سرد

في العام 61

في العام الواحد والستين كنتُ على ذاك الرصيف أمام محل الدُّميَة الكبيرة التي حدثكم عنها ذاتَ أُمسية تناولتُ فيها موكبَ المليك، شارع رئيسي واسع وجميل على جانبيه بعض الأشجار المتباعدة، نسمة متوسطية باردة وبيدي برتقالة تعذّر عليّ تقشيرها وأنا أنبشُها بأظافري، وجهي مدفونٌ في البرتقالة وأذني مع إيقاع طَرْق نعلٍ حديديٍّ يقترب يميني تَصَاعُدا سَريعا، بلغَ أشدّه وهو يصلني، رفعتُ رأسي فزعا وفضولا، كان عسكريا لمْ ألمَحْ إلا مقدّمة شعره الأشقر وعينيه الزرقاوين وصفعة هواء قوية أحدثها اهتزاز ذراعه تناسبا وسرعته ومشيته العسكرية، التفتُ معه يسارا وعيني على الحذاء الصلب يدقّ الرصيف الإسمنتي، أخذ الإيقاع الذي بدأ يقترب من اليمين إلى التباعد وهو يتجه يسارا، عيني على الحذاء حتى غاب انتبهتُ لحظتها إلى البرتقالة التعيسة أعضّها بأسناني تمتصّ خوفي وأنا أحاولُ مصّها.
لا أعرف لماذا استفزني ذلك الحذاء الواثق وهو يدقّ رصيف الشارع شبه الخالي؟ ولم أجدْ سبباً لشعوري بأنّ صاحبه غريبٌ ودخيل وأنّ هذا الرّصيف لي! كبرتُ وأنا أستثقلُ الرّجلَ الأشقر، لم أجدْ سببا لشعوري فقد كان ذلك في الواحد وستين في الروضة قبل المدرسة، قبل أنْ أعي شيئا، وحتى قبل أشهر من تلك السيارة التي تقف في شارع بيتنا وأمي والجارات يُجردْنَ مَعَاصمهنَّ يتبرعن بِحُليّهن للمقاومة الجزائرية، وحتى قبل أنْ يدثّرني والدي بعباءته في شتاء “الستة وستين” لأسترق حديثه وهو يخبر صديقه عمي “اطبيقة” عن قبضة القواعد الغربية، وقبل أنْ أتابع هزيمة “السبعة وستين” ووالدي يؤكد مغبونا لعمي “اطبيقه” أنّ الطائرات اللي ضربتْ “مصر” طلعتْ من “طبرق”! كانتْ صَدْمة بالنسبة لي.

إذا في “الواحد والستين” مزّقتني عَينٌ زرقاء واحدة دون سبب، فَلَكم أنْ تتصوروا معاناتي الآن والعيون الزرق باتساع البحر والسماء! ولمْ أتخيّل سيأتي يومٌ نَحِسٌ يَرمي فيه ليبي قنابله على شباب ليبي، على بيوت ليبية يسميها هدف عدو! 

بربكم احتاجه… اتركوا لي صَدرَه أبْكي عليه.

مقالات ذات علاقة

مقطع من رواية جايـيرا

سراج الدين الورفلي

رفيعة – من رواية: دكاكين سعيد

حسن أبوقباعة المجبري

ثلاثُ نمْلات تعبرُ كِتابا *

مفتاح العماري

اترك تعليق