المقالة

ضرورة الاحتياط من التاريخ

لا شك أن علاقة الشرق بالتاريخ مختلفة عن علاقة الغرب به، هناك إرادة ثقافية في الغرب تنحرف بالتاريخ عن مساره، أما في الشرق فهناك تكرار لما هو قديم يطلق عليه اسم جديد٬ إرادة التاريخ في الغرب تعمل على وصول الإنسان إلى أفضل معرفة بالحياة والناس والأشياء٬ أما في الشرق فهو حقل من الألاعيب بعيد عن بلاغة فهم الحاضر، وقريب من الفشل في تعديل شكل المستقبل، نحن لا نفكر في أنفسنا أنثروبولوجيا٬ بل نفكر في أنفسنا بطريقة تقول: ما يصلح لشخص يصلح لكل الناس٬ تاريخنا يعلمنا الكيفية التي نجلس بها إلى جانب الآخر في صمت مع بعض النوايا السيئة٬ أما تاريخهم فيعلمهم أن المسافة بينك وبين الآخر لا تعني فقط اختلافك عنه بل تعني قدرتك على تحريكه وتغييره٬ ويعني أن العدالة في توزيع الثقافة أهم من العدالة في توزيع الثروة٬ من وجهة نظر جورج ستاينر القراءة الجيدة هي الخوض في تبادل شامل٬ خسارة هذا التبادل في مجتمعنا كانت نتيجته حرماننا من تأسيس إرادة تاريخية.

نتيجة أخرى أهم هي أننا خسرنا الطريقة التي من خلالها يمكن لمجتمعنا أن يعرف ما يجب أن يتجنبه٬ وأن يعرف بسهولة أن الإفراط في عدم فهم تفاصيل الحياة اليومية بكل ما فيها من إرباك وتردد يؤدي إلى عدم فهم مغزى الحياة وعدم فهم الطابع التاريخي لحياتنا اليومية٬ كل من يعتبر هذا الفهم خطوة زائدة في طريق وصوله لسلطة، سياسية أو معرفية، هو في الحقيقة يخاطر برسم حدود الهوية الحقيقية لما ستكون له سلطة عليه٬ الناس تصنع التاريخ في البيت٬ في المقهى٬ في المكتبة٬ في الحديقة ومن خلال الصداقة والحب٬ المدينة التي تشبه السهل المقفر لا تكتب شيئًا٬ البلد الذي لا يعيش حالة الشغف ولا يفكر في الحياة كتجربة ممتعة يشبه المزاج الرديء أو ساحة مزعجة وقذرة، وهو مكان ليس فيه ما يمكن سرده أو كتابته كتاريخ٬ لأن التاريخ في نهاية الأمر ليس سوى صياغة للحياة لا تخلو من ذاتية الحياة بكل تفاصيلها، وليس قوائم أسماء رجال السياسة والجنرالات.

التاريخ الذي يتحدث عن الشخصيات العظيمة والأحداث العظيمة والمشغول بالأمانة السلبية تجاه الأصل مات في اللحظة التي ولد فيها تاريخ يتحدث عن ضوضاء الحياة اليومية وعن المشاحنات والمشاجرات بين الأفكار التي يقبلها رجل الشارع أو يرفضها، لا يصنع التاريخَ من ينام والمسدس بجانب سريره٬ يصنع التاريخَ من ينام والكتاب بجانب سريره، الشعوب الأكثر التصاقًا بالحياة والمشغولة بعيش هذه الحياة تعيش بعد عصرها ولا تشعر بالقلق لأنها تدرك جيدًا أنها تصنع التاريخ، وأن هناك من سيكون مهمومًا بالكتابة عنها، أما الشعوب التي تعيش وهي مغرمة بطابعها التهديمي، وتستمتع بابتكار الموت بدل ابتكار الحياة، هي شعوب كئيبة وقلقة، ولأن الحياة لا تشغلها فلن تعيش سوى عصرها المرّ ولن تجد من يشغل نفسه بكتابة حرف واحد عنها.

مقالات ذات علاقة

إِبْـــــدَاعُ شَــاعِــرِ الوَطَــنِ: أحمد رفيق المهدوي.. وَقِصَّةُ القَطِيعَةِ الثَّقَافِيَّةِ بَيْنَ الأَجْيَالِ!

خالد السحاتي

تقاطعات متلازمة للتفنيص الليبي!!

محمد السنوسي الغزالي

المجتمع المغلق يقذف طلائعه المثقفة نحو المنفى النفسي

يوسف القويري

اترك تعليق