المقالة

مأزق الكلام الجميل

من أعمال التشكيلية مريم عيسى بازينة
من أعمال التشكيلية مريم عيسى بازينة

تقديم لا بد منه

نُشر هذا المقال منذ 10 سنوات .. وقوبل بعاصفة من النقد .. الآن وبعد سنوات عشر ، لا زال النص المظلوم مقموعاً بتسميته الهجينة ، مغترباً عن ذاته بذاته ، مسجوناً في قاعات التكييف الفارهة ( إن وجدت ) ، كل هذه المأساة لأن أصحابه ينسبونه إلى أب ليس أبيه ، وكل هذه الغربة لأن سوق هذه النصوص صار مزدحماً بالردئ ، شحيحاً من المبدعين إلا من رحم ربي . 
ها أنا أنشره الآن ، وذلك لأن لا شئ تغير ، لا غربة النص انتهت ، ولا الأدعياء كفوا ، ولا الماء ظل ماءً في نهاية المطاف .
(( باقيةٌ ها هنا 
تستقبلني كل يوم جدران البيوت 
وواجهات المحلات ودروب ملت ..
خطاي . )) 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( كريمة حسين )

أنا لا أقصد بالتأكيد مشاكسة أحد أو خطب ود البعض من خلال ما أختاره من نماذج .. ولكن لا بد من باب مناسب للولوج في صلب الموضوع .
ولعلى أعنى هنا هذه الوحدة .. هذه الجد ران المصمتة وهذه الدروب التي ملت تماماً من خطواتنا .
هذا مقطع من كلام رائع ينتمي إلى مرحلة الحداثة أو ما بعدها أو قصيدة النثر .. لا يهم .. فالقضية تخص الثلاثة معاً .. والدرب واحد .. والجدران الصامتة هي ذاتها بالنسبة للجميع .
ولعل الآراء لم تختلف من قبل على تحديد جنس أدبي مثلما اختلفت على هذه المراحل .. وهذا طبيعي ومطلوب .. وهو كذلك لا يبعد عن المنطق والمألوف .. فكل ما يتعلق بالإنسان لا يخضع للأحكام المطلقة .. وكل ما يمت بصلة لإحساس البشر لا يمكن هندسته .. 
الحوار هنا هو سيد الأحكام .. هو المنطق الوحيد .
إننا نعثر على أول جدال في التاريخ مدوناً في نص قرآنى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. وفى تاريخ لا يمكن تحديده على وجه الدقة :
 وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الظالمين 
س البقرة .. آية 34 .
الإنسان هنا كان فاتحة الدرس وموضوع الحوار وسبب المعارضة .. ولم يمض وقت على هذه الواقعة إلا وكانت الجريمة الأولى تحدث بعد خلاف مجهول التفاصيل بين ( قابيل وهابيل ) وكأنه مقدر على المخلوق البشرى أن يتميز عن غيره من المخلوقات بروح الجدال والأخذ والرد .. انه حتى لا يفرط فى هذه الميزة أمام حضرة مقدسة يقف بين يديها .. فها هو ( موسى ) نبى الله يتلقى أمر ربه بالذهاب إلى فرعون .. ورغم رهبة الموقف فانه يطلب اصطحاب أخيه ( هارون ) معه .. ويقدم أسبابه ويطرح حجته ويفوز بالقبول :
وأخى هارون هو أفصحُ منى لساناً فارسله معي ردءاً يصدقنى إني أخـــاف أن يكذبـــونِ  
س. القصص .. آية 34 .
الجدالُ إذاً هو المنطق الوحيد .. وهو دربنا الذي لا يمكن أن يمل خطانا مهما ترددت عليه .
(( كبرتُ يا أمى 
وكبرت قمصانى معى 
كلما حفرتُ للطمأنينةِ بئراً 
صار الماءُ .. 
غير َ الماء . )) 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( مفتاح العمارى )

هل يمكن القول بعد كل هذه المسافة الزمنية إن النص الجديد الذي يُكتب بإصرار ومثابرة قد بلغ سن الرشد وان الأوان قد حان ليكتسب استقلالية بات يستحقها عن جدارةٍ لا لبس فيها ؟
في رواية (بر الخيتعور) لإبراهيم الكوني ثمة حديثٍ عن واحةٍ لا اسم لها .. وعن بشرٍ بدون أسماء .. فالكيان عند الكونى يتشكل داخلياً .. الهوية هنا تنبثق من الذات بحيث يُصبح الاسم مجرد ترف خارجي يمكن الاستغناء عنه .. المصيبة في هذه النصوص المتفردة التي نقرأها لهؤلاء المبدعين أنهم يصرون على تسميتها .. وتحديداً بالشعر .. إنهم بذلك يلوون عنق هذا الجنس الأدبي الجديد فيلحقونه قسراً بأبٍ غير شرعي على الإطلاق فيحكمون على هذا المولود المتعدد المواهب بالغربة ويخلقون بأيديهم صحراء شاسعة من الوحشة وعدم القبول بينه وبين المتلقي .
الغريبُ هنا أن الشعر نفسه وعلى مدى مئات السنين من عمره المديد .. وعلى الرغم من بحوره وأوزانه وموسيقاه وإيقاعه وجذوره الضاربة في أعماق الذاكرة العربية .. عجز عن الغوص عميقاً في الغامض المخفي من النفس البشرية مثلما فعلت هذه النصوص الجديدة .. إن هذه النصوص تتفوق على الشعر بمراحل وتصنع ما يعجز عنه مئات الشعراء .. إنها إذن كيان متكامل النضج .. واضح المعالم .. لكن الكارثة تقع حين يصر من يكتبون هذه النصوص الرائعة على إلحاقها قسراً بمملكة الشعر .. إن هذه النصوص الجريئة المبهرة وهى في قمة عطائها تفاجأ بأصحابها يطلبون لها ما يشبه اللجوء السياسي ويصرون على تسميتها شعراً فيفقدونها استقلاليةً باتت جديرةً بها .
(( أشياء كثيرة ..
لم تتغير في غيابك 
فقط ..
ذلك الأصيص على الشرفة 
نهض بأصابعه الخضراء 
متلمساً .. 
رائحة أناملك . )) 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( خليل صويلح )

قلتُ إن هذه النصوص قد وصلت إلى فضاءات عجز عنها الشعر نفسه والأدلة لا تُحصى .. ووصلتُ إلى إصرار أصحابها على تسميتها بالشعر .. والواقع أن المسألة أبعد من ذلك .. إنها تتعلق برؤية جديدة للكون .. للعصر الذي نعيشه .. إن هؤلاء المبدعين يرون الدنيا بعيونهم هم لا بعيون من سبقهم .. هم يعتقدون بإمكانية بعثٍ جديد لمفاهيم جديدة بما يعنيه ذلك من تحطيمٍ لقوالب قديمة .. إن الشعر الحقيقي كما يقول الدكتور ( بولس نويا ) ليس مجرد بيان وفصاحة وبلاغة .. ولكنه أيضاً وكما يقول منطق الأشياء ليس هذه النصوص المتفردة عنه برؤية أعمق وفضاءٍ أوسع .. إنها رؤية مشروعة تستمد شرعيتها من تطور العصر ذاته .. لكن هذا ليس كل شئ .. هناك دائماً مسلمات .. ثوابت تتحدى التغيير لسببٍ منطقي ومفهوم .. وهو أن تغييرها سيؤدى بالقطع إلى تدمير كل ما يستند عليها .. فالوجود هنا مرهون بالثبات .. ثبات هذه القواعد .. فأنت تستطيع بجبروت العلم أن تحول القطار من آلةٍ مزعجة تسير بالبخار إلى أن تصل به إلى أعجوبة حقيقية تعمل بالطاقة الذرية لكنك ستكون ملزماً في كل الأحوال بتسييره على قضبان .. هذا ليس جموداً أو تمسكاً بالتقاليد .. لكنه خضوع شرعي للمنطق .. والمنطق نفسه يقتضي أن نعترف الآن بشرعية استقلال هذه النصوص عن مملكة الشعر رغم معارضة الكثيرين .. والغريب أن من يعارضون يقعون في نفس المحظور .. إنهم يرفضون التغيير هذه المرة ويتمسكون بقالبٍ جاهز .. إنهم وهم يتأهبون لخلق عالم جديد يتهيبون من مجرد الاعتراف بأنهم أبدعوا جنساً أدبياً جديداً يلائم عالمهم المنشود .. ويستمرون على إصرارهم بنسبته إلى غير أبيه .. إنهم يجدون له أباً جاهزاً فيغلقون ملفات القضية ويسمونه شعراً ..
(( لا شئ يستطيع أن يعلو 
مثل إنسان ..
ولا شئ يستطيع أن 
ينحدر ايضاً . )) 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ( …… )

في بداية تناولي لهذا الموضوع أكدتُ على قدسية الحوار وعلى ضرورة خضوع كل ما يتعلق بالإبداع الإنساني لمنطق الأخذ والرد .. وها أنا عندما أختم هذا الموضوع أعود فأؤكد على أن ما أوردته سابقاً مجرد وجهة نظر تخضع للرفض والقبول .. إلا إن رفضنا أو قبولنا لما يُعرض من أفكار يجب أن يستند على أسبابٍ ودوافع ويجب أن يبتعد عن كونه رفضاً لمجرد الرفض أو قبولاً لمجرد القبول .
إن الاعتراف بهوية النص الأدبي الجديد والاتفاق على جنسه المستحدث سيعطيه إطاره الذي يستحقه .. ليس هذا فقط .. بل انه سيبعد عنه آلاف المتسلقين وأنصاف الموهوبين الذين استفادوا من ضبابية انعدام الهوية واستثمروا مأزق التصنيف الخاطئ لهذه النصوص ليملأوا المجلات والصحف بركام هائل من الأدب الرديء .
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل ارتدوا عباءة الشعر الزاهية واستفادوا ـ كأي تاجر بارع ـ من وهج الشعر وألقه .. وصاروا يفرضون حضورهم كشعراء زائفين يسعى لهم المجد وتحيط بهم الشهرة .
هذا بالضبط ما حدث على امتداد الساحة الأدبية العربية .. ولا زال يحدث حتى هذه اللحظة .. وهو ما جعل المسافة تتسع أكثر بين هذه النصوص والمتلقي إلى حدٍ بات فيه الحديث مألوفاً عن ( غربة الشعر ) و ( شعر النخبة ) حديثاً مألوفاً .. وبات المجال مفتوحاً للمقال والقصة ليشغلا حيزاً واسعاً تركه الشعر الذي تخلى عن ريادته .. ليس بفعل تجاوز العصر له بل بتأثير ما حدث من لبس في تصنيف هذه النصوص ونسبتها بالخطأ إلى جنس أدبي لا يمت لها بأدنى صلة .
إن الفرصة متاحة أمام الأدب العربي ليكسب أعمالاً باهرة عميقة الغور .. نجحت وبامتياز في الوصول إلى الوجدان البشرى كما لم يفعل أي جنس أدبي من قبل .. لكن هذه النصوص بالذات ستكون الضحية الكبرى لتصنيف أصحابها الخاطئ لها . انه نصوص حية ومدهشة خارج مملكة الشعر .. مستقلة بذاتها عنه .. وهى في نفس الوقت نصوص ميتة على خشبة مسرح بلا جمهور عندما تدعى انتماءها إلى الشعر .. 
ولكم مطلق الخيار .

مقالات ذات علاقة

صناعة المتعة

جمال الزائدي

التلفزيون الليبى: خمسون عاما

سالم الكبتي

ﺣﻮﺍﺭ ﺑﻼ ﻣﻨﻄﻖ .. ﺛﺮﺛﺮﺓ ﻭﻫﺪﺭ

منى بن هيبة

اترك تعليق