زهرة ملونة
المقالة

حكاية الألوان في لغة الضوء والظلام

بوابة الوسط

حين أُصبنا صغارا بمرض الحصبة المعدي (النمنام) في وقت لم تكن المساعدة الطبية متاحة في المساحة التي يمكننا التنقل فيها، كان أهلنا يكتفون بتغطيتنا ببطانية حمراء وترك جهازنا المناعي في مواجهة ميكروب هذا المرض، غير أن السؤال حيال اختيار الغطاء الأحمر للمصابين بهذا المرض ظل يلاحقني، ولماذا كان اللون الأحمر بالذات ملاذا وحيدا للشفاء من الحصبة، إلى أن طالعت كتابا مهما وشيقا (قصة الألوان) تأليف أستاذ تاريخ العمارة والفنون الجميلة بجامعة كافوشكاري بالبندقية وبوليتيكنيك ميلانو ــ 1983: مانْليو بروزاتين. ترجمه عن الإيطالية: السنوسي استيته، متخرج من أكاديمية روما للفنون الجميلة، متعاون بقسم العمارة، كلية الهندسة، جامعة بنغازي. ضمن إصدارات: مشروع نقل المعارف، هيئة البحرين للثقافة والآثار. الطبعة الأولى للترجمة العربية: مطبعة كركي، بيروت ـ 2018. 

يُذكر في تصدير هذا الكتاب “الصغير” الذي صدر في إيطاليا سنة 1983: “عالم الألوان عالم ساحر، ثري، عجيب. هذا ما يكتشفه قارئ الكتاب: يكتشف أن اللون له حسه وجسده وهيئته وشكله ونسقه وحركته وشغفه، وله أيضا لونه!. يحيل الكتاب إلى مراجع متنوعة من الفلاسفة إلى علماء الفيزياء وكبار الرسامين الذين طوروا نظرية الألوان عبر القرون. هكذا يحيل، وبالمتعة نفسها، إلى إسحق نيوتن وبول كلي وفيتغنشتاين وإلى تأملات فكرية معاصرة أخرى. وهو إضافة إلى هذا، يتناول طرق صنع الألوان واستعمالاتها وتحولاتها عبر العصور، انتهاء بالانعطافة الصناعية وما أدت إليه من صبغات كيميائية عنيفة.”.
بالعودة إلى سؤالي السابق: من أين يتحدر ربطنا للون الأحمر بالحياة أو مقاومة الموت؟ كانت الإجابة المحتملة في الكتاب “إن آدم، أول اسم بشري، وفقا للموروث اليهودي، يعني “أحمر” و “حي”، وحتى في اللغات ذات الأصل السلافي: “أحمر” يعادل “حي وجميل”. ومقابل الأصل والتجريد غير المادي للأبيض والأسود (ضوء ظلمات) لونَي الفوضى والتنبؤ الكهنوتي، يمثل أحمرُ الدم والحياة الطارد الأقوى للموت الكابي”. ومن المفارق، أو لعل ثنائية الحياة والجمال التي يمثلها الأحمر هي التي جعلتنا في تلك الفترة نستخدم البطانية الحمراء في العلاج من المرض وفي الأعراس حيث تزف العروس في كرمودها المغطى بالبطانية الحمراء نفسها. 

أسئلة كثيرة إزاء اللون كانت تراودني وكان هذا الكتاب لا يفتأ يجيب عنها واحدا واحدا، عن سبب تطيرنا من اللون الأسود ليصبح رمزا للحداد والحزن، ولماذا ترتدي المرأة اللون الأبيض فترة رباطها أو حدادها على زوجها بعكس المفهوم الدارج عن هذا اللون؟. أسئلة عن ملابس الجيوش والمقاتلين كيف تختار ألوانها، والرايات التي يحاربون تحتها، وعن الرايات الخضراء أو البيضاء أو السوداء المرتبطة بعقائد أو مذاهب دينية أو خرافات قديمة وعلاقتها بالأزمنة الوثنية : “في العقيدة الإسلامية: الأخضر (لون العقيدة والرسول) في المقام الأول، والسماوي أو الفيروزي (كما هو لون الدين الجديد والمجتمع الإسلامي) في المقام الثاني. هنا يظهر الاستحواذ على القبة السماوية لتغليف الحياة الأرضية بالمساجد، والبيوت، والمدن، مع الاحتفاظ برأي راسخ مفاده أن ما هو غير قابل للتحول إلى شكل أو صورة يصبح لونا أشد سيطرة كروماتيةً كونياً، حتى في تشظي الأرابيسك وفي الرسم الهندسي برُقُعات الزَّلّيج والفسيفساء، ما أن يثبت غياب الصور القدسي الشرقي (تحريم الصُّور). مع الأخذ بالاعتبار أن اللون الأخضر كعلامة على اعتناق الإسلام ليس مقترحاً في الممارسات العملية تعبيراً عن الاحترام والتمجيد. ألوان أخرى تأملية توطدت بحسب لَيْمِها لأجزاء البدن وتباريح الروح فحسب في أثناء الممارسات الروحية والصلاة؛ هنا أيضاً في مجال الألوان أو الخلاصات الصبغية التقليدية حمر ــ سود ــ صفر أو في الصوف أو في خيوط السجاد المطعّمة بسداة سماوية تتوجه النية القدسية واضحة بسجاجيد الصلاة حيث الرسم نفسه “للنافذة” ينفتح على صورٍ وقيمِ تدرّجٍ خضر خالصة صوب ألوان المصير ذاتها التي قيل أنها تنتمي إلى أديان التوحيد. فالدين الإسلامي يستحوذ ضمن هذا التباين على التلوين السماوي للرب اليهودي ــ المسيحي عاكساً القيم وممثِّلا، بكيفية أخرى، وحدته اللاهوتية ــ النبوية الخاصة به، حيث الدين، والحضارة، والسياسة، تتوخى التوافق. مثلما حدث في الديانة المسيحية حين تبنّت هيئة الإكليروس والمجتمع الأسقفي تلك الممارسة الطقسية الخاصة بألوان مميزة وإكليريكية تفرض سلوكا بعينه، موظفة من طرف تركيبة قدسية: الأسود يفرض الاحترام.”.
يدخل التلاعب باللون وتوظيفه ليشكل إحدى تكتيكات الحروب ذات المنفعة في التعريف أو التمويه، فلتوظيف “ألوان التنكر العسكري في الحرب العالمية الأولى منشأ استعماري، إذ ارتدتها أولى قوات الملونين في أواخر القرن التاسع عشر، من المخضوضر إلى الرملي، لكونها ألوان الميليشيات الدنيا، وكل هذا لا يعني نقص اللون بل لكونه لونا نمطيا لملابس الحرب، لون “لحم المدافع” المشكل من رقع مختلفة مُدْرجة في ما بين الأخضر والبني والرمادي، ألوان الأرض حيث يُستطاع الزحف والتمويه.”.

ويتعدي رمز اللون حقل العقائد القديمة التي توارثته منذ القدم حتى يومنا هذا، إلى أبعاده الأخرى الاجتماعية والسياسية والأيدولوجية التي تشكل كرنفالا من الصراع اللوني حولنا عبر كل شحنة دلالية يحملها اللون: “الألوان الوطنية، وألوان الموضة أو التمثيل (السياسي أو غيره)، وألوان التصوير والفن ، وألوان الزهور أو الأخضر. هكذا يُستهلك المتنوِّع في الوحيد حينما يضطر الأبيض والأسود إلى تمثيل الفرح أو الحداد، ومطامح الحياة، وأهداف النجاح المحقَّقة أو الأسود الذي سبق توظيفه خلال القرن الثامن عشر بالأقنعة والتخفي، والذي سينتهي بأن يكون لونا يُحترم بثوب الترمل كما هو بهندام البرجوازية “الشامل”.” 

حقيقة، الاطلاع على هذا الكتاب الفريد من نوعه يشكل فرصة للرسامين أو المشتغلين في حقل الألوان والديكور والسنوغرافيا من العرب أن يدركوا أن وراء كل لون تاريخ وحكاية وأسطورة هي التي تحدد بعده الدرامي داخل كل عمل فني بصري، ومهم أن يطلعوا على أول ترجمة عربية لهذا الكتاب الساحر عن الإيطالية مباشرة، قدم فيها الفنان السنوسي استيته خبرته اللغوية والفنية، بتدقيقه اللامتناهي ونحته لمفردات غاية في قنص المعنى الأقرب للأصل، بأسلوب أعتقد أنه زاد الكتاب سحرا. فرصة لرسامينا كي يعرفوا قصة الألوان المتناثرة على ملابسهم وفوق أرضيات مراسمهم. فلكل لون سيرته الذاتية عبر التاريخ وتجلياته عبر الخرافة، أو الحروب، أو العقائد والأيديولوجيات والأعراق، أو الطبقات الاجتماعية، وبالتأكيد لكل مجتمع ذاكرة لونية تحدد أبعاد الأولون الوجدانية، ولكل فرد علاقة خاصة بالألوان وفضولٌ لمعرفة الكثير من الخرافات اللونية التي أحاطت بحياته، وميزة هذا الكتاب أنه يوفر مفاتيح معرفة هذه الدلالات وتفكيك معادلات اللون المحيطة بطقوسنا أو الظاهرة في تراثنا أو المدفونة عميقا في خرافات عايشناها.

مقالات ذات علاقة

رمضان.. (ليبيا الحب) ولا شيء أبعد.

مفتاح البركي

لماذا هذا التجاهل للموروث الدستوري في ليبيا؟

المشرف العام

عيادي وسنين دائمة

المشرف العام

اترك تعليق