الفني، فبعد دراسة مستفيضة في المنتج الغنائي لكبار الفنانين العرب، وجدت بالمصادفة السمعية، أنّ أغلبهم، كان يصدر في الغالب الأعم، عشرين أغنية سنوياً، لا أكثر ولا أقل من ذلك.

أبدأ هذه الفقرة بختام الفقرة السابقة، وبهذه المشاكلة اللغوية، فإذا كانت ” الكثرة تغلب الشجاعة ” كما نقول نحن الليبيين، فإنني أرى غنائياً، بأنّ ” الغزارة الرديئة لا تغلب الملكة الفنية ” مع أنّ غزير الإنتاج من الفنانين، يكون دوماً أقرب إلى المستمع، ممّن هو يفوقه فنياً، وليس أدل على ذلك من، أنّ غربان الملاهي الليلية، حاضرة أسماؤهم لدى المشاهد والمستمع أكثر من أي مبدع حقيقي، لكنّ الناس تنصرف عنهم، إذا شاءت التطريب، وسل عقلك من هي حاضرة اليوم أكثر لدى الناس، وخصوصاً من الجيل الجديد، هل هي ” هيفاء وهبي ” أم السيدة ” فيروز ” ؟ وهنا لست أضع لومي على السيدة ” فيروز ” لأنها أغزر وأجود إنتاجاً من الأولى، لكنّ الإعلام هو من أتاح الفرصة لمن هي في مثل الأولى وشبيهاتها من حسناوات الغزو الفضائي المتلفز – اللاواتي اتخذن الغناء كواجهة ليطلن من نافذتها على المشاهد لأجل مرام ٍ أخرى، الله يعلم كنهها – ليعلين على الجميع، وحقيقة ً لست أعي ما سبب حنق من له صلة بالأغنية العربية وكذلك من العامة، من غزو الموجة الهابطة أو الساقطة للأسواق، واكتساحها عالم الأغنية ؟ ألا يكفيهم ما تركه الرواد الأولون من فنون غنائية متنوعة، فإذا حسبنا بطريقة عشوائية، ما أورثه لنا عشرة من الفنانين الفطاحلة، بناء على المعدل الذي تركناه بعاليه، سنجد أنّ بحوزتنا ما لا يقلُّ عن خمس ألاف أغنية، أجدها كافية لصدِّ هذا الزحف الهمجي، لما تضخه هذه القنوات من سموم وتخريب للذوق العام، وما ينتجه أغلب مطربي هذا الزمن من موسيقا، هي الأقرب إلى فنون الشعوذة التي لا يفلح مبتدعها، وتتبخر وتتطاير على نحو أسرع من أي مائع سائل، بفعل النار.

صحيح أنّ الفنان ” أحمد فكّرون ” نجمٌ عالمي، لكنه عربي الانتماء والهوية، لذا لا أجد بأساً، في أنْ أخضعه لهذا المحك الفني المتعلق بإنتاجه، لنرى إلام سنصل بعد حين ؟ فهو وكما أسلفت الحديث، فنانٌ مُقـِّـلٌ في الإنتاج إلى حذٍّ بعيد، ويمكن أنْ يكمن ذلك، في أسباب أجهلها، أو أخرى أتوقعها، كأنْ يكون أهمها، عدم وجود المنتج الذي يتعامل بحرفية فائقة مع أعماله، ويعي قيمتها الفنية لجهة الدعاية واختيار التوقيت والظرف المناسبين لإذاعتها وإنزالها إلى الأسواق، وما إليها من حيثيات أخريات، قد لا تهم تفاصيلها القارئ، الذي هو بالقطع مستمعٌ، إلا أنّ أعمال الفنان ” أحمد فكّرون ” وعلى الرغم من قلتها، ما تزال إلى الآن حاضرة في وجدان المتلقي، ذلك أنه – وكما أتصوَّر – قد وضع في حُسبانه من البداية، ضرورة أنْ يُقدَّم العمل الغنائي، الذي يمتلك من مقومات البقاء والاستمرارية، ما يجعله يصمد في وجه التقادم، وذلك باختياره للحن الحميل والكلمة المُعبِّرة والتوزيع الموسيقي الذكي، وهذا ما أحسُّ به كلما أنصتُ إلى أعماله، فأشعر بأنها صدرت حديثاً، على الرغم من تكرار استماعي إليها طيلة الفترة التي تلت إصدارها، فهو وإنْ تأخر في طرح أعماله الجديدة وقلـَّـل من وجودها، فذلك – وكما أخمّن – أنه يدرك بأنّ قديمه ما فتئ يحوز إعجاب المتلقي، وباقياً في ذاكرة الأجيال، ولو ضؤل عدده، لكونه منذ انطلاقته الأولى وحتى اليوم، ما أنفك يحرص على المبدأ الغنائي الذي رفع شعاره بذاته، فهذا ما تيقنت به من خلال استماعي إلى أعماله الأخيرة، التي لم يضمها شريطاً بعد، لكني أنصت إليها بشكل مفرد، مثل أغنية ( موش كفاية ) و( سلفني القمر ) و( يا صاحبي ) و( النورس ) فما يزال شعار التميُّز والجدِّ والتجديد، في كلماته وألحانه وصوته وأدائه، خفاقاً وعالياً مثلما علو صوته في لحظات الجواب الصوتي الذي عرفته به، وكعهدي به، وهو في أوج شبابه.

بنغازي _ ليبيا:19 / 5 / 2009

مقالات ذات علاقة

الواقع الليبي وتداعياته على الأداء الأكاديمي

المشرف العام

ساحل المنشية

زكريا العنقودي

بين ولادتين: قراءة في مذكرات عمر المختار الوافي: بين الأمل والألم

عمر أبوالقاسم الككلي

اترك تعليق