شعر

أغاني ماريش

1- ماريش

ماريش كانت ذاتَ يومٍ عشبة في مهب الريح

نمت في ظل شجرة

وفي ظلها تمت..

كانت ذات يومٍ، ريشة تراقص سقوطها

وفي راحتي استقرت طائراً وعش..

ذات أصيلٍ مشمس تفتحت في ذهني زهرة في قش

أنا الشفتان

وهي وجهي المبتسم

أنا البوح،

وهي سري المرجع: منذ أن عصفت بها الرياح والمطر

ولجتها جنيناً في رحم

تكبر كلما أكبر

حتى أصبحُ تاريخَ عشقها

وتصبحُ تضاريس الحمل

وحتى يتلاشى الوحم والغثيان

وحتى صيحة الميلاد

ستظل ماريش، دولة في القلب.

2- هدهدة

موغلاً الليل في الرحيل

نباح يجرح السكون،

وثغاء يناجي النجوم

أوها.. أوها.. أوها..

نائماً كان القمر،

تحت لحافه أغمض عينيه،

والنجوم تغالب النعاس

تهدهد خوفه الصغير

والأم أرجوحة الحنان

ضفائر تراقص الكرى،

جفناها صدفتان

أطبقتا على حلم،

والثدي قمر

أطلّ من تحت اللحاف، جائعاً كالصيف

أوها.. أوها.. أوها..

سيقبل الصباح، ويصمت النباح

ويقضم الثغاء أعشابه في الظل

ستكبر يا صغير، وتسرج الفرس

تمضي إلى الغدير،

فتملأ الصبية جرتها بالفرح

ستكبر يا صغير

لننصب الخيام، وأرقص في العرس

سأحضن الأحفاد، وتقري ألف ضيف

وستغمض جفني،

وتسجي بيديك عظامي في الظل

أوها.. أوها.. أوها..

موغلاً الليل في الرحيل

نائماً كان القمر

والنجوم ثقلت جفونها

وتثاءبت في ضجر

والأم لا تزال، تناجي النعاس

وتهدهد حلم.

3- أغنية استسقاء

أهطل يا مطر

أهطل، اهطل يا مطر

على بيتنا الصغير

وأطرد اليباب، من حقلنا اليائس

أهطل يا مطر

أهطل على الرمان

قبله في النحرِ، ونحره الأحمر..

أهطل على الزيتون

قبله في العيون،

لعلها تسود

فنملأ الجرار بدمعه الفواح..

وأهطل على الخوخ

أمسح صدره الشامخ

ستفرح الصبايا، وتحزن الصبية

التي خوخها يبور..

أهطل على الوديان

واسقي جذور التين

غداً في الصباح

تستيقظ البنات، يسعين في البكور

يقطفنه بيد،

والأخرى تشد الفتيان الناعسين..

أهطل في الصباح

واغسل وجه الأرض

سيرقب الأطفال في خشوع

تنفس التراب والحصى المبهور..

أهطل عند المساء

دبيبك الخفيف

هرير قطة عند المدفأة..

أهطل عند الليل

خطوك اللطيف

أنامل تهدهد الأحلام..

أهطل يا مطر

على بيتنا الصغير

ثم انحدر كاللص

حذراً كالقط

وباغت الصبية،

التي تدهن شعرها بالزيت..

4- عام الثلج

عند المغيب

مغيب الشمس التي لم ترْ

انحدرت قدمان نحو ماريش

طاعنتان في اختراق الدروب

تلبسان جور الصقيع

أزرق بلون التورم والألم

وهرولت الرياح مولولة بن الوديان

حاسرة الرأس حافية

واقشعرت الجبال في تشاؤم

عارية تحت تجهم السماء

عند المشارف

لا له أفق كلاب مجنون النباح

يطويه الموج تاره، ثم يلفظه

حتى تلاشى في لجة الهدير..

عندها..

التجأت إلى الشقوق الرياحُ

كأنها أدركت سر الصفير

وضمت الأشجار شعرها المنفوش

وقبل أن ينهكه صخب الصمت المفاجئ

أطبقت الجبال جفونها

ونامت تحت دثارها الصوفي

تعرت الأرض رويداً.. رويداً

وكشفت عن بطنها العاجي

وكان الندف الملحي يهبط متمهلاً

على لحيته الثلجية

ليس لعينيه الساخرتين

بريقهما القديم

وضم أطراف العباءة

شراعاً يبحر فوق رغوة التراب

طاعنتان قدماه في اختراق الدروب

لكنهما الآن حتى الركبتين

في انبهار الليل

آه.. ما دوى السخرية وخفة الدم

الدم الذي لا يجري في العروق،

وبين أسنانه تصطك أورده في صمت

عندما يصل البيت

سيدهن أطرافه بالزيت،

ويضحك في سره

ربما كان الموت

أيكون أبيضاً وناصعاً كسريرته؟

أيكون طفلاً؟.. وهذا مهده

أم شيخاً موغلاً في الشيب؟.. عند المشارف

حيث لا نباح يرحب

ولا ذيول تحييه

ولكنه وبر الكلاب

تذرفه السماء بلا انقطاع

عند المشارف

يمكنه أن يسمع نفس البيوت

البيوت التي ولجها جميعاً..

بابتسامة تثلج الصدر

ها هو صدره يثلج

يحضنه ضيفه القطبي

ممتداً فوق شيب الأرض بلا تأوه

متوجهاً للقبلة كأنه يصلي

ضم أطراف العباءة

توسد نعله وشهّد

وأطبق جفنيه على ليلته البيضاء

وطيف ابتسامة ظلت عالقة،

حيث دثره الثلج

ونام..

5- أغنية الأرض

..1..

صهلت عشرون فرس

وأيقظت سنابكها سرب الزغاريد

سروجها جمر الأهازيج

والراجلون غمام أخطأ ماريش،

من على التلال شيعتهم مناديل الدعاء

سحابة من غبار تظهر وتغيب..

..2..

أول من يبرق في الذاكرة جدي

على فرسه البيضاء شمخت سبعون عاماً وبندقية

غصن اللوز حين يعريه الخريف

يطرح زهو النوار ويكشف صدره المطر

حاجباه هلالان تحت حكمة السحاب

والشفتان قط بري ينبش سر الثلج..

..3..

ثن تبسم في الذاكرة عمي

على حصانه الأزرق شراع والموج صهيل

على صدره تقاطعت عشرون عاماً

على احمرارها سكنت الرصاصات

صفراء العويل

شقائق النعمان حين يودعها الربيع

ترقص للريح رقصة الرحيل..

..4..

ثم يسقط خالي ندبة في القلب،

على فرسه السوداء

قمر على صهوة الليل

غصن الزيتون حين تثقله الثمار

ينحني لقبلة الأرض

عيناه السوداوتان الباسمتان شامتان،

والنهر خد..

..5..

“الرابطي”* يأتي وحيداً إلى الذاكرة

وحيداً وحزين مثل جمرة تنشج في الريح،

خلف وجهه النحاسي يتنفس الحجر

عيناه نصلان لامعان مغروسان في الجمر

والشاربان عقربا ساعة

توقفا على الثامنة والثلث..

..6..

الشمس غير مبالية حين عادوا

كانت كالعادة تتبرج للقاء الليل

ولم يعننا تمنعها المخجل

وماريش بركة من قلق

حين لمحناهم في ظل ارتباكها

طيوراً تتوغل في الشفق

..7..

صهلت عشرون فرس

وأيقظت سنابكها سرب الزغاريد

سرج الفرس الأبيض خالٍ

وصهيلها أفجع الشفق وأسقط الليل في القلب

وزغردت النساء لغصن اللوز العاري

كاشفاً صدره تحت سحاب الهاني..

..8..

شقائق النعمان حين يودعها الربيع

ترقص للريح رقصة الرحيل

تنام تحت صفيره وتستيقظ في العام التالي

غصن الزيتون حين تثقله الثمار

ينحني لقبلة الأرض

فتدمع عيونها السوداء في ليل المشاعل..

..9..

في الصباح يعود راعي الحقول

راجلاً وحيداً مودعاً ماريش

تحت وجهه المضرج ينبض الموت

عيناه نصلان لامعان مغروسان في الألم

وشارباه عقربا ساعة

توقفا إلى الأبد على الثامنة والثلث..

___________________________________________________________

* الرابطي.. الناطور أو الحارس الذي يرعى الحقول عند نضوج ثمار الزيتون.

مجلة “الفصول الربعة”.. العدد:61/ الطير-1992

مقالات ذات علاقة

كن منصفي

يوسف سليمان

37 عاماً

المشرف العام

لم يتغير شيء في غيابك

محمد عبدالله

اترك تعليق