من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
تراث

جن معاجيل

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.

“جن معاجيل ع البكا اتقول ما بكن لا يوم!”

في هذه الغناوة ليس ثمة رابط بين العيون والإبل سوى تلك العجلة، عجلة الإبل إلى حياضها بعد ضمي طويل، وعجلة العيون إلى الأطلال بعد شوق مضنٍ.
عجلة تروي الظمأ، وعجلة تظمي
عجلة الإبل لتُسقى، وعجلة العيون لتَسقي!
وجه الشبه هنا هو شدة الاستعجال، وسرعة الإقبال..
تلك السرعة واللهفة التي شبهها الغناي بـ “وكأنها لم تبكِ من قبل”، وكأنه أراد أن يقول بأن كثرة بكائها السابق كان كافياً ليغنيها عن هذه اللهفة وعن هذا الاستعجال!
والغناي يتعمد هنا أن ياتي بحجة ضعيفة مخالفة للمنطق والمعقول كنوع من الانحياز غير المباشر لعينيه، وكتبرير ساذج للعجلة على البكاء، وكأنه أراد أن يقوي حجة عينيه، وأن يدافع عن حقها في البكاء.. ذلك لأنه يعلم تماماً أن الحجة الضعيفة تقوي الرأي المخالف!. 
وإلا فما المنطق في لوم الإبل على الاستعجال إلى المعطن بحجة أنها شربت من قبل في حياتها كثيراً؟
“اتقول ما بكن ما يوم”
إن ما شربته في حياتك من قبل لا يمنع عنك العطش دائماً!
وإن ما أكلته من قبل في حياتك لا يمنع عنك الجوع دائماً! 
فهل البكاء شيء آخر يختلف عن الشرب والأكل؟
وهل ما بكيته من قبل يغنيك عن البكاء حين تأتي أسبابه، ويحين وقته، وتتوفر مهيجاته؟
لا شك أن ذلك (باطلٌ) أريد به إثبات (حق) العين في البكاء، و(لومٌ) أريد به (إعذار) العين في استعجالها على البكاء، و(استنكارٌ) أريد به قطع أي طريق على لوم اللائمين وعذل العاذلين، و(لقاحٌ) أريد به تقوية (مناعة) العين ضد كل من يُهاجمها أو يلومها ويعاتبها.
إن بكاء العين وهي بعيدة عن الأطلال يختلف عن بكائها عند رؤيتها، وإن الدمع هنا يختلف اختلافاً كلياً عن الدمع هناك؛ حرارةً.. وغزارةً.. ومرارةً!
“جن معاجيل ع البكا”
في الواقع أنهن جئن معاجيل إلى الأطلال، لكن الغناي لم يذكر الأطلال، لأن فهمك كفاية، فالأطلال هنا هي الغائب الأشد حضوراً، والمحذوف الأكثر إثباتاً، والمخفي الأشد بياناً، بل إن ذكره لا يزيد من وضوحه وظهوره، وربما كان ذِكره حشواً زائداً.
ولكن السؤال هنا: لماذا اختار حرف الجر (على) بدلاً من (إلى)، كما في قوله تعالى: ” ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ﴾؟!
هذا هو ما يُعرف في العربية بـ”التضمين”، والمعروف أن (على) تُفيد التفضيل والاختيار، أي أنه يقول بأن عينيه فضلتا واختارتا البكاء، ولهذا استعجلتا عليه!. 
أو أنه يريد تضمين (على) معنى الوقوف، أي أنها سبقته إلى الأطلال لتقف عليها قبله، فالمشهد يؤكد على زمن البكاء، وهو عند رؤية الأطلال من بعيد، فسبقت العين صاحبها إليها، ووقفت عندها قبله، وبكت عليها، في حين أنه هو لم يصل بعدُ إلى مكان الوقوف!
يبقى شيء محير، وهو لماذا اختار الغناي صيغة منتهى الجموع “مفاعيل” مع أنه يتحدث عن عينين اثنتين فقط؟
لا جواب إلا أنه أراد بتكثير الفاعل تكثير الفعل وتضخيمه وإعطائه حجماً يليق بهيبة الحدث، وعِظم الأمر، وفداحة الخطب!.

وختاماً.. فإن الغناي أخبرنا عن كل شيء، وهو يدعي بأنه لا يريد أن يخبرنا..
أخبرنا عن كثرة بكائه من قبل أن يرى الأطلال، وعن بكائه عند رؤيتها، وعن أنه أخلَّ بكل الطقوس والاتيكيت والبروتوكولات المتعارف عليها، بل بدأ في النحيب من بعيد.. من أول طلل لاح له، محملاً عينيه كامل المسؤولية عن هذا الانتهاك لجميع القواعد والأعراف والتقاليد المتفق والمتعارف عليها!.
إلى هنا أتركك تستمع إلى الغناوة لتعلم أنني قصرتُ في حقها.

مقالات ذات علاقة

الأملاح

المشرف العام

الزبدة وبلاد الغوال.. خُرافة ليبية

أسماء بن سعيد

طلة القمر وغيبته

المشرف العام

اترك تعليق