أين ليبيا التي عرفت؟
المقالة

أين ليبيا التي عرفت؟ (18)

محمد نجيب عبدالكافي

رحلاتي عبر ليبيا

الرّحلة التي تلت جاءت قبل أن أهضم ما شاهدت فعرفت بالجبل الغربي. لم تكن اختيارية ولا استضافة بل اجبارية ضرورية أملاها الواجب فكانت الوجهة الجبلَ الشرقي، الجبل الأخضر، ومدينة درنة بالتحديد. مهمة كُلّفت بها لدى وطنيين كانوا نشطاء في جمعية عمر المختار ذات الصّيت والدور النضالي، في سبيل حرية الوطن، بمواقف مشرّفة في العمل من أجل نشر الثقافة والتعليم والمسرح والرياضة، مع نضالها الوطني ونشاطها السياسي المعارض المتمسّك باستقلال ليبيا والتشبث بوحدتها ومقاومة كلّ أشكال الهيمنة والنفوذ الأجنبي. أسّسها جمع من المهاجرين الليبيين بمصر باقتراح من السيد أسعد عرابي بن عمران، إن لم تخنّي الذاكرة، واستشارة وتأييد المناضل مصطفى بن عامر، فظهرت إلى النور عام 1941 ثمّ دخلت الوطن مواصلة نضالها حتى عام 1951، متّخذة من العاصمة الشرقية بني غازي مقرّا لها وما بدرنة سوى فرع نشط كثير الفاعلية. كان من أعضاء مجلس إدارتها شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، وبفرع درنة عبد الله سكتة وإبراهيم الأسطى عمر وعبد الحميد بن حليم وعبد الرازق شقلوف. الغريب في الأمر هو أنّي لم ألتق أيّا منهم خلال الرّحلة لكن أصبح جميعهم من أعزّ أصدقائي، ثمّ عملت تحت إدارة السيد عبد الله سكتة وهو وكيل وزرارة التخطيط، وهو الذي أتى بشركة دوكسيادس العالمية فقامت لوزارة التخطيط بدراسة ومسح شامل لقطاع المواصلات البرية والبحرية والجوية، نُفِّذت بموجبه كل ما عرفته الطرق والمواني والمطارات من بناء وإنشاء وتحسين.

الصورة: وادي درنة من منشورات السيد عبيده يوسف الدرناوي
الصورة: وادي درنة من منشورات السيد عبيده يوسف الدرناوي.

– الطريق

كانت رحلة شاقة في سيارة جيب من بقايا الحرب، على طريق أثرت فيه الدبابات والقواذف الحربية، عبر أرض قاحلة مُغبِرة، بطبيعتها وبفعل أربع سنوات من الجفاف المتواصل، إلى أن استقبلتنا – كنّا ثلاثة – بني غازي الزاهية حيث عُدنا إلى آدميتنا ونظافتنا وبِشْرنا بعد العناء الثقيل. استرحنا يوما وبعض يوم لنواصل المسير أو الركوب غير المريح، إلى أن كانت المفاجأة. جبل وخضرة وماء رقراق كان خاتمة مطاف زاد عن 1300 ك.م. فكان ختامُ الرّحلة مسكا عطرا: زرقة البحر، خضرة السهل والجبل، صفاء السماء، نقاوة الجو، غزارة المياه، بشاشة الوجوه، صدق التِّرحاب والضيافة، مع وفرة العلوم والمعارف. كلُّ هذا تجسّم في مدينة جميلة، شوارعها وشرفاتها مزدانة بالأزهار المختلفة، تذكر الزائر بقرطبة وغيرها من مدن اسبانيا -الأندلس-، مضيافة أخّاذة، أهلها تكاد تلمس فيهم الكرم والثقافة والمشاعر الوطنية والتّدَيُّن الحق، وبه استقبلتني درنة وأهلها. هل أدّيتها حقها بما وصفت؟ أجيب صادقا أني مقصّر في حقها لأن الجود بالسَّليقة والطبيعة وصدق المشاعر، وكلّ ما يصدر عن القلوب، يَقْصُر عن وصفه لسان أو قلم. قضيت حاجتي النضالية بين صباح وظهيرة، فالوطني بالإشارة يفهم، والمكافح المجرّب بكلّ ما في مقدوره يجود. أتممت مهمتي فأردت الاستئذان كي أعود فبدا طلبي كأني أتيت مكروها، فاعتذرت وبقيت. ثلاثة أيام قضيت بحورها* وما زاد عنها الله أعلم.. أطلعني الرفاق أولا، وفي جلسات وجولات وسهرات ستبقى لي متعة روحية وفكرية لا ولن تزول إلا بزوالي.، عمّا قامت به جمعية عمر المختار في الهجرة وعلى أرض الوطن، وهو يشهد الله جدير بأن يُسَجَّل للأجيال والباحثين، وعدّدوا لي أسماء الكثيرين ممّن نشطوا فيها وما حققوا من نتائج – أولها الاستقلال وثانيها الوحدة – ثمّ أطلعوني على نشاطاتها الأدبية والفنية في درنة، فزرت مكتبة من أثرى المكتبات، أرجو أنها لا تزال راسخة يزداد ثراؤها، وحضرت تمرينات على تمثيلية عبد الرحمن الناصر التاريخية – إن صدقت الذاكرة – وتعرّفت على عدد من الشبان بل أطفال موسيقيين عازفين، وطبعا على عدد لا يستهان به من علية القوم، فخلت نفسي خارج عالمنا لأني – أقولها والله شهيد – لمست لمس اليد، إن صحّ التعبير، البساطة والتواضع يُخْفِيان الإخلاص والصدق والتفاني في العمل الوطني الصادق، داخل إطار من الثقافة والعلم وحسن الضيافة والجود. هذه درنة التي عرفت في وطن رضيع.

بالذاكرة المزيد فلي عودة إن طال العمر.

______________________________
* الصورة: وادي درنة من منشورات السيد عبيده يوسف الدرناوي.

مقالات ذات علاقة

جدلية الثقافي والسياسي

محمد الفقيه صالح

الطلاب يستعيدون دورهم المفقود

عمر الكدي

فماذا تمطر سماء طرابلس؟

قيس خالد

اترك تعليق