من أعمال الفنان خالد قجوم
قصة

نزهة قصيرة

من أعمال الفنان خالد قجوم
من أعمال الفنان خالد قجوم

لست من ذوي الحميمية الدقيقة في المواعيد، ولست من راصدي الوقت، كل الذي أذكره أنني ذات مساء لا أذكر ميعاده في مدينة ريمني1، أظنه صباحاً، كنت أبحث عن أثر لـ فيديريكو فيليني2، ولا أدري إن كانت جوليا بطرس هي التي تدندن في مسامعي أم جانّا نانيني، ربما كانت الأغنية “Bello e impossibile”، لا أدري بالضبط، وكنت أسير بخيلاء مخرجا مجالدا اعتاد أن يكتب سيناريوهاته في دماغه، ويحرك ممثليه الذين لم ير منهم سوى طفل واحد في فيلم يتيم، بعلامات كيفما توافق عقله، فيما مساعدوه يبادلونه ذات الجنون، واقع الحال أن عقلي كان في نصف إغمائة، وكنت أضحك من حين لآخر بسبب أو دون سبب، كان شارع طرابلس في ريمني يدخل في الضباب، وكنت أدخل في المشهد الأول، كان فيدريكو فيليني يقتعد كرسيه في زاويته المعتادة من مقهى عباد الشمس، حين صافحته ابتسم، وسَرت بين أصابعي نمنمات من علم جمال السينما، جالسته طويلاً وتحدثنا، حين وضع النادل كوبين من الكابوتشينو، لم أجادل أنني أميل إلى القهوة بالرغوة فقط، تذكرت أنه كتب في مذكراته أنه يوصي أمه بالكافيه زيادة حليب، الواقع أن الكابوتشينو مع فليني لها مذاقها الخاص، لقد توج هذا المعلم واقعية جديدة بأنماط فيلمية وقفُُ عليه وحده، تذكرت بيت شعر شعبي للحاج امعيقل ترجمته له: “الأجواد ديما ديما، والأجواد صبارة أصحاب عزيمة، والأجواد كيف الخيل في التبريمة، اليا برّمن يمشن على الاجهاد”، فتح فليني يديه وضمهما، البيت الأخير مرعب، قال، ثم سكت لبرهة وأردف: لم ألتق العقاد ولم أر عمر المختار، ناولته عشرة دنانير، تناول من جيبه نظارة أخرى، لا مناص من أن هذا الشيخ مذهل، أجاب، وردها إليّ، طلبت منه أن يتركها للذكرى ويدفع ثمن الكابوتشينو. حين رسمت سيناريو “لاسترادا” كان أنتوني كوين شاباً وسيماً وصعلوكاً، قال فليني، وكنت أقود المجموعة بقصيدة شعر ذات أبيات مدببة الرؤوس، كنت أضع عيني اليمنى على جهاز الرؤية وأتحول إلى صقر، وحين تتناغم حدود الصورة أدفع بالكاميرا إلى مدير التصوير، كنت ألعب وأذكّرهم: الويل لمن لا يدرك قواعد اللعبة، افعلوا ما أريد، وإن حضر الحسن ابن الهيثم، أريد ما أريده فقط، لم أكن أدرك أهدافي، ومن حين لآخر أقطع تذكرة دخول إلى الصالات التي تعرض أفلامي، كنت أذوب في الناس متسللاً أن لا يراني أحد يعرفني، وغالباً ما كنت أبكي. بكيت على جيلسومينا حين دفع بها زامبانو إلى العربة بالقوة في”لاسترادا3”، أنا هكذا أمشي على وجع القصيدة في أفلامي، وضحكت على الدرويش الذي يصرخ من أعلي الشجرة في الأماركورد4 “Voglio una donna، voglio una donna”5، وضحك فليني بصوت مسموع.

هنا بالضبط توقف فليني عن الكلام والضحك، وضع رأسه بين يديه ونظر إليَّ لبرهة، كمن كان في غفلة، تفرس في وجهي، قال: يا غريب من أي المواعيد جئت؟ سرقت وقتي دون أن تعلن عنك!، أجبته إنني لا أدري كم قطعتُ من الكيلومترات، ولا أظن أن المسافات سرقتني، لتوّي تأملت شارع طرابلس بهذه المدينة، حكى لي عقلي من نصف إغفائته أنني سأجدك في عباد الشمس، جئت لأمتهن الفيلم. ضحك بوداعته المعتادة، إن شئت تعلم مدرستي يسعدني ذلك، وهنا سار الحوار إلى حيث أبغي، دونت ما أريد من ملاحظات، كان يعشق الحديث عن جيلسومينا وعن أشياء أخرى في مهنة الفيلم… تحدث أيضاً عن الكثير من ممثليه، وعن روما التي جاءها شاباً يافعاً، حكيت له عن طرابلس، وعن أشياء كثيرة، انسجم معها جداً..

في نهاية الحديث، وقفت لأودعه، طلب مني الجلوس لدقيقة أخرى وقال:

<<اعشق مهاراتك، أكثر من التجوال، صادق الحلاقين وسائقي التاكسي، اجلس إلى الفلاحين ورياس المراكب، غازل القمر، واترك الضغائن، مازح العجائز، ولا تضع حذاءك في وجوه ماسحي الأحذية، بل ارشقها في وجوه لاحسيها، اعمل مسحاً أركيولوجياً لديار النمل، لا تدخل في معركة مع أية نحلة>>…
أجبته: إنني عملت نصف هذا، قال ابحث عن النصف الآخر، لاتضيع وقتك، اسرج خيالك الآن.

ريمني شتاء 2001.

________________________________________________
1- ريمبني مدينة إيطالية تقع على الساحل الأدرياتيكي تعد أحد أهم المراكز السياحبة.
2- فيديريكو فليني مخرج إيطالي ولد في 20 يناير 1920 بمدينة ريميني بإيطاليا، وتوفي في روما، في 31 أكتوبر 1993 بعد إصابته بنوبة قلبية. يعد من أهم مخرجي السينما في تاريخها بأسره.
3- لا سترادا، أو الطريق، فيلم لـ فيليني، 1957، أحد أجمل الأفلام في تاريخ السينما.
4- الأماركورد، من أهم أفلامه عام 1971
5- جملة بالإيطالي بمعنى “أريد امرأة”.

مقالات ذات علاقة

حقل زعفران

علياء الفيتوري

القطة أكلت أولادي

كريمة الفاسي

صوتٌ خفي

عبدالرحمن امنيصير

اترك تعليق