الشاعر فرج أبوشينة.
النقد

دفقات شعرية

قراءة في ديوان :اهتداءات غزال يركض” للشاعر الراحل فرج أبوشينة

عبر دفقات شعرية مكثفة ، يجيد الشاعر إحكام بنائها ، والتي يتحفنا بها ، بمجموعته الشعرية اهتداءات غزال يركض، نرحل صحبة الشعر بمتن النص المقطر المختزل , في عوالم فسيحة تتفتح أمام هذا القول الشعري الواسع ، لا سيما وأن العصر يفرض نسقه ونمطه المحكوم بالإيقاع السريع في كل شيء ، ما يحتم على الشعر كباقي جزئيات الحياة الأخرى ، مسايرة هذا التسارع ، ومواكبة التغييرات المتلاحقة ، حتى يحافظ على توهجه وسحره ، ويشد القارئ المشتت بين العديد من الاهتمامات ، والمتعجل دائما في ظل وجود منافسة غير متكافئة ، بينه وبين العديد من قنوات التلقي الأخرى والاهتمامات ، الفضائيات – السينما – الإنترنت – الرياضة …. إلخ فتبدو هذه القصائد البرقية ، مناسبة تماما لقارئ اليوم المنوه عنه سابقا , ولأن هذا النوع من القصائد ، على بساطته وقصر مقاطعه ، وأذكر هنا قصيدة من هذا النوع من القصائد استدل بها الناقد خليفة التليسي في شرحه لنظريته الرائدة في النقد ’’ قصيدة البيت الواحد ’’ وهي قصيدة مكونة من كلمتين فقط لشاعر إيطالي تقول هذه القصيدة .. أستضئ باللانهائي … مختزلة الكثير من الرؤى ، وتقول ضمنا كثيرا مما لم يقال وتنتهي كلماتها ويظل المعنى يتسع باتساع رقعة القراء ، على بساطة هذه القصائد فهي لا تتأتى إلا لنخبة من الشعراء ، الذين دأبوا على اجتراح المخالف والاستثنائي .

إصدارات الشاعر فرج أبوشينة
إصدارات الشاعر فرج أبوشينة

إذن هي قصيدة النفس القصير ، قصيدة اللحظة الشاعرية المتوترة المتسارعة المتصاعدة ‘ إلى حين إفراغها كشحنة وأسرها بسجن البياض ، وتقييدها بأصفاد المداد ، هي قصيدة اللحظة المستنفذة المحيطة بانفعال المشاعر ، والتي تشبه إلى حد ما المخاض وما يعقبه من راحة وسكون ، هي القصيدة التي تظهر براعة الشاعر، في احتواء اللحظة الشعرية المنفلتة دائماً ، ومن سمات هذه القصيدة الشكلية ، والتي بها تتضح ملامحها ، الاختصار الشديد والاقتصاد في الكلمات والاختزال والتكثيف ، وتكتسب هذه الومضات جماليتها من تملكها لروح المبادرة والمفاجأة ، وركونها أو انحيازها الكامل لجماليات اللغة والمتن ، أما من ناحية المضمون والمحتوى ، فلهذه الومضات أن تتناول كل ما تقع عليه عين ومشاعر الشاعر، بدءً بالمهمل والمهمش والمركون ، وانتهاءً بأسئلة الوجود المصيرية ، ولها أن تضيء لحظة من لحظات الحياة وتحيط بها, وبمقدورها أن تقتطع برهة زمنية من سياق الحياة كاللقطة الفوتوغرافية أو السينمائية ، وإبرازها بمعزل عن السياق العام وتقديمها مُشرحة ، هي إذن ومضات تختصر الحياة في وقت قصير ، وكما تستطيع الصورة الفوتوغرافية أن تسجن وتحجز لحظة ، تستطيع الومضة أيضاً أن تسجن وتخلد اللحظة بالكلمة ، وإذا اعتبرنا أن الشعر تكثيف عن طريق اللغة فيحق لنا بأن نعتبر أن قصيدة الومضة هي تكثيف ، أو اختزال ما اختزل ، فالشعر ومضة داخل مشاغلنا اليومية، وقصيدة الومضة , ومضة داخل تلك الومضة، وهي حتماً لحظة استغراق وتأمل قصوى ، إذ تدعو هذه القصيدة قارئها إلى التأمل وتفتح له الأبواب على مصراعيها ، للولوج إلى عالمها الرحب ، وقد تكون بمثابة المبادرة ويعتمد باقي الفعل على همة القارئ وسعة خياله ، وهي حقاً دعوة جادة للتكامل ، لاسيما وأن فيها من المتعة الشيء الكثير، القادر على شد المتلقي، تلك المتعة التي من أجلها وجد الشعر قديمه وحديثه ، وقد يتعجب القارئ بعد الفراغ من قراءتها عن غفلته ، عن هذا البناء البسيط في مواده والكبير في معناه ، والذي لم يتفطن إليه من قبل حتى ـ تبناه ـ قاله الشاعر – ، وبقدر ما في هذه القصيدة من تلقائية وعفوية تكون مبتعدة عن الحرفة والصناعة التي وقع فيها الكثير من الشعراء قديماً وحديثاً ، ولا يضاهي هذه القصيدة وينافسها في تأثيرها وفعلها فعل السحر في النفوس ، إلا النكتة التي تختزن هي أيضاً الكثير مما لا يمكن أن يقال علناً وقد اشتهرت قصيدة الومضة باسم الهايكو في اليابان قديماً ، والتي كان يؤلفها الشعراء ، ليعبروا بها عن خلجات أنفسهم تجاه الطبيعة ، وعن كل ما يعترضهم بحياتهم من أفراح وأحزان وانعكاسات الأشياء على صفحة أنفسهم المتسمة بالرهافة ، وفى واقع الأمر أن كل قصيدة طويلة ما هي إلا حزمة من الومضات يضمها موضوع واحد أو هكذا يبدو الأمر، وتقترب هذه القصيدة في توصيفها من النظرية النقدية الرائدة التي أطلقها الناقد الليبي الراحل خليفة التليسي ” قصيدة البيت الواحد ” والتي شرحها في كتابه الذي يحمل نفس الاسم وفي العديد من مقالاته النقدية المطولة ، نافياً عنها انتماءها لما يسمى عند العرب قديماً ببيت القصيد أو بيت المثل أو الحكمة السائرة ، والتي كانت العرب تستدل بها في مختلف مواقف حياتها المتنوعة ، مانحاً إياها أركانها وأسسها التي ترتكز عليها ، فاتحاً بذاك لمناهج النقد الأدبي ، باباً واسعاً للولوج إلى عالم النص الشعري ، ومعبداً للنقاد طريقاً جديداً للسير ، بغية الوصول إلى استكناه الجمال المخبوء ، والنفاذ إلى المقروء ومحاولة استنطاقه ، حيث يعرّف الناقد خليفة التليسي هذه القصيدة بأنها ومضة خاطفة ، لمحة عابرة ، دفقة وجدانية ، لحن هارب ، أغنية قصيرة ، تخلق تعبيرها المكثف المركز الذي يستنفذ اللحظة الشعرية ويحيط بها وما زاد على ذلك فهو من عمل الصناعة والاحتراف ، وتشبهها فرجينيا وولف بأستنارات أعواد الثقاب التي تشتعل على نحو فجائي في الظلام الدامس ، أيضاً يقول عنها نزار قباني إنها خلاصة الخلاصة ، انفعال بحجم الكلمات ، لذلك كان أعظم الشعراء هم أولئك الذين كتبوا بيت شعر واحد ، وماتوا بعده مباشرة ، حديثاً تحلق هذه الومضات في عوالم السوريالية والرمزية ، في كتابات أدونيس وأنسي الحاج والماغوط ، الذي حير النقاد في تجنيس بعض كتاباته ، أما الشكل التقليدي لهذه الجرعات الشعرية المركزة ، فتبرز بكل وضوح في رباعيات عمر الخيام ، وأيضاً رباعيات شاعر العامية المصري صلاح جاهين ، اللذان استطاعا أن يوظفا هذا النوع من القصائد للتعبير بها عن مكنونات أنفسهما ، كل حسب طريقته ، أيضاً استطاع كل منهما أن يُضمن هذه الرسائل البرقية فلسفته ونظرته للحياة ، حيث يقول الشاعر عمر الخيام في إحدى رباعياته :-
رأيت في النوم ذا عقل يقول ألا
لا يجنين الفتى من نومه طرباً
حتام ترقد كالموتى فقم عجلاً .
فسوف تهجع في جوف الثرى حقباً
أيضاً يقول الشاعر صلاح جاهين في رباعية له :-
يا طير يا عالي في السما طز فيك
ما تفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود وللطين تعود
تمص فيه يا حلو .. ويمص فيك
عجبي !!

الشاعر فرج أبوشينة.
الشاعر فرج أبوشينة.

متجنباً شاعرنا التقفيه ، ومقتربا من الشكل الحديث للقصيدة ، كتب هذه الومضات ، بطريقة الشعر المرسل الحر أو النص الشعري المنثور، ومبتعداً بها عن الغموض الكلي طارقاً بها أوجه عدة للحياة ، فأجاد ، ونيابةً عنا قال بعضاً مما نريد قوله ولم نستطع ، ذلك الذي ظننا بأنه سهل لأول وهلة ، ولكنه أمتنع عنا ولم يتأتَ لنا .
ما يحملني على التصدي لهذه القصائد بالقراءة النقدية ” الانطباعية ” حقيقة هو إعجابي الشديد بهذا النوع من القصائد.
بعكس ما تعارف عليه من وجود مقدمة تعريفية بالكاتب والكتاب ، يرحل بنا الشاعر إلى متن النص الشعري مباشرة ، معولاً على قدرة القارئ ، على استشفاف واستنتاج مقدمته الخاصة ، من خلال النصوص .
مبتدئاً لحظته التاريخية بحدث ، حيث يصبح التوقيت هنا ، هو الحدث ذاته ، بدون استخدام وحدات القياس الزمنية المتعارف عليها ، دقيقة ، ساعة ، يوم، شهر، سنة .
ذات قريحة ، ذات نزيف ، ذات مخدة ، ذات مدى ، ذات نافذة ، ذات مُخبر ، ذات إطلاقة ، هكذا يبدأ الشاعر مواقيته الخاصة ، ثم يفجر بعدها مفاجآته أمام قارئه .
يبدي ويظهر الشاعر رغبته الملحة ، منذ القصيدة الأولى في الديوان ، في أن يقاسمه أشعاره أي جائع – قارئ – ولا يكتفي الشاعر بذلك بل نجده يخرج من داره باحثاً عن ذلك الجائع ، الذي يريد إطعامه من خبز أشعاره ، فذلك كنزه وقوته الوحيد ، وهو لا يبخل به عن أي محتاج إليه .
ذات قريحة
فتحت باب داري
علّني أحظى بجائع
أطعمه من خبز أشعاري .

” يحدث أن ” قصيدة قصيرة تتناول ما لم يُتناول ، العادي البسيط المركون بزوايا النسيان والمهمل وتقوله بطريقة تكاد تكون مباشرة ، ولكنها تعبّر بجلاء وشاعرية ، عن ميكانيكية الجسد أمام ما يواجهه من نصب .
يحدث أن
يعتلي التعب
صهوة الجسد
نمتطي
جواد النوم . فيسقط التعب
كفارس مخلوع .
مخاطباً الحرب ، الذات الواعية في شرعه وبعد أن يؤنسنها.
دعينا نلملم أنفاسنا 
ودعي العالم 
برئة شاعر 
يلتقط أنفاسه 
يسترد هدوئه 
أيتها الحرب .
” غنى” مخاطباً فيها الحبيبة الغائبة ، وعوضاً عن أن يقول لها أحبك بطريقة تقليدية ، يقول :-
لي في جيبي 
ما يكفيني 
لم أكن بمفردي 
كان طيفك صديقاً 
يصطحب حضوري 
ويقودني / إلى حيث
لا تدري قدماي .
ونراه هنا متغزلاً بها مستوعباً العالم من منظورها .
حين تكون الرؤية 
بعينيك 
يكون العالم 
أكثر وضوحاً .
واستمراراً لخطابه المفتوح لمعشوقته الغائبة \ الحاضرة يقول الشاعر في ومضة أخرى :-
حين تجيئين 
أرسم/ شمساً مرتبكة 
حين تغيبين/ أرسم 
قمراً منطفئ العينين .
ويتخذ منها وطناً له . 
طيور لا أوطان لها 
حطت متمهلة
على كتفيك .
تشي بنا الكتابة ، تُعرينا تضيء دواخلنا ، وهي إذ تفعل ذلك تفعله في خشوع . 
في بوح لا مثيل له 
تقولنا الكتابة
في خشوع .

متخذاً من النصيحة مطيّة لتبليغ ما يريد وما يصبو إليه الشاعر كتب حكمته التي انفرد به ، بأسلوب رمزي يشف ويلمح ولا يصرح ويوغل في رمزيته وسورياليته أحياناً، تحت عنوان حكمة تنفرد بي ، يكتب الشاعر عدة قصائد متفرقة متوحدة بهدفها ، ويوصي في بدايتها بالجار ويحث على صفاء السريرة وتطهير القلوب من البغض والحقد ، لأن أول المتضررين من البغض والحقد هو الحاقد نفسه حتماً .
حديث عن الموت الأصغر ، عند التحرر المؤقت من أسر الجسد .
وأنت في عرش النوم
لا جسد لك .
هي تذكرة للإنسان القريب جداً من الموت .
دعهما تلهوان عيناك، فعيناك طفلتان 
فلا تمسكهما
عن البكاء. خشية أو تضرعا .
زينة الأشجار , العصافير التي تحط عليها، فلا تجعل قلبك مهجوراً ودع عصافير التوبة تقطنه .
وقلبك شجرة
فدع عصافير التوبة
تقطنه .
ولتستعين بالحق والصبر، تستظل بهما حين تقسو عليك الأيام .
والنهار 
فلتستعين بالأشجار
حين تقسو شموسه .
والمطر رمز الخير عنوان النماء .
فلا تتجنبه وتطهر به
فـ المطر/ الذي لا يبللك
يؤذيك .
وإليك هذه النصيحة أمام النار الغادرة المستيقظة لا تنم واتقِ حشودها .
والنار الهامدة
اتقِ حشودها .
نصيحة أخرى .
والوحل
لن يعلمك بوجوده
حتى تقع فيه

ولنلاحظ حسن توظيف للكلمات حتى تغدو الجملة شبه أحجية ، نافياً عن الإنسان صفة البلادة وعدم الإحساس، فالإنسان شاعر بفطرته ، حتى وإن لم يكتب بيت شعر في حياته ، فالشعر أحياناً يكون سلوكاً .
والشعور
بعدم الشعور
شعور .
هي ليست وجبة ساخنة جاهزة تتناولها على عجل وتمضي ، تلك المقدسة يجب أن تتوقف عندها بروية و تتذوقها وتتأملها وتتأمل بها .
والموسيقى
لا تتناولها واقفاً .
وخذ نصيبك من الدنيا ولا تنسى آخرتك .
فـ المقبرة
لك فيها تراب
فلا تتجاهله .
ولابد في نهاية المطاف من لقاء محتم .
فـ الموت يجيئنا
ونذهب إليه .
ويموت كل ما مر من الزمن كل ما مشيناه وتركناه وراءنا 
فـ المسافات تموت أيضاً .
بقصيدة مسامير ناعمة، نصافح ديمقراطية الحوار، مفتاح المغاليق مذيب ثلوج
الانعزال , بذرة الألفة والتحابب .
هو عبير الأمكنة ، الذي يشدنا
إلى خشب الألفة
بمسامير ناعمة.
الحياة مأساة ، فلا إسراف في الدموع ، فقد تحتاج إلى ما تذرفه اليوم غداً , فربما 
لحزن قادم
لرغبة طارئة
لمآرب أخرى
يجب أن تدخر الدموع .
وعن غير إرادة منه وبتأثير قوي لا مرئية توجهه ومثل شلال أعمى .
يقصد الجسد
أرخبيل النوم .
الولد الاقتحامي ، هو أحد أولئك الذين غاصوا في الظلمة ، لينيروا للآتين من بعدهم دروب الحرية ، وهو يركض ملغماً
كأن شهد الحجر
يمنحه
نشوة الاقتحام .
وأخيرا يُتيقن الشاعر أن .
بالجهل
بعقل تالف
بذاكرة معطوبة
ببيئة عميلة
بحضارة عفنة 
بحضارة المادة التي تهمل الروح
تذبل وردة العالم . 

هذا ما اهتدى إليه غزالنا، الشاعر وهو في حالة ركض وعجلة فماذا لو تريث وتمهل هذا الغزال ؟ .
دعوة إلى الحب ، إلى السلام، إلى الحق ، إلى العدل، إلى كل قيم الخير، دعوة إلى نبذ القسوة‘ هي قصيدة “الوصية”.
لا تدعو عنكبوت الحزن , يظفر بآخر كائنات الفرح
أيها الممعنون في قسوة
كالجلطة الدموية.
الختام ، تساؤل مرير عن ميعاد زوال معاناة الكائنات قاطبة.
متى الكائنات
تنعم بحضورها
بعيداً عن الشباك .
وهي صرخة مدوية في وجه العالم .
إلى متى
يظل العالم
بركة .
مختتماً شاعرنا ومضاته بقول الكاتب ” الصادق النيهوم ” على لسان إحدى شخصيات قصته ” الحيوانات “:
ودعونا الآن نفترق على خير/ قبل أن نجتمع على غيره وليكن / فيما جرى لأهل / الغابة عبرة / لنا فلا أحد منا يقول ما / يجعله يفقد رأسه ولا أحد / منا يسمع ما يجعل رأسه / يفقده . 
وكأن الشاعر يتبرأ من كل ما قاله ، ومما لم يقله ، وكأنه ينظف نفسه من لوثة الشعر، وكأنهُ يندم وقت لا فائدة من الندم.

مقالات ذات علاقة

قراءة في شخصيات “نزيف الحجر” للكاتب إبراهيم الكوني

أمينة هدريز

التّليسي.. والأسئلةُ المبكرة

رامز رمضان النويصري

ذُبابةُ رِحَاب

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق